Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل تجني القارة العجوز الحصاد المر لاحتضان رموز الجماعات المتطرفة؟

"تيارات متشددة" تتغلغل في المجتمعات الأوروبية بعد عقود من استضافة حكوماتهم ودعمهم

تضغط "العمليات الإرهابية" المتكررة داخل المجتمعات الغربية على حكومات تلك الدول أمام تصاعد تيارات اليمين المتطرف (أ ف ب)

حين وقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أوائل الشهر الحالي أمام عدد من مسؤوليه في أحد مباني حي "ليه موروه" بضواحي العاصمة باريس، متحدثاً نحو ساعة كاملة عن خطة عمله ضد ما سمّاه "النزعة الإسلامية المتطرفة"، جاءت كلمات رئيس أحد أكبر الدول الأوروبية التي تضم جالية مسلمة، محملة بكثير من دلالات ما وصلت إليه العلاقة بين أوروبا و"متطرفي الإسلام السياسي"، معيدة بين طياتها الجدل حول تعاطي الحكومات الغربية مع ذلك التيار طوال عقود مضت، بقدر ما أثارته من موجة انتقادات عابرة للحدود.

فكلمات الرئيس الساعي لولاية رئاسية ثانية في 2022، التي كانت منتظرة بترقب شديد وأرجئت مراراً، جاءت في سياقات وصفها مراقبون بأنها "ضاغطة"، بعد الاعتداء الذي نفذه شاب باكستاني قبل ذلك التوقيت بأسبوع في باريس، والمحاكمة الجارية في قضية الهجوم على أسبوعية "شارلي إيبدو" الساخرة في يناير (كانون الثاني) 2015، حين أقدم "متطرفون إسلاميون" على قتل عدد من هيئة تحرير الصحيفة إثر نشرها رسوماً كاريكاتورية مسيئة للنبي محمد، كما أنها تزامنت كذلك مع خطوات يقوم بها مسؤولوه لصياغة مشروع قانون ضد "أشكال الانعزالية" المتوقع أن تتم إحالته على البرلمان الفرنسي أوائل العام المقبل.

ومن بين المرادفات التي استخدمها ماكرون حديثه عن ضرورة تصدي بلاده لما سماه "النزعة الإسلامية الراديكالية" الساعية إلى "إقامة نظام مواز" و"إنكار الجمهورية"، قائلاً، إن أقلية من مسلمي فرنسا الذين يقدر عددهم بنحو 6 ملايين نسمة، يواجهون خطر تشكيل "مجتمع مضاد"، معتبراً أن الإسلام "ديانة تعيش اليوم أزمة في كل مكان بالعالم" بسبب تجاذب تيارات داخلها، وهو ما "أقام الدنيا ولم يقعدها"، وفق توصيف صحيفة "لوموند" الفرنسية.

وبحسب مراقبين، أحيا حديث ماكرون عن "مواجهة النزعة الإسلامية المتطرفة" الحديث عن عقود من الشد والجذب في العلاقة بين الحكومات الغربية ورموز تيارات الإسلام السياسي، التي وإن باتت "العمليات الإرهابية" المتكررة التي شهدها الشارع المدني الغربي طوال السنوات الماضية، تمثل حركة ضغط "شرسة" على تلك الحكومات، إلا أنها أعادت في الاتجاه المقابل تاريخاً طويلاً من التعاون بين بعض الحكومات الأوروبية، خصوصاً في باريس ولندن وبرلين، ورموز تلك الجماعات تحت شعارات "مناصرة المستضعفين وحمايتهم ودعمهم مادياً وإعلامياً" حيناً، واستخدامهم ضد مجتمعاتهم الأصلية حيناً آخر.

لهذا كان من المهم تقصي "العلاقة الشائكة والمعقدة" بين الحكومات الغربية وتيارات الإسلام السياسي، وكيفية تغلغل الأخيرة داخل المجتمعات الأوروبية وتأثيرها في السياسات الداخلية والخارجية لتلك البلدان، فضلاً عن محطات الشد والجذب بين الطرفين والتحولات التي أحدثتها على صورة الإسلام في الغرب، وصولاً إلى ما إذا كانت القارة العجوز باتت على موعد مع حصاد الآثار السلبية لاحتضانها رموزاً من الجماعات المتطرفة.

من هنا بدأت الحكاية

"بدأت موجات هجرة المسلمين إلى الدول الأوروبية في مرحلة ما بعد الاستعمار، إذ قدموا كأيدٍ عاملة مهاجرة، وظل الترحيب بالمسلمين تحت هذه الصفة هو الانطباع السائد داخل المجتمعات الغربية حتى سبعينيات القرن الماضي، حين التزمت دول مثل بريطانيا وفرنسا ببعض الممارسات الأخلاقية تجاه المهاجرين من مستعمراتها السابقة، لكن هذا الالتزام سرعان ما بدأ يتضاءل بفعل الوضع الاقتصادي الصعب في تلك الدول، ما ولّد حال قلق اجتماعي تجاه العمالة الإسلامية، ودفع بدول أوروبية إلى سن قوانين تحد من تدفق المهاجرين، فضلاً عن تقديم حوافز ومكافآت لأولئك الذي يبدون استعداداً للعودة إلى بلادهم كما فعلت ألمانيا وفرنسا، إلا أن هذه المحاولات لم تنجح، بل تم لم شمل أسر المهاجرين، وازدادت أعدادهم أضعاف ما كانت عليه". هكذا تقول الباحثة في شؤون التفاهم الإسلامي المسيحي في جامعة جورج تاون بواشنطن شيرين هنتر، في كتابها "الإسلام: الدين الثاني في أوروبا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تضيف، "بدأ الإسلام في أوروبا يشكل ظاهرة، لا سيما من قبل المسلمين الذين فكّر عدد منهم بالبحث عن جذوره الإسلامية، أو البحث عن إطار مرجعي لهويته، وسرعان ما تشكلت تكتلات واضحة للمسلمين في أوروبا من خلال جمعيات ومؤسسات إسلامية مختلفة التوجهات، منها ما شجع التعايش، ومنها ما دعم الثقافة الإسلامية كموروث تراثي داخل المجتمعات المضيفة، وكان لافتاً أن لبعض تلك المؤسسات التي اعتنت بما يسمى الإسلام السياسي أثراً مختلفاً".

وتدريجياً، وبحسب دراسة حديثة للمركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، "بدأت تظهر الطقوس الدينية الخاصة إلى العلن، إضافة إلى الرغبة بالتميز من خلال المظهر، كارتداء الحجاب عند المرأة وإطلاق اللحى عند الرجال، وحينها ظهرت مفاهيم تهدد قيم التعايش العلمانية في الغرب، بعد الخروج عن التجانس القائم على عدم التمييز على الهوية أو العرق أو الدين".

في هذه الأثناء، ووفق تقديرات المركز الدولي لدراسات التطرف في بريطانيا، فإن مؤسسات الإسلام السياسي الساعية لخلق مجتمعات وكيانات موازية في أوروبا، ظهرت بعدما انتقل عدد من أتباع حسن البنا مؤسس "جماعة الإخوان المسلمين" عام 1928، في خمسينيات القرن الماضي، بعد اصطدامهم مع جمال عبدالناصر إبان ثورة يوليو (تموز) 1952. وأوضحت أنه "انتشر عدد كبير من إسلاميي الدول العربية، بينهم أتباع حسن البنا وجماعة الإخوان في دول أوروبية عدة، بعدما اصطدموا مع الدولة المصرية، ومن أبرز هؤلاء  السكرتير السابق الخاص للبنا، سعيد رمضان الذي يعد واحداً من الرعيل الأول من قيادات الإخوان وزوج ابنة حسن البنا والسكرتير الشخصي له، حيث انتقل إلى ألمانيا في الخمسينيات ليدشن "مؤسسة المجتمع الإسلامي" التي ترأسها حتى عام 1968". وتابعت، "جاء توسع جماعة الإخوان في أوروبا مبكراً، لا سيما في ألمانيا وبريطانيا، ففي مدينة ليشستر البريطانية تم تأسيس مكتب رئيس للجماعة مطلع السبعينيات حمل اسم المجلس الإسلامي البريطاني الذي سرعان ما امتد في بريطانيا باسطاً نفوذه على ما كان موجود قبلاً من منظمات إسلامية". موضحاً "وهو ما لقي دعماً وترحيباً من السلطات البريطانية في حينه".

 

 

وفي السياق ذاته، ذكرت دراسة نشرها المركز الأميركي للديمقراطية عام 2014، جاء فيها أنه في عام 1972 تم تأسيس "الندوة العالمية للشباب الإسلامي" بدعم مباشر من عناصر إخوانية، وهي المجموعة التي سعت "إلى تقديم نشاطات تحت مظلتها للشباب المسلمين في أوروبا"، وامتد نشاطها في أوروبا ووصل خلال عقد من الزمان إلى دعم "العمل المتطرف العالمي" بأفغانستان. واشارت إلى أن "وجود مئات المساجد في بريطانيا، وتفعيل فكرة التبرعات للإسلام والمسلمين من خلال جمعيات ومؤسسات هدفت إلى خلق تكتلات إسلامية ترأسها مسلمون عرب، وعملت في بعض الأحيان على دعم ما يمكن تسميته الحركات الإسلامية المسلحة".

وفي بحثه المعنون بـ"الإسلام في المملكة المتحدة"، قال عالم الاجتماع البريطاني جون ريكس، "شهدت فترة تسعينيات القرن الماضي وجود أجنحة داخل المجتمعات الإسلامية في أوروبا تحمل نزعات متطرفة، إذ تأثر بعضها بما يحصل في الأقطار العربية والإسلامية". مضيفاً، "تعاونت هذه الأجنحة مع حركات وتيارات مثل (الإخوان المسلمين)، و(جماعة المهاجرين)، و(جماعة الشباب)، و(الدعوة والتبليغ)، و(حزب التحرير)، وعدد آخر من الجماعات المتطرفة".

ومع بداية الألفية الثالثة، وحدوث هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على الولايات المتحدة الأميركية، دخل الإسلام السياسي في أوروبا مرحلة جديدة من المواجهة وإعادة التكيف، وتصاعد مع صوت التطرف المزيد من "الانعزالية والتجنيد" على حساب الاعتدال والاندماج، في مواجهة زيادة موجة "الإسلاموفوبيا" التي روجت لها كثير من الكتابات والمؤلفات. ويقول الباحث الفرنسي بيير كونيسا، "بات التيار السلفي يمثل العدو الجديد للحكومات الغربية نتيجة لصلاته الفكرية بتنظيم القاعدة والجماعات المتشددة في أفريقيا".

في هذه الأثناء، وفيما حاول "تنظيم الإخوان" ذو الانتشار الأكبر والنفوذ الأوسع في المجتمعات الأوروبية، تقديم نفسه على أنه الأكثر اعتدالاً وقابلية للقيم الديمقراطية والأوروبية، عبر ممارسة "خطاب مزدوج يختلف في مفرداته عما يقدمه لأنصاره وأتباعه وما يظهره في العلن"، وفق الباحث في شؤون الحركات الإسلامية أحمد بان.

وتركزت إعادة الصياغة الغربية للتعاطي مع الإسلام السياسي في أوروبا على الجماعات السلفية، قبل أن يدرك بعض الأوروبيين أن الأمر لا يختلف كثيراً بين تيارات الإسلام السياسي التي تستند في أغلبها إلى أدبيات واحدة، وفق تصريحات أحمد بان، مشيراً إلى تصاعد وتيرة تحول الآلاف من مسلمي أوروبا التابعين لذات التوجه في أعقاب الأحداث الاحتجاجية التي شهدتها المنطقة العربية منذ عام 2011، إلى العمل "المتطرف" المباشر وغير المباشر.

ووفق تصريحات سابقة لمفوضية العدالة في الاتحاد الأوروبي فيرا جوريفا، فقد قُدرت أعداد المقاتلين الإسلاميين بصفوف التنظيمات الإرهابية في سوريا عام 2016 بأكثر من 6 آلاف مقاتل، بالتوازي مع تقديرات أخرى أشارت إلى أن ما يتراوح بين 5 و6 آلاف أوروبي توجهوا إلى سوريا للقتال في صفوف التنظيمات الإرهابية.

وذكرت جورويفا، وفق ما نقلته عنها جريدة "لوفيغارو" الفرنسية، أن هناك صعوبة في اقتفاء آثار الأوروبيين داخل سوريا ومناطق النزاع في الشرق الأوسط، وأن التقديرات غير الرسمية تشير إلى أن العدد الحقيقي يتجاوز الأرقام المعلنة، معتبرة أن التعاطي حينها مع منع السفر إلى سوريا للانضمام "للمطرفين" أو مع ملف العائدين منها "جاء متأخراً".

وإجمالاً، ذكر مؤشر الفتوى العالم في مارس (آذار) 2019 أن نحو 75 في المئة من فتاوى "جماعة الإخوان" اصطدمت كثيراً بواقع الحياة في المجتمعات الأوروبية، وأسست لفكر متطرف يصطدم مع هذه المجتمعات، موضحاً أن 35 في المئة من فتاوى الجماعات المتشددة في أوروبا تغذي وتنمي ظاهرتي الإسلاموفوبيا والتطرف، حيث مثلت فتاوى "الجهاد" 90 في المئة من جملة الفتاوى.

كيف تغلغلت تيارات الإسلام السياسي في القارة العجوز؟

خلال حديثه في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول)، كان لافتاً في كلمات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون اشتمال مقترحاته لمواجهة "النزعات الانفصالية"، على فرض رقابة أكثر صرامة على التعليم، والسيطرة على التمويل الأجنبي للمساجد.

وبالرغم من تنديد بعض الناشطين المسلمين بتصريحات ماكرون متهمين إياه بمحاولة "قمع الإسلام في فرنسا"، فإن الأخير تحدث عما سمّاه "تطوير ممارسات رياضية وثقافية" خصوصاً لدى المسلمين، و"التلقين العقائدي وإنكار مبادئنا على غرار المساواة بين الرجال والنساء"، قائلاً إن "في تلك النزعة الإسلامية الراديكالية عزماً معلناً على إحلال هيكلية منهجية للالتفاف على قوانين الجمهورية." محملاً في الوقت ذاته السلطات "قسماً من المسؤولية بعدما سمحت بتطوير ظاهرة تحول الأحياء إلى معازل". قائلاً، "قمنا بتجميع السكان بموجب أصولهم، لم نعمد إلى إحلال ما يكفي من الاختلاط، ولا ما يكفي من مكان الانتقال الاقتصادي والاجتماعي". وتابع "بنوا مشروعهم على تراجعنا وتخاذلنا".

جزء من حديث ماكرون يشير إلى المسؤولية الأوروبية في شأن "تكوين مجتمعات انعزالية في مجتمعاتها"، وتكشف أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة دلال محمود في تصريح  لنا، عن أنه "لم يتم الانتباه طوال العقود الماضية لنشاط الجماعات الإسلامية المتطرفة في الدول الأوروبية، وهذا يعود لسببين رئيسين، الأول يكمن في قدرة تلك الجماعات على مر السنين باختراق المجتمعات الغربية عبر شركاتها وجمعياتها وبنوكها ومؤسساتها الخيرة والأهلية، والثاني قدرتها على تشكيل طبقات من الولاءات والانتماءات العابرة للقوانين والقيم الأوروبية".

وبحسب محمود، "يختلف وجود تلك الجماعات على صعيد الدول الأوروبية، فطبيعة وتداخل شبكات مصالحها ونفوذها تختلف من دولة إلى أخرى، لكن السمة الأبرز حجمها وتأثيرها في دول الثقل الأوروبي كما في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وبلجيكا". معتبرة أن "مثل هذه الجماعات وتيارات الإسلام السياسي تحوّلت مع الوقت إلى تشكيل جماعات مصالح داخل المجتمع الأوروبي، تؤثر في السياسات الداخلية والخارجية للدول المقيمين بها، مستغلين مساحات الحرية والدعم التي وجدوها خلال سنوات حضورهم الأولى".

وفي دراسة حديثة نشرها المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات في فبراير (شباط) 2020، بعنوان "تنظيم الإخوان وخلق المجتمعات الموازية في أوروبا: التهديدات والمخاطر"، فإن تيارات الإسلام السياسي وعلى رأسها "جماعة الإخوان"، تمكنت من الانتشار والتوسع بشكل كبير بعد خروج عدد من عناصرها في فترة الستينيات إلى الدول الأوروبية، وتزايدت أعداد المنتمين إلى "تنظيم الإخوان" داخل المجتمعات الأوروبية منذ النصف الثاني من القرن الـ20، إذ شكلت الجماعة ما يسمى بالكيانات الموازية التي تسعى لتكون بديلاً للدولة والمجتمع بالنسبة لأفرادها، بهدف الاستحواذ على القوة والضغط على صانع القرار لتلبية طلبات الجماعة، كما استطاعت بالفعل تحقيق أهدافها في ترسيخ قيمها ومعتقداتها داخل المجتمعات الأوروبية، من خلال مسمى "الجهاد الحضاري".

الدراسة ذاتها تقول إن تيارات الإسلام السياسي استطاعت الوصول إلى حد السيطرة على المساجد والمدارس الإسلامية في أوروبا، وتدريب أئمة من الشباب على العمل الدعوي باللغات المحلية، وتوطين المهاجرين إلى المجتمع الأوروبي. ونقلت عن كتاب بعنوان "المشروع: استراتيجية الإخوان للغزو والتسلل في فرنسا والعالم"، وأن الشرطة السويسرية اكتشفت وثيقة سرية بعد مداهمة فيلا يملكها يوسف ندا؛ أحد الأقطاب المالية لجماعة الإخوان ورئيس بنك التقوى، تضمنت تفاصيل مشروع وأفكار إخوانية "للسيطرة على أوروبا وأميركا والعالم".

وفي السياق، نشر مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة التابع لدار الإفتاء المصرية، في نوفمبر (تشرين الثاني)، ما قال إنه "آلية تحرك تيارات الإسلام السياسي في الدول الغربية لخلق مجتمعات موازية من خلال تحقيق قدر من التفاعل بين الجماعات الأخرى المتشابهة معها فكرياً في أوروبا، عبر إقامة شبكة دولية غير رسمية ومعقدة للغاية، تترابط في ما بينها عبر شبكات مالية وأيديولوجية، فضلاً عن إقامة شبكة من الروابط الاجتماعية من خلال الزواج بين عناصرها وإقامة علاقات تجارية واقتصادية للتكيف مع البيئة التي تعمل فيها". وعلى سبيل المثال، يأتي النموذج الفرنسي، الذي وبحسب ما كتبه الباحث ميشيل أوبوان، تحت عنوان "لإسلام السياسي وغزو الأحياء"، فإن "أكثر من ألف حي في فرنسا تعرض للانعزال الجغرافي والثقافي، وهو الوضع الذي استغلته الأيديولوجيا الإسلامية، وأفرزت عبره نخبة محلية تمثل الجالية المسلمة لدى السلطات الإدارية والسياسية، ما زاد الوضع تعقيداً".

وإجمالاً، ووفق الأرقام الرسمية، يبلغ تعداد سكان الجاليات الإسلامية في أوروبا نحو خمسة في المئة من سكان أوروبا (550 مليون نسمة)، تتصدرها دول فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وبلجيكيا. وبحسب مسح أجراه معهد "بيو" الأميركي للأبحاث عام 2016، فإن الإسلام هو الدين الأسرع نمواً، وسيكون الدين الأكبر في العالم عام 2070، وبحلول عام 2050 سيشكل عدد المسلمين عشرة في المئة تقريباً من العدد الإجمالي لسكان أوروبا. بل في حال استمرت الهجرة القانونية بوتيرتها المسجلة خلال الأعوام الأخيرة، فمن المتوقع أن تزداد النسبة وتصل إلى 14 في المئة من سكان أوروبا.

يذكر أن عدد المسلمين في فرنسا يبلغ نحو 6 ملايين نسمة، أي ما نسبته 8.8 في المئة من السكان، بحسب مركز "بيو"، يشكلون أكبر جالية مسلمة في أوروبا، وتأتي بعدها ألمانيا بنحو 5 ملايين مسلم بواقع ما يقارب الستة في المئة من تعداد السكان.

 


هل أخطأت الحكومات الغربية في تقديراتها؟

وفق المراقبين، فإن ما تشهده المجتمعات الأوروبية من "صدام مع تيارات الإسلام السياسي المتطرف" هو نتاج عقود من التراخي والتساهل والإهمال حيناً، وأحياناً الاستخدام السياسي لتلك التيارات من قبل الحكومات الغربية.

ويقول الباحث في شؤون الجماعات الإسلامية والقيادي السابق في جماعة "الإخوان المسلمين" أحمد بان، "خضعت قضية الحقوق والحريات في الغرب والتعاطي بها مع جماعات التطرف بألوانها وأطيافها المختلفة لكثير من اللغط واللبس طوال العقود الماضية". مضيفاً، "وقعت الحكومات الغربية بشكل عام في خطأ كبير عندما تجاهلت الممارسة لمصلحة الخطاب، بمعنى أنه من السهل أن يدعي أي حزب أو تنظيم أو تيار إيمانه بقيم الحداثة والديمقراطية والتشاركية وحقوق المرأة وغيرها من الحقوق والحريات في المجتمع الغربي، لكن سلوكه يقول غير ذلك، وهنا تبقى القضية الرئيسة".

وأضاف بان، أن "أغلب تيارات الإسلام السياسي سواء في المنطقة العربية أو أوروبا تمارس خطاباً مزدوجاً يختلف بين ما تقوله لأنصارها وما تصدره إلى العلن، وعليه وقعت الحكومات الغربية في خطأ عندما تعاطت مع الخطاب الذي صدره حداثيو أو مجددو عدد من المحسوبين على تيارات الإسلام السياسي، وتجاهل ممارستهم وسلوكهم، وكذلك أدبيّاتهم التي تقسم العالم إلى نصفين هما الإيمان والكفر". يتابع، "يبقى الخطر ليس في الجماعات المتطرفة التي تُعلن ذلك صراحة مثل (داعش) و(القاعدة)، ولكن في الجماعات التي تتمكن عبر المراوغة والتحايل وممارسة الخطاب المزدوج، من التوغل داخل مجتمعاتنا تحت أعين السلطات".

وذكر، أن "الدول والحكومات الغربية مدعوة لإعادة قراءة أدبيات تيارات الإسلام السياسي، وإعادة التأمل في سلوك قياداتها ورموزها، وحينها ستدرك أن تلك الجماعات تمارس خطاباً مزدوجاً وتنتج خطابين للغرب ولعناصرها في إطار ما يسمى مبدأ (التقيّة)، وحينها ربما تدرك أنها لا تقدم خدمة للإنسانية باستضافتها لرموزهم بسبب أفكارهم الهدامة للمجتمعات".

من جانبها، وبحسب أستاذة العلوم السياسية في جامعة القاهرة والمعنية بدراسة ظواهر الإرهاب والتطرف دلال محمود، فقد "استطاعت جماعات الإسلام السياسي ومنها جماعة الإخوان الانتشار داخل المجتمعات الأوروبية، نتيجة امتلاكها القدرة العالية على التنظيم والإدارة، فضلاً عن استخدامهم ثنائية (الضحية والعنف)، الأمر الذي خلق لهم بيئة خصبة للتطرف والمبالغة في المواقف المعادية للمسلمين، لترسيخ صورة ذهنية بأن هناك حالاً من العداء الشديد بينهم والدول الغربية"، معتبرة أنه "بات من الضروري وجود كيان بديل يمثل الجاليات المسلمة في دول الغرب، من دون أي أطماع أو طموحات حزبية أو سياسية".

المزيد من تحقيقات ومطولات