Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"البازار الأسود" تكشف صعوبات اندماج المهاجرين في المجتمع الفرنسي

الكاتب الفرنكوفوني الكونغولي آلان مابانكو يتقمص شخصية عامل أسود في مطبعة

الروائي الكونغولي الفرنكوفوني ألان مابانكو (غيتي)

الراوي في رواية "البازار الأسود" (دار آفاق - القاهرة – ترجمة عادل أسعد الميري) للكاتب الكونغولي الفرنكوفوني آلان مابانكو، وقد اختار أن يعنونها بالإنجليزية بينما كتبها بالفرنسية (black bazar) وهو أيضاً بطل العمل، ومؤلفه الافتراضي، يصر على عدم الإفصاح عن اسمه بدعوى أن ذلك قد يعرضه إلى ترحيله من فرنسا إلى بلده الأصلي الكونغو برازافيل، لأنه يقيم في بلد النور منذ نحو 15 عاماً بأوراق مزوَّرة، وبالتالي فهو يشير إلى نفسه دائماً بتعبير طريف هو "خبير الأرداف"، زاعماً أن المقربين منه، في "المجتمع الباريسي الأسود"، والذين يعرفون حتماً اسمه الحقيقي، يطلقون عليه في حضوره، كما في غيابه، ذلك التعبير، الذي له بالطبع أصل يرتبط بالشغف بالنساء السوداوات، من ذوات الأرداف البارزة.

وهو أيضاً لا يذكر اسم عشيقته التي قرَّر أن يقيم معها في سكنها الذي هو عبارة عن شقة ضيقة (استوديو)، بعد أن ترك شقة صغيرة أيضاً كان يقيم فيها مع أربعة أشخاص. هو أنجب منها طفلة، سرعان ما أخذتها وتركت فرنسا مع رجل آخر، مفضلة العيش في الكونغو برازافيل، بالرغم من أنها ولدت في باريس ولم يسبق لها أن زارت مسقط رأس والديها في ذلك البلد الأفريقي.

يسميها "اللون الأصلي" لشدة سواد بشرتها، ويسمي عشيقها الذي فرَّت معه "الهجين"، ويسخر من قِصر قامته، ناقماً على كل ما له صلة به. لكن مع توالي أحداث الرواية سنعرف أن "الهجين" الذي يعزف على آلة "الطمطم" ويترأس فرقة جوَّالة تسمى "سحرة الكونغو"، تقدم الموسيقى الأفريقية، اسمه "لوسيان ميتوري".

أكتب ما تعرف

 

 

في هذا العمل الذي أرى أنه يدخل ضمن الأدب الأفريقي، بالرغم من أن مابانكو يحمل الجنسية الفرنسية ويعيش حالياً في الولايات المتحدة الأميركية، يتقمص الكاتب شخصية "خبير الأرداف"، فنجد أنفسنا أمام عمل روائي أول كتبه ذلك "الخبير" الذي يعمل بنصف دوام في مطبعة باريسية، ويقضي كثيراً من الوقت في القراءة، وسماع أغاني وموسيقى السود من بلدان مختلفة، ويتابع جديد السينما وقديمها. يجد الكاتب الافتراض هذا نفسه بعد أن بلغ الأربعين من عمره مدفوعاً إلى "كتابة ما يعرف" على شكل يوميات، بتشجيع من كاتب فرنسي أسود ترجع أصوله إلى جزيرة تاهيتي ويدعى "لويس فيليب". عندما التقى الراوