Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ناجي بختي يكتب بالإنجليزية حلم الشباب في الهجرة ولو إلى القمر

يواجه الروائي الواقع اللبناني المأزوم سياسيا وإجتماعيا بالسخرية

الروائي ناجي بختي وروايته "بين بيروت والقمر" (دار إنفلاكس- لندن)

صدرت حديثاً الرواية الأولى للشاب اللبناني ناجي بختي باللغة الإنجليزية (يحمل دكتوراه في الأدب المقارن، جامعة لانكستر) بعنوان "بين بيروت والقمر" ((Between Beirut and the moon, Influx Press, 2020. ولا يخفى على مَن يقرأ هذه الرواية أنها رواية المجتمع اللبناني المعاصر بامتياز، وذلك من حيث فضاؤها السردي وشخصياتها وموضوعاتها وأسلوبها الساخر الطريف، المطعم بحس فكاهة لبنانية تدور عموماً حول موضوعات الطوائف والأسماء والعادات والتقاليد والكليشهات اللبنانية، وكل ما يحرك المجتمع اللبناني من أزمات وقضايا شائكة وأحكام مسبقة.

ومَن يظن أن شاباً في بداية ثلاثينياته غير قادر على الكتابة بغزارة وثقة وزخم فهو مخطئ تماماً، فقد جمع بختي بين موضوعات متفرقة متنوعة تثير اهتمام القارئ وفضوله وتحمله على قراءة ما يربو على الثلاثمئة صفحة بنهم وقبول. يتوقف بختي عند قضايا الطفولة فالمراهقة والشباب، قضايا الدراسة والروابط العائلية والمجتمع اللبناني، قضايا الحب والأحزاب والصداقة، وذلك في إطار عام من تناحر الأديان وحروب لا تنتهي وصراعات يومية يعاني منها لبنان المعاصر وشبابه.

 وريث الأزمة اللبنانية

يختار ناجي بختي أن يكون راويه وبطله والمتحدث بضمير المتكلم "أنا" خلال السرد كله: آدم نجار. وليس اختيار اسم "آدم" اختياراً بريئاً ساذجاً، فمنذ البداية يحول بختي بطله آدم إلى تجسيد للشاب اللبناني المحايد العابر للطوائف والذي يراقب محيطه اليومي وينقله لقارئه بصراعاته الطائفية والسياسية والحزبية المستشرية منذ ثلاثين سنة.

وعلى غرار منحى من مناحي حياة بختي، ولد آدم لوالد صحافي لبناني مسلم يكتب في جريدة "النهار" اللبنانية اليومية، ووالدة مسيحية هربت مع حبيبها إلى قبرص لتتزوجه هناك مدنيا بعيداً من عائلتها ومجتمعها ووالدها على وجه التحديد أي جد آدم.

يتحول آدم إلى وريث لبنان الحديث وصورة رمزية عن شبابه. إن آدم هو ابن لبنان الكتابة والثقافة والطباعة، ابن لبنان زواج الرجل المسلم بالمرأة المسيحية، ابن لبنان الحلم الأبدي بالهجرة والرحيل "إلى القمر"، فالهجرة للأسف، كانت وما زالت، حلم الشباب اللبناني ولعنة واقعة على الأجيال كلها، وبخاصة اليوم في ظل لبنانٍ مهزومٍ اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً. ويقول والد آدم في أحد مقالاته التي يكتبها في الجريدة: "ألعن هذا البلد الذي لا ينفك يودع أبناءنا والابتسامة مرسومة على وجهه فيما هو يخبرهم بألا يعودوا أبداً. ألعن هذا البلد الذي وضع أبناءنا أمام احتمالين لا ثالث لهما: الموت أو الهجرة، وأجبرهم على الاختيار بينهما. ألعن هذا البلد الذي يجبر الأهل على إرسال أبنائهم إلى الفضاء الخارجي، أو أسوأ إلى أوروبا، فيما هو يلوح لهم من بعيد". (ص 45)

وحلم آدم مميز، فهو لا يحلم بالهجرة إنما بأن يرحل إلى القمر. والقمر بالنسبة إلى آدم هو فعلياً الابتعاد عن كتب والده التي تملأ البيت والسيارة والعالم، هو الابتعاد عن أصوات القصف والرصاص والزجاج المتكسر الذي يجبره مع عائلته الصغيرة على الاختباء في حمام شقتهم. الحلم بالرحيل إلى القمر هو حقيقةً الحلم بالابتعاد عن جثة الجار التي وجدوها في غرفة جلوسه، الابتعاد عن الزميل محمد من المدرسة الذي يسأل التلامذة عن دينهم في الملعب، فإن كانوا من المسيحيين ضربهم وإن كانوا من المسلمين ابتعد عنهم. قصة آدم والقمر، ليست رغبة هادئة بالصعود فعلاً إلى القمر، هي مرآة لرغبة كل شاب لبناني اليوم تعب من الحروب والقتال والغضب ووجد نفسه يبحث عن أبعد نقطة في هذا العالم ليرحل إليها، أبعد نقطة في هذا العالم عن بيروت الألم.

