Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فرنسا المنقسمة ضحية ماكرون أم المسلمين؟

العلمانية المتشددة تذكي غضب الأقليات ونموذجها المعتدل يزيد من فرص التعايش

ماكرون خلال تقديم استراتيجيته لمكافحة النزعات الانفصالية يوم الجمعة الثاني من أكتوبر 2020 (أ.ب)

في أعقاب حادثة الطعن التي وقعت بالقرب من صحيفة "شارلي إيبدو" في باريس أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، أطلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطته التي طال انتظارها لرأب الانقسام ومكافحة التطرف، والتي كان عنوانها الرئيس بالتصدي لما وصفها بـ"الانعزالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام مواز". تضمن مشروع القانون المقترح سلسلة من الإجراءات، التي تستعد الحكومة لعرضها أمام البرلمان في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، وتشمل تقييد الأموال التي تتلقاها الجاليات المسلمة من الخارج للحد من النفوذ الأجنبي.

ماكرون ليس أول رئيس فرنسي يعد بـ"إسلام جديد"، فقد عُلقت الآمال السياسية على عاتق حكومات تعاقبت منذ الثمانينيات وفشلت، لكنه رجل تسلم منصبه عام 2017، أي بعد عامين فقط من الهجمات الإرهابية الدموية التي ضربت فرنسا. محملاً بأعباء التوقيت، لا يبدو الرئيس الثامن للجمهورية الفرنسية الخامسة مستعداً لتقبل فشل جديد، لا سيما وسط الظروف والأخطار التي تتهدد الدولة العلمانية.

دعوة ماكرون الإصلاحية

جاءت الحادثة التي راح ضحيتها صامويل باتي، المدرس الذي عرض رسوماً للنبي محمد في حصة عن حرية التعبير، لتكون بمثابة الفرصة أمام ماكرون لتعزيز شعبية خطته في بلد محتقن يسوده الارتباك، وهكذا سارع الرئيس الفرنسي لتوضيح مساعيه لاستئصال النزعات الانفصالية، وطمأنة شعبه الذي سيتوجه بعد عامين لانتخاب رئيس جديد. تبدو المعادلة بسيطة: إما النجاح اليوم في ما استعسر على الأسلاف، أو الفشل في 2022.

ويقوم مشروع الرئيس الفرنسي الذي أزاح الستار عنه في وقت مبكر هذا الشهر، على رغبة بترسيخ ما وصفه بـ"الإسلام المستنير"، وفي مقدمة الأهداف، وقف الانحرافات عن مبادئ الدولة، وإيجاد التنوع في التجمعات السكانية، وفرض إشراف مشدد على المدارس الدينية الخاصة، والحد بشكل صارم من التعليم الدراسي المنزلي، مع إلزام أي جمعية تطلب مساعدة من الدولة التوقيع على ميثاق للعلمانية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن مواد القانون المقترح، إلزام جميع الأطفال من سن ثلاث سنوات الالتحاق بالمدارس الفرنسية، وعدم السماح بالتعلم عن بعد إلا لأسباب طبية. كما ستخضع الجمعيات التي تتلقى تمويلاً من الدولة للمساءلة عن إنفاقها، وستضطر تلك التي أساءت استخدام الأموال إلى إرجاعها، وستسهم الخطة تدريجاً في الحد من استقطاب الأئمة من بلدان أخرى مثل تركيا، والجزائر والمغرب.

وطالب ماكرون، مستهل أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، بعدم الخلط بين الإسلام والتطرف الإسلامي، المكثف، قبل أن يبدأ ويستمر بالتصاعد مع تأكيده قبل أيام على عدم التخلي عن الرسوم الكاريكاتورية، أثناء مناسبة لتأبين المعلم الراحل شهدتها باحة السوربون. وأثارت لهجة الخطاب حفيظة مسلمين وعرب، وجددت اتهامات معارضيه لسياساته بأنها عززت الانقسام بين أفراد المجتمع الذي يمثل المسلمون منهم 8.8 في المئة أي أكثر من خمسة ملايين ونصف المليون شخص.

إصلاح الإسلام أم الالتفات للعنصرية؟

ويحذر اليمين الفرنسي على الدوام من خطر الإسلام السياسي، ويتهم اليسار بالمهادنة، وبين هذا وذاك، تعكس إجراءات الحكومة الحيرة التي تعيشها البلاد، فوزارة الداخلية التي لم تستبعد في الآونة الأخيرة احتمال حل أكثر من 50 جمعية للمسلمين بسبب "ترويجها الكراهية"، هي نفسها التي صفت عناصرها الأمنية عند مساجد في مدينتي بوردو وبيزييه بعد تهديدات بأعمال العنف، في تدبير يعكس تزايد المشاعر المعادية للمسلمين.

ويحظر القانون الفرنسي منذ عام 1978، جمع الإحصاءات المتعلقة بالعرق أو الدين حتى على علماء الاجتماع الخاصين أو الأكاديميين، لكن ومع ذلك، يرى مراقبون أنه وعلى الرغم من التدقيق العام الذي يواجه المسلمين، فإنه من الصعب للغاية إثبات وجود التمييز، إذ إن حظر التصنيف العرقي بحسب المتخصص بالتاريخ الفرنسي جيمس مكولي، لم ينهِ العنصرية، بالتالي فإن الافتقار إلى أساس تجريبي، يعيق إثبات وجود الفوارق ناهيك عن معرفة كيفية التراجع عنها.

لكن الرئاسة الفرنسية من جانبها، لا ترى أن التمييز هو السبب في مشكلات المجتمع المسلم، وتميل بدلاً من ذلك إلى تحميل الفشل في إحلال التنوع بمحيط هذه الجاليات مسؤولية عزلتها. ويضيف حكيم القروي، الكاتب المقرب من ماكرون، في كتابه "الإسلام ديانة فرنسية"، صدر عام 2018، سبب آخر وراء "النزعة الانفصالية"، وهو عدم شعور هذه الأقلية بفرنسيتها، إما لأن أفرادها رُفضوا أو لعدم رغبتهم، بينما جاء الإسلام ليسد فراغ الهوية.

ولم يكن القروي الذي يسدي استشارات لماكرون من دون أن يكون من مستشاريه الرسميين، بمنأى عن الجدل حين واجه اتهامات لدفعه بمقترح من شأنه دعم جماعة الإخوان المسلمين، وفرض نفوذ شخصيات منتمية إليها على المجتمع المسلم في فرنسا. وأطلقت التهمة الصحافية زينب الرزاوي أمام لجنة تحقيق تابعة لمجلس الشيوخ الفرنسي، حيث حرص القروي على المثول أمام اللجنة لدحض التهمة والدفاع عن نفسه.

من جانبه، يعتقد المتخصص في التاريخ الفرنسي جيمس مكولي، أن محاولات التأثير في الإسلام غير مجدية، وينادي بدلاً من ذلك بإنهاء التمييز المنهجي الذي يغذي النزعة الانفصالية، ويقول الكاتب في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، إن "هدف خطة ماكرون وهو حماية الفرنسيين من مزيد من الهجمات يبدو وجيهاً، لكن الطريقة على الأرجح مصممة لحل مشكلة مختلفة عن عنف الإرهاب، فبدلاً من معالجة عزلة المسلمين الفرنسيين، لا سيما في الأحياء اليهودية أو الضواحي، التي يتفق الخبراء على نطاق واسع على أنها السبب الجذري الذي يترك البعض عرضة للتطرف والعنف، تسعى الحكومة إلى التأثير في ممارسة ديانة عمرها 1400 عام"، مبدياً استغرابه من هذه الآلية على الرغم من أنها تحاكي الطريقة التي قنن بها نابليون ممارسة اليهودية.

ويلقى التفسير المتشدد للعلمانية رواجاً هذه الأيام بين بعض السياسيين الفرنسيين، إذ أثار وزير الداخلية دارمانان، الجدل بسبب تصريحات لقناة "بي أف أم"، عبر من خلالها عن استيائه من الفصل المجتمعي في محال السوبر ماركت التي تحوي رفوفاً خاصة للحوم الحلال، وطعام الكوشر اليهودي وغيرها من المنتجات، معتبراً أن ذلك يعزز نوعاً من المشاعر الانفصالية التي يجري ربطها بالهجوم.

وفي خضم الانقسامات، يذهب مكولي إلى القول إن "صامويل باتي انتهى به الأمر ضحية قضية شخص آخر"، في إشارة إلى أن مقتله أضحى شرارة للهجوم على المسلمين، على الرغم من أن القتيل لم يشارك الرؤية الحصرية للعلمانية، واستشعر المخاوف المحتملة لطلابه المسلمين عندما أتاح لأي شخص في فصله قد تسيء إليه تلك الرسوم الكاريكاتورية الخيار بعدم مشاهدتها. أضاف "من الواضح أنه كان مفتوناً بالثقافة الإسلامية، إذ اشترك في دورات تدريبية في معهد العالم العربي في باريس ونظم حفلاً موسيقياً عربياً لصالح طلابه، لكن يبدو أن "جوانب باتي باعتبارها "وجه الجمهورية" نُسيت بالفعل.

العلمانية وأزمة المعنى المتغير

وعلى الرغم من قانون 1905 الذي يلزم الجمهورية الفرنسية البقاء محايدة، لا تدعم أو تشوه سمعة أي دين، فإن لغة الخطاب التي يستخدمها الرئيس ماكرون في الآونة الأخيرة لم تخلُ من حدة اعتبرها البعض نابعة من التفسير المتشدد للعلمانية، والذي يمكن تقفي أثره بدءاً من المراحل الراديكالية للثورة الفرنسية، حين استبعد الدين وكُرس الاكتفاء الذاتي للعلمانية. لكن المشكلة ليست في العلمانية، وإنما فهمها، ولتوضيح الفارق، ما علينا إلا التمعن في نموذجها في الولايات المتحدة الذي يبدو إلى حد كبير متصالحاً مع الدين، حيث يمثل الفصل بين الكنيسة والدولة حرية المعتقد الديني، في حين يعني الفصل في فرنسا التحرر من "السلطة الدينية القمعية".

في سياق متصل، يعتبر مكولي، أن هذه الرؤية للعلمانية نشأت في زمن امتازت فيه البلاد بتجانس أكبر على الصعيد الثقافي والعرقي مما هي عليه اليوم، إذ في مطلع القرن، كانت غالبية فرنسا كاثوليكية، مع أقلية بروتستانتية صغيرة وعدد أقل من السكان اليهود. لكن عندما انهارت الإمبراطورية الفرنسية بعد الحرب العالمية الثانية، سرعان ما أصبحت العاصمة موطناً للعديد من الرعايا الاستعماريين السابقين وأحفادهم من شمال أفريقيا وغربها ومنطقة البحر الكاريبي وجنوب آسيا.

وهكذا أخذ الارتباك في فرنسا يتصاعد مع وصول المجتمعات المهاجرة التي تحدت بتقاليدها الثقافية والدينية، بقصد أو بلا قصد الدولة العلمانية، ووضعتها بين خيارات معقدة، أدت في نهاية المطاف إلى فشل معظم الأطراف في التوصل إلى نتائج مرضية، مثلما حدث إبان منع المسلمات من ارتداء الحجاب، استناداً إلى مبدأي تقليص حضور الدين في الفضاء العام، وحيادية الدولة تجاه الدين والمجتمع. ولا يحتم المبدأ الأخير دخول الدولة في مواجهة مع الدين فقط، بل يضعها أمام معضلة الجمع بين حماية حريات الأفراد، وتطبيق الفصل بين الدين والدولة. على سبيل المثال، السماح لمعلمة بارتداء الحجاب في فرنسا يتوافق مع حريتها الشخصية، لكنه في الوقت نفسه يهدد الحياد، والعكس صحيح.

هل يستطيع المسلمون تبني العلمانية؟

تأتي الممارسات الصادرة من أفراد متطرفين، لتضع فرنسا في امتحان مماثل لما واجهته مع أزمة الحجاب التي أثارت نقاشاً طويلاً، كان له الفضل في توجيه البوصلة نحو مشكلات المجتمعات المهاجرة. لكن ما يختلف اليوم أن أنصاف الحلول لم تعد مقبولة، إذ إن عدداً من الإشكالات تصدى لها مفكرون ووضعوا أطراً لاحتوائها، وبقيت التساؤلات تتمحور حول مدى قدرة مسلمي فرنسا على التعايش مع العلمانية ومدى استعداد الدولة العلمانية لاحتضانهم.

وفي هذا السياق، يورد تشارلز تايلور أن اعتبار البعض العلمانية فئةً قديمة من الثقافة المسيحية وعدم اكتساب الإسلام نفس هذه الصلات، يعنيان أن المجتمعات المسلمة لا تستطيع أن تتبنى أنظمة علمانية، ويضيف في ورقة حول العلمانية الغربية "من الواضح أنها لن تكون مثل تلك (المجتمعات العلمانية) في العالم المسيحي، ولكن الفكرة ربما يكون بمقدورها السفر عبر الحدود بطريقة مبتكرة وخيالية".

وبعد استعراض المراحل الثلاث لنشوء نظام علماني مُرضٍ، وهي التمييز بين الكنيسة والدولة، الفصل بين الكنيسة والدولة، وأخيراً استبعاد الدين من الدولة والحياة العامة، يخلص تايلور في ورقة بعنوان "الدين ليس المشكلة"، إلى القول، إن "المجتمعات الإسلامية لن يمكنها فعل ذلك (تبني العلمانية)"، غير أن هذا الافتراض ربما ينطبق بشكل أكبر على كيانات الدول المسلمة لا الأقليات التي يشهد التاريخ بقدرة بعضها على الاندماج.

كيف يتحقق التعايش؟

أعادت حادثة ذبح المدرس الفرنسي في حصة عن حرية التعبير على يد شاب مسلم إلى الأذهان، دعوة فلاسفة كثر طالبوا بتجاوز الفهم القاصر الذي يعتبر العلمانية ضد الأديان، وفهمها بدلاً من ذلك كإطار يضمن تعايش المجتمعات المختلفة. لكن ردود الفعل الصادرة عن اليمين وتأكيد ماكرون استمرار الرسوم الكاريكاتورية لا تصب في مصلحة النموذج المنادى به، وإن كانت تصريحاته تعبر عن التهديد الوجودي الذي يواجه شكل النظام ببلاده.

لكن الديمقراطيات الحديثة اليوم تواجه حتى من داخلها دعوات إلى تعديل تقاليدها سعياً لتحقيق الحرية والمساواة للجميع، وتقبل التنوع، والدولة العلمانية بحسب تايلور مطالبة بتحقيق الحرية الدينية، والمساواة بين الناس من مختلف الأديان أو المعتقدات، والاستماع إلى العائلات الروحية، وأخيراً، الحفاظ على الانسجام بين أنصار الديانات والآراء المختلفة. ويضمن تطبيق المتطلبات الأربعة اعتبار الجماعات الدينية جزءاً من الحوار وعدم حرمان أي جزء من المجتمع حقه في التعبير.

ويعتبر الفيلسوف الكندي أن عدم تحقيق التوزان والمساواة واحترام الآخر يخاطر بالحد من الحرية الدينية للأقليات المهاجرة بلا داع، ويرسل رسالة إلى هذه الأقليات مفادها أنها لا تتمتع بأي حال من الأحوال بوضع متساوٍ مع التيار السائد منذ زمن طويل، مجدداً مطالبته بعدم تصور الأنظمة في الديمقراطيات المعاصرة كحصن ضد الدين، ولكن كمحاولات حسنة النية لتأمين الأهداف الأساسية، مثل حماية الناس في ممارسة معتقداتهم وتوفير المعاملة المتساوية.

وتميل دعوات المفكرين الحالية إلى تبني العلمانية الليبرالية - التعددية التي تهدف إلى التوازن بين المساواة في الاحترام وحرية الضمير، وهي بخلاف العلمانية الجمهورية، لا تسعى إلى علمنة المجتمع أو التدخل في الحريات الشخصية. كما أن النظام العلماني الليبرالي بحسب جوسلين ماكلور وتايلور في كتابيهما "العلمانية وحرية الضمير" (Secularism and the Freedom of Conscience) لا يستثني وجود المتدينين في الفضاء العام، ويقبل ضرورة اللجوء إلى التسويات الهادفة لاستعادة العدالة أو السماح بممارسة حرية الدين، ما دام أن مبدأ الاحترام المتساوي ليس مهدداً.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات