في مارس (آذار) 2017، وخلال كلمة ألقاها أمام حشد من أنصاره في مدينة سكاريا غرب تركيا، قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، "أشقائي الأعزاء بدأت معركة بين الصليب والهلال. لا يمكن أن يكون هناك تفسير آخر". جاء ذلك في إطار توتر بين أنقرة وألمانيا وهولندا، بعد منع برلين وأمستردام سياسيين أتراك من إقامة أحداث لدعم الاستفتاء الذي أجرته الحكومة التركية في أبريل (نيسان) من العام نفسه، لتوسيع سلطات أردوغان الرئاسية.
وعلى مدى السنوات الماضية التي شهدت توتراً سياسياً بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، لجأ الرئيس التركي إلى عبارات دينية وخطاب يستدعي الحروب الدينية التي تعود إلى العصور الوسطى بين أوروبا المسيحية والشرق الأوسط الإسلامي. ليس ذلك وحسب، بل شرع في توظيف كثير من الأحداث في هذا الإطار. فعلى سبيل المثال، علق عام 2017 على قرار محكمة العدل الأوروبية الذي يسمح للشركات باتباع سياسات تمنع الرموز الدينية في أماكن العمل بما في ذلك الحجاب، ووصفه بأنه بداية "حملة صليبية" أوروبية.
لم يتعلق خطاب أردوغان بأوروبا وحدها، فعلى المستوى العربي عندما أمر بالغزو العسكري لشمال شرقي سوريا في أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي، صُور الأمر داخلياً باعتباره كفاحاً إسلامياً ضد "الكفار". وفي تغريداته، في ذلك الوقت، باللغتين التركية والعربية، وصف الرئيس التركي أفراد جيشه الذين يهاجمون قرى شمال شرقي سوريا بأنهم "أبطال الجيش المحمدي"، وهو مصطلح يعود تاريخه إلى الإمبراطورية العثمانية.
خطاب الإسلام السياسي
بعد أيام من الاجتياح العسكري، صاغ أردوغان تحركاته في عدد من الخطب العامة بمصطلحات دينية، مدعياً أنه كان لحماية "كرامة الأمة"، أو العالم الإسلامي. وخلال خطاب ألقاه في اجتماع لحزب العدالة والتنمية الحاكم في 29 أكتوبر، أشاد بالفصائل السورية المدعومة من تركيا، ووصف عناصرها بأنهم "جهاديون يرهبون ويقتلون الموت نفسه".
بحسب تقرير سابق لإذاعة صوت أميركا، فإن أردوغان ألقى خطاباً في 25 أكتوبر 2019 في مسجد بإسطنبول، قال فيه للمصلين إن "الله وعد المسلمين بالنصر وأمرهم بالقسوة على (الكفار)". وهي عبارات يصفها مراقبون بأنها تحريضية وتحث على العنف. إذ اعتمد الرئيس التركي والإعلام الخاضع لقبضة الدولة على تصوير الخصوم السياسيين كأعداء للإسلام والمسلمين، وهي إستراتيجية أشار إليها النائب التركي السابق والزميل لدى مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، في واشنطن أيكان إردمير، بقوله إنه "منذ تأسيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في 2001، قدم أردوغان نفسه للغرب باعتباره مصلحاً ديمقراطياً ليبرالياً، بينما روج في الداخل بلهجة دينية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح إردمير أن "إعادة صياغة مناقشات السياسة العلمانية ضمن خطاب الإسلام السياسي هي إحدى الإستراتيجيات التي استخدمها أردوغان لتعزيز هيمنته الأيديولوجية"، مضيفاً أنه حتى يومنا هذا، واصل الرئيس التركي استخدام المصطلحات الإسلامية لجذب وإرضاء الموالين له في الداخل والخارج.
فعند مهاجمة القوات الكردية في سوريا، دعت مديرية الشؤون الدينية عبر مساجد تركيا إلى الصلاة وتلاوة سورة "الفتح" في القرآن، وبثتها عبر مكبرات الصوت. وبثت وسائل الإعلام التركية الرئيسة، بما في ذلك وكالة الأناضول التي تديرها الدولة، خطابات لرجال دين يخبرون أتباعهم أن عملية شمال شرقي سوريا قد "أمر بها الله".
المشروع الاستعماري
ويحذر رئيس ومؤسس المعهد الكندي للإسلام الإنساني، في تورنتو سعيد شعيب من أن هذا الخطاب يقوم على تجييش المسلمين. وقال إن "الرئيس التركي لديه مشروع ... يدفع الناس إلى مزيد من التطرف، لأن الإسلام السياسي يقدم أيديولوجيته باعتبارها (الإسلام) وحدها".
وبحسب شعيب، فإن خطاب أردوغان ليس دعائياً بقدر ما هو انعكاس لما يؤمن به الرئيس التركي وأتباع جماعات الإسلام السياسي، سواء الإخوان أو غيرهم من التنظيمات في تركيا وأنحاء العالم، من حتمية دولة الخلافة. ويضيف أنه "من حسن الحظ، فإن العالمين العربي والغربي أصبحا يدركان خطورة هذه الجماعات والأيديولوجيات التي تدفع المسلمين إلى الانعزال، وربما إدخالهم في حروب أهلية مع المجتمعات التي يعيشون في داخلها".
ومن خلال العبارات الرنانة، لا يفوت الرئيس التركي فرصة تقديم نفسه زعيماً للعالم الإسلامي، فبعيداً من قضية الإيغور المسلمين الذين يتعرضون للقمع في الصين، بينما تقوم تركيا بترحيل الفارين إليها، وذلك بالنظر إلى المصالح الاقتصادية الكبيرة التي تجمع أنقرة وبكين، فإن أردوغان لطالما تحدث باسم المسلمين. وعلى إثر دعمهم في قضية إقليم كشمير، وصف رئيس البرلمان الباكستاني أسد قيصر، في فبراير (شباط) الماضي، الرئيس التركي بـ "قائد العالم الإسلامي برمته".
وتشهد الأيام الحالية سجالاً بين المسؤولين الأتراك والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بسبب تعليقات الأخير في شأن حرية التعبير، وضرورة مواجهة "الحركات الانفصالية الإسلامية"، حيث تعهد تكثيف التحركات ضد الجماعات المتطرفة بعد مقتل المدرس صامويل باتي بقطع رأسه، وحل جماعة الشيخ أحمد ياسين المتورطة في الهجوم.
ويقول الباحث في الشئون الإسلامية، إن هجوم تركيا الشرس على الرئيس الفرنسي يتعلق بإدراك الأخير خطورة المشروع الانفصالي لهذه الجماعات التي تعمل أولًا على محاولة عزل المسلمين عن المجتمع، ثم إنشاء مجتمع مواز، وأخيراً الانفصال الفعلي والقيام بعمليات إرهابية. واعتبر شعيب تحركات ماكرون ضد هذه الجماعات "حماية للمواطنين المسلمين الذين يريدون أن يعيشوا حياة طبيعية مثل غيرهم من المواطنين"، رافضاً الادعاء بأن هناك معركة ضد الإسلام، بل أزمة مرتبطة بالإسلام السياسي.
العمق الإستراتيجي
ما يقوله أو يفعله أردوغان يتعلق بشكل رئيس بأيديولوجيا حزبه الحاكم. ويقول أستاذ السياسة التركي ومؤلف كتاب "من دار الإسلام إلى وطن تركيا: صنع وطن قومي في تركيا"، بهلول أوزكان، إنه "بالعودة إلى قيادة أحمد داود أوغلو، الذي يصفه بمهندس السياسة الخارجية التركية، وأحد أبرز قيادي حزب العدالة والتنمية، قبل أن ينشق عام 2019 ويؤسس حزبه الخاص، فإن السياسة الخارجية لتركيا كانت مدعومة بتوجه (إسلامي شامل وتوسعي)، إذ تهدف إلى دور إقليمي أكبر من خلال نفوذها الاقتصادي والسياسي والثقافي على الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز".
ما يشير إليه البروفسور التركي هي نفسها الخطة التوسعية التي يطلق عليها "الوطن الأزرق"، والتي يسوق لها أردوغان ورجال حكومته بين القوميين الأتراك في الوقت الحالي. ويلفت إلى أن المفاهيم التي يروج لها أوغلو مثل "العمق الإستراتيجي" و"صفر مشكلات مع الجيران" تهدف إلى التسلل التوسعي في المنطقة.
ولداود أوغلو كتاب بعنوان "العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية"، صادر عام 2001، يجادل فيه أن انتهاء الحرب الباردة أتى بفرص تاريخية لتركيا لتأسيس نفسها كقوة عالمية كبرى من خلال اتباع سياسة خارجية توسعية ذات أيديولوجية تعتمد على الإسلام السياسي. والهدف من عقيدة السياسة الخارجية "العمق الإستراتيجي" أن تهيمن تركيا على المناطق المحيطة من الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز. ووفقاً لأوغلو، فإنه ينبغي على أنقرة أن تتبنى هويتها "العثمانية الإسلامية" لتشكيل علاقتها مع تلك المناطق.
ويقول أوزكان إن "حزب العدالة والتنمية، تحت إدارة أوغلو، أوجد لنفسه مكاناً جديداً في السياسة الخارجية القائمة على (العرق والدين)، التي تنتجها بالفعل الحكومة الحالية". ويشير إلى قول أوغلو إن "تركيا يمكن أن تصبح قوة عالمية، ما دامت أنها تتبع سياسة خارجية توسعية قائمة على الأيديولوجية الإسلامية"، لذا عمدت أنقرة إلى تقديم الدعم المادي للمؤسسات الإسلامية في البلقان وأوروبا وأفريقيا، ودعمت حزب النهضة في تونس وجماعة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا، وأصبحت سوريا النقطة المحورية لسياسات تركيا الداخلية والخارجية، فبمجرد اشتعال الأحداث في سوريا عام 2011، التقى داود أوغلو على الفور بقادة المعارضة السورية الذين بدأوا مقاومة مسلحة ضد حكم بشار الأسد.
تباين المصالح
وحذر الباحث الرفيع لدى معهد "أميركان إنتربرايز"، مايكل روبين، من أن استمرار استخدام الدِين من المسؤولين الأتراك لتبرير سياساتهم يثير مجموعة من القضايا التي من المحتمل أن يتصارع معها المجتمع التركي لسنوات مقبلة. وقال "بعد 16 عاماً من الأردوغانية، وتلقين جيل كامل من تلاميذ المدارس والعسكريين، تغيرت تركيا بشكل جذري". ولفت إلى أن الإستراتيجية ستؤثر على الأرجح أيضاً في علاقات تركيا مع الدول الغربية التي تشعر بالقلق من الاتجاه الذي تسير إليه البلاد.
وأضاف أنه بالنسبة إلى أولئك الذين كانوا يراقبون أردوغان، فإن الأمر مقلق للغاية، إذ إن الرسائل الإسلامية غالباً ما تصاغ بالترويج للتحريض ضد الغرب، لا سيما عندما تتباين المصالح مثلما هو الحال في ليبيا وشمال شرقي سوريا وشرق البحر المتوسط.
ويقول المؤلف التركي ومدير شبكة الأبحاث والمراقبة الإسكندنافية، عبدالله بوزكورت، إن استخدام أردوغان المؤسسات الدينية لا يزال يؤتي ثماره لتعبئة مؤيديه، بخاصة القاعدة الدينية المتشددة التي تعتبر حاسمة لبقائه السياسي، فمن خلال الرموز الدينية والتجمعات الإسلامية، يرى أردوغان فرصة لكسب تعاطف مجموعات الشتات التركية وغير التركية المسلمة في الغرب أيضاً. وأضاف "يعتقد أن هذا يساعده في اكتساب النفوذ وتعزيز قدرته التفاوضية مع صانعي السياسة الغربيين، وقد ظهر هذا غالباً عندما قام أردوغان برحلات إلى واشنطن والعواصم الأوروبية حيث كان يلتقي دائماً شخصيات مسلمة ودينية في اجتماع مجلس المدينة، ويلقي خطباً ذات صبغة دينية".