وعلى الرغم من رغبته العارمة بالرحيل، يظهر تأثر آدم بوالديه وتعلقه بهما، وهو تعلق زرعه فيه الكاتب ناجي بختي بشكل إرادي هو الذي أهدى الرواية إلى أمه وأبيه. ومن الطبيعي أن يتعلق آدم بوالديه، فوالده رجل مميز، رجل فكر وكتابة وقلم، رجل يحلف باسم "يسوع محمد المسيح" ويعلم ابنه أن يدافع عن الحق والضعفاء والصواب مهما اشتدت الصعاب. والد آدم صورة روائية عن الأب اللبناني المتماسك المتفاني الذي يحمي عائلته ويحرص عليها، لكنه أيضاً ينصح ابنه بالرحيل عندما يشعر بأن الأمور باتت متأزمة بشكل لا تُحمد عُقباه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مواجهة الواقع بالسخرية

وبمواجهة كل ما يحيط به من آلام وحروب وضغوطات اجتماعية ودينية واقتصادية، بمواجهة صديقه باسل الدرزي الذي ينتمي إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي، ووالده المنعزل عن الدنيا والقابع داخل كتبه وقيمه وسخريته الباردة، يجد آدم نفسه وحيداً ويجد أن القمر هو المفر والملاذ.

وما يتميز به أسلوب بختي هو قدرته على تقديم الواقع المؤلم والصادم ضمن فضاء روائي فكاهي ظريف. فنظراً إلى أن آدم يروي أمور حياته بلسانه الفتي، فإن الأمور تبدو مضحكة في مواضع كثيرة، لكن عنصر الكوميديا السوداء هذا لا يريد فعلياً أن يخفي مأساة الواقع إنما فقط أن يخفف من وقعها السردي. وتكمن حنكة بختي الروائية في أنه تمكن من توظيف حس فكاهته اللبناني الأصيل في نصه، فبختي ومعه راويه آدم يستعملان النكات والفكاهة ليدافعا عن نفسيهما عندما تشتد الصعاب أمامهما. فبمواجهة مجتمع تقليدي متزعزع ركيك، مجتمع يتناحر أهله حول شؤون السياسة والأحزاب والاقتصاد ووجهات النظر وكل شيء آخر، يعتمد آدم السرد الطريف والخفيف، وقد تكون الخفة في وصف آدم لمدرسته وعائلته وأصدقائه أكثر ما يجذب القارئ إلى السرد على الرغم من الهشاشة التي منحتها أحياناً للنص.

ولا يُخفي بختي في نصه توجهه إلى قارئ إنجليزي أو على الأقل أنغلوفوني، وذلك عبر تفسيره في مواضع كثيرة لاستعمالات لغوية تنتمي إلى اللهجة اللبنانية المحكية. وفي مقابلة أُجريت معه، يوضح بختي هذا الأمر ولا يخفيه، فهو يكتب شباب لبنان، من لبنان، بلهجة لبنانية، وعقلية لبنانية. يكتب بختي ليعرف أهل اللغة الإنجليزية إلى واقع لبنان اليوم ما بعد حرب 1975-1990.

مواجهة الواقع بالكتابة

"أكتب لأن الصوت يُقاس بوحدات القياس، بينما يُقاس الحبر بعشرات السنوات. أكتب لأن شوقي يدفعني إلى ذلك. [...] أكتب لأنني لا أجيد الرسم ولا الغناء ولا النحت ولا الحياكة ولا اللكم ولا العزف ولا تقطيع البندورة ولا تقشير البطاطا ولا التحليق إلى القمر. أكتب لأنني إن توقفتُ عن الكتابة لن تشرق الشمس مجدداً ولن تتنفس الحيوانات وستتوقف الأرض عن دورانها..." (ص114).

منذ بداية سرده يؤكد بطل بختي أنه عندما يكبر سيكون رائد فضاء، لكن جميع المحيطين به يسخرون منه ويؤكدون له أن لا رجل عربياً يمكن أن يصبح رائد فضاء وأن لا رجل عربياً يمكن أن يصل إلى القمر. ومع مرور السنوات يجد آدم نفسه واقعاً تحت نير قسوة هذا الواقع: حلمه مستحيل، ففعلاً لم يصل رجل عربي واحد إلى القمر. عندها يجد حلاً آخر. يجد آدم حلاً جديداً بين بيروت والقمر وهو الكتابة. فبين بيروت والقمر كلمات، محاولات للهرب، محاولات للنجاة. بين بيروت والقمر شباب لبناني عاجز عن البقاء وعاجز عن بلوغ القمر ليبقى معلقاً هناك، في بقعة ضبابية، بقعة "بين بيروت والقمر".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة