لم يعد المكان– كما كان في الروايات الكلاسيكية– مجرد خلفية للأحداث أو إطاراً محايداً يحوي وقائعها؛ بل أصبح– مع الرواية الحديثة– عنصراً فاعلاً مؤثراً وحاملاً للعديد من الدلالات. هذا ما نلاحظه في رواية "المايسترو" (دار العين- القاهرة 2020) للروائي المصري سعد القرش الذي اختار قارباً صغيراً ليكون مكاناً لأحداثها التي تطرح كثيراً من القضايا الحيوية. وكما أن القارب مكان مغلق فهو– أيضاً– مكان متحرك، وهذه حيلة للجمع بين شخصيات تختلف في جنسياتها وعقائدها، وهو– أي هذا القارب– يتوازى مع المقهى الذي لجأ إليه نجيب محفوظ في "الكرنك"، والفندق في "ميرامار"، وغيرها من الأماكن المغلقة أو المفتوحة.
يضم هذا القارب أربع شخصيات: مصطفى المحامي المصري المهاجر إلى هذا البلد الخليجي الذي لم يرغب السارد– بضمير الغائب– في تحديده إيحاءً بالعمومية. هذا المحامي المصري الساعي إلى إقرار العدل والدفاع عن المظلومين، يرفض– دائماً– أن يكون "محامي الشيطان" في تبني قضايا يعلم– يقيناً– إدانة أصحابها. والشخصية الثانية هي "أنيل" الهندي الذي ولد في هذا البلد الخليجي ولا يعرف له وطناً غيره، و"تسو" البوذي المنتمي إلى قبائل التبت في آسيا الوسطى- الخاضعة لسيطرة الصين- وأخيراً "نواف" وهو الوحيد ابن البلد الخليجي، لكنه منقوص الهوية حيث ينتمي إلى فئة "البدون".
وهناك شخصيات يتم استحضارها داخل السرد مثل "لورا" الأستاذة الجامعية الأميركية المطلقة التي تتواصل– افتراضياً– مع مصطفى ثم يلتقيان في مصر ويتزوجان. وهي لا تخفي انبهارها بالحضارة المصرية حين تكتب له، إن "لها طابعاً روحياً شديد الخصوصية ولا تدانيها في ذلك حضارة أخرى"، فهيئة التماثيل تعكس "خشوعاً ومناجاة وتبصراً لعمق الإنسان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قناع للكاتب
يبدو أن "لورا" أقرب إلى أن تكون قناعاً للكاتب نفسه الذي لا يخفي ولعه بالحضارة المصرية، كما يظهر في ثلاثيته الروائية "أول النهار"، و"ليل أوزير"، و"وشم وحيد". كما أن القارب يذكرنا بقارب الإله المصري "رع" تماماً، كما يستدعي اسم مصطفى اسم بطل "النبي" لجبران، وبطل "موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح. فنحن بالفعل أمام هجرة افتراضية للشمال سوف تنتهي– على غير المعتاد– بالاقتران الدائم، فلم يعد هناك ذلك الثأر القديم بين الجنوب والشمال بعد أن جعلت ثورة التواصل الافتراضي العالم قرية واحدة.
ورغم ما يتمتع به هذا البلد الخليجي من ثراء، فإن هذه الشخصيات تشعر بالاغتراب داخله، فـ"تسو" ظل على حنينه إلى التبت ويسميها "الأرض المقدسة"، أو "أرض الميعاد"، ويحلم بالرجوع إليها، و"أنيل" الهندي يغبطه على ذلك؛ لأنه لا يعرف له وطناً آخر، و"نواف" يظل على معاناته بسبب نقصان الهوية، و"مصطفى" يتعامل مع إقامته في البلد نفسه على أنها مؤقتة، فهو "مصري متأمرك"، يقول "من كان يظن قبل ثلاثمئة سنة أن رعاة البقر سيقودون العالم وتصبح بلادهم أرض الأحلام، الفاكهة المحرمة، يلعنها الجميع ويشتهونها".
ويعقد الكاتب مفارقة بين أميركا التي "لا تتخلى عمن يحملون جواز سفرها حتى لو لم يبادلوها حباً بحب، فهي تلتزم بمد مظلة الرعاية إليهم أينما يكونون"، وهذا الإحساس بالاغتراب الذي يستشعره الجميع. يقول السارد الخارجي العليم عن "أنيل": "ليس لأنيل في هذه البلاد صديق إلا رجل من التبت اسمه تسو ينحدر من هضبة لم يرها، ولكنه لا يتعلق إلا ببلده ولا يبدأ كلاماً مع أنيل أو ينهيه إلا بالتأكيد على اقتراب العودة إلى التبت".
توالد الحكايات
والملاحظ على هذا الشاهد هو توالي أساليب القصر المعتمدة على النفي والاستثناء، مما يؤكد معنى الاغتراب الذي أشرت إليه؛ ولأننا أمام عقائد مختلفة فمن الطبيعي أن نجد كثيراً من القضايا الاعتقادية، ومنها قضية التناسخ؛ يقول تسو لأنيل: "سوف تعلم وترى حيواتي السابقة نسخاً تثبت لك أن هذه الروح؛ روحي، سبق لها أن حلت في أجساد". ومنها تقطيع الجثث وإطعامها الطير طبقاً لعقيدة البوذيين، وحرق الهنود للجثث. ويرى "نواف" أن هذا أكثر تكريماً للموتى. ويرى مصطفى:" إننا قلما نتطرق إلى الأديان والشرائع وإذا حدث للعقائد قداسة لا تناقش العقائد ولا تخضع إلى التجربة والعقل".
والحقيقة أننا أمام بنية روائية تقوم على توالد الحكايات وقريبة من "ألف ليلة وليلة " في وجود القصة الإطار التي تحوي حكايات فرعية كثيرة، منها ما يحكيه عن أسطورة استعجال "يونيا" لما أرادت للجنس البشري سرعة إعمار الأرض، وعجزها– بسبب سكرها– عن تمييز أعضاء الرجال من أعضاء النساء. وكذلك سطو الإغريق على أسرار الحضارة المصرية أثناء غزو الإسكندر لها وكان في صحبته أستاذه أرسطو الذي نهب علوم الكهنة وفلسفاتهم. وتعتمد الرواية– كذلك– على تقنية التضمين للحكايات التاريخية، مثل ما أورده الكاتب عن عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص وعبد الملك بن مروان. ومن ذلك ما جاء في كتاب "الحيوان" للجاحظ، عن الدلال؛ ذلك الموسيقي المسكين حين أرسل ابن عبد الملك بن مروان الذي يحكم العالم الإسلامي من دمشق إلى والي المدينة المنورة كتاباً، جاء فيه "أحص من قبلك من المخنثين"، فقرأها الوالي "أخص" فأمر بإخصائهم، ومنهم الدلال الذي كان من أمهر المغنين.
وإذا كان سعد القرش قد حدد المكان بقارب صغير، فقد حدد الزمان كذلك حين جعله من غروب الشمس إلى منتصف الليل، لكن ذلك لم يمنع اتساع السرد واشتماله على العديد من الحكايات والقضايا على نحو ما ذكرنا.