ينسج الكاتب المصري وليد علاء الدين في روايته الجديدة "الغميضة" (دار"الشروق) مجموعة من الألاعيب الفنية الشيقة، التي تتداخل بعضها مع بعض لتشكل شبكة محكمة الخيوط، لا يفلت منها أحد، سواء كان في داخل العالم السردي الفانتازي، أو في الواقع الخارجي المحيط بالأحداث التفاعلية.
هذه الألاعيب، في تجربة علاء الدين الروائية الثالثة بعد "ابن القبطية" و"كيميا"، تأتي جميعها مستندة إلى مبدأ أساسي، هو أن ميدان دوران الوقائع وحركة الشخوص هو فضاء مفتوح، فالقارئ بدوره بطل ومشارك بالحضور، كجانب من جوانب العمل الذي تتلاشى فيه الحواجز الوهمية بين الحياة كتمثيلية مختلقة والحياة كحقيقة كائنة، وتذوب الفواصل بين الجنون والمنطق.
ومنذ البداية، يمكن الاهتداء إلى بعض مفاتيح هذه الألاعيب المحورية، والانخراط فيها انخراطاً كاملاً، ومع استمرار المتلقي في مصاحبة الراوي العليم عبر صفحات العمل التي تتجاوز المئة تتكشف تباعاً منظومة الألاعيب الأخرى اللانهائية، التي تقود إحداها إلى الأخرى، وصولاً إلى إغلاق الستار الختامي بعد مشهد دال، تتجلى فيه الوجوه عارية، متحللة من ألوانها ومساحيقها وذكريات تنكرها وتواريها.
خطوات الخديعة
يحيل العنوان إلى لعبة "الغميضة" أو "الاستغماية"، حيث يغمض أحد اللاعبين عينيه لبعض الوقت، بينما يختبئ الآخرون، ليهمّ اللاعب الأول بالبحث عنهم. أما لعبة الاختباء في الرواية، فليست بالاستتار وراء جدار أو بالاحتباس في مكان مادي غير متوقع، وإنما يأتي اختفاء البشر خلف أقنعتهم أو وجوههم المستعارة.
وخلف هذه الحجب، هم يمارسون حياة الزيف ببلاهة، أو يتتبعون أحلاماً وهمية لعلها تهدئ قسوة الواقع، أو يغيبون في كوابيس صارمة يدورون فيها حول أنفسهم بغير إرادة، ولربما تصطادهم الأحلام المخادعة بشراكها ثم إذ بها هي الأخرى تتحول إلى كوابيس "أكمل الطفل والطفلة ركضهما يداً بيد في كل مكان بحثاً عن مهرب من هذا الحلم الذي انقلب إلى كابوس".
ومن لعبة العنوان الأولية، يجري الانتقال السريع إلى لعبتي "الإهداء" و"التحذير" من المؤلف، في الصفحتين التاليتين مباشرة، حيث الخديعة الجديدة في عالم لا تكاد توجد فيه مرآة واحدة صادقة، يرى المرء فيها ذاته مستوية بغير اعوجاج "هل يقابل أحدنا أحبابه بالوجه نفسه الذي يقابل به أعداءه؟".
ويأتي الإهداء الموجز ليقول كثيراً من خلال اللهجة التعجبية، وهو إهداء موجه "إلى وجه الإنسان، وهل هناك غيره؟!". أما التحذير، فإنه يقر صراحة بأن هذه ليست رواية، إنما هي مسرحية يشهدها القارئ، ويتضح لاحقاً أنه أحد عناصرها المؤثرين "هذه ليست رواية، إنما هي مسرحية خبأتها في جسد رواية. لقد خدعتك، يمكنك أن تقرأ لتكتشف بنفسك، أو انزع هذه الصفحة، وأهد الكتاب لصديق تمنيت خداعه".
أما التكنيك الذي اتبعته الرواية/ المسرحية في مساراتها التلقائية فهو أيضاً ولوج غير مصطنع من لعبة سحرية إلى أخرى، على مستوى ظاهري يشهد مشاركة طفلة وطفلة في لعبة ما (الغميضة، وشي في وشك، جوز ولا فرد...)، بعد لقائهما في محل اللعب والعرائس والأقنعة الأسطوري، المقسم على هيئة شوارع وساحات انتظار، والمصممة أرففة على هيئة مبان بنوافذ وبلكونات، وكذلك على مستوى ترميزي إسقاطي أعمق.
وهذا المستوى الثاني للتأويل، هو اتخاذ أجواء المرح والألفة والضحك والغناء والرقص والحوار العفوي المتبادل بين الطفلين للتعبير عن رؤية ناضجة رافضة للأبنية الاجتماعية الهشة المتداعية من حولهما، والسلوك البشري الملوث بكثير من الممارسات الحمقاء، التي قادت إلى الفصام والتشرذم والتطرف والرياء والتمسح الشكلي بالأخلاق والقيم الدينية دون تمثلها جوهرياً.
الازدواجية والتعدد
تقترح "الغميضة" من خلال مفارقاتها وصراعاتها الثنائية والجماعية إمكانية التعاطي مع الدنيا باعتبار أنها "مسرح كبير"، بحد مقولة يوسف وهبي، وهذا المسرح قد بلغ مداه الأكبر من العبثية والسوريالية والازدحام والفوضى، إلى درجة أن أحداً لم يعد يعرف الفرق بين البشر والماكينات والدمى والأراجوزات، والعقل الإنساني وذاكرة اللابتوب، والوجه الآدمي وقناع المهرج والبلياتشو، وأصفياء القلب مع الله وشيوخ الفتنة والتكفير والإرهاب.
في هذه المساحات البرزخية، تختلط كذلك الجزيرة التي تقع فيها الأحداث، المسماة "حلم الطفل"، والمناطق الأخرى المجهولة التي تدور فيها تفاصيل الألعاب التي يخوضها الطفلان، انطلاقاً من محل اللعب. وتستحضر الرواية كذلك صفحات من التاريخ، حيث العودة إلى العصر المملوكي أو خطط المقريزي، كما تستدعي حكايات أسطورية وشعبية مثل "ست الحسن" و"الشاطر حسن"، على سبيل المثال.
وعبر هذه الرحلات الضبابية، وغيرها، يتلقى جميع الحاضرين من الأبطال نصيبهم من التعرية واللوم والافتضاح، وتتبدى الطبائع والضمائر السيئة، في مقابل احتفاظ الطفلين المركزيين بنقائهما وفطرتهما السليمة، كبذرة إنسانية تحتاج إلى أرض أكثر خصوبة لتنمو من جديد.
ترفض الرواية كلياً "الماكياج" كفلسفة، وترى أن الاصطباغ أخطر ما اعترى الإنسانية من أمراض، فالبشر الذين يتقنعون والذين يرسمون وجوههم، هم والعدم سواء. مع ذلك، فإن هناك من يرون أحادية الشخصية أمراً مستحيلاً. فالازدواج بل والتعددية من خصال الكائن الآدمي التي لا يمكن التنصل منها بأي درجة تطهر.
وفق هذه المعلومات، التي تصطدم بنقاء الطفلين، وتخلخل مداركهما وتصوراتهما، تبرز الرواية ضمن جملة نماذجها الثرية شخصية "المزدوج" (أبو وشين)، وشخصية "المتعدد"، إلى جانب شخصيات المهرجين، ممن لهم وجوه مرسومة على الحزن، أو على الفرح.
وهذا المزدوج هو رجل يضع قناعاً له وجهان، أما المتعدد فإنه ذلك الذي يدافع عن تعددية وجوهه بقوله: "يا جماعة، من فضلكم، أنتم في مرحلة مهمة من تطوركم الإنساني، عليكم معرفة أننا كما نرفض وجود شخص بوجهين، فإننا لا نقبل كذلك أن يكون إنسان بوجه واحد. هذا أمر ضد الطبيعة. ليس احتيالاً، إنه تعدد، تنوع، ثراء. الوجه الذي تحتفظ به للأزمات مختلف عن الوجه الذي تستحضره في الحفلات. نحن خلقنا بوجوه كثيرة، الأدق بوجه قادر على التعبير عن وجوه كثيرة، تظهر في حالات كثيرة، ليس فقط لتحمينا، إنما أيضاً لتحمي الآخرين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إشكالية النوع
تقترح الرواية، بمنطق الرواي العليم وعلى ألسنة شخصياتها (الأطفال، المهرج، المزدوج، المتعدد، العلماني، السيد "س"، وغيرهم)، كيف يمكن قراءة الوجه الإنساني والتعامل بواسطته كأعقد وسيلة تواصل في الكون، من دون السقوط في التضليل الناجم عن سوء استخدام هذا الوجه، أو تعطيله لصالح استبداله بقناع فاسد يعكس قلباً فاسداً ومشاعر مراوغة.
وفي لعبة "الغميضة" تتعاظم تلك المتاهات، وتتجاسر دوامات الشك، وتطغى مفردات السراب على الرؤية "في الغميضة، حين يضع الجميع الأقنعة، لا يمكن التكهن بطبيعة نظرات العيون، ولا نعود نعرف من يرتدي قناعاً ممن يواجه الحياة بوجه طبيعي".
ولا يخلو العمل أيضاً من النزعة العلمية، بالوقوف على منجزات العصر وتطبيقاته التقنية مثل الكمبيوتر والثورة الاتصالاتية وماكينات صرف النقود وبطاقات الفيزا وغيرها من سمات التقدم والمدنية وتحسين شروط الحياة شكلانياً، في حين يظل الجميع يستشعرون هواجس الخطر الحقيقي جراء الخواء الداخلي العاصف بالإنسانية في خريفها البارد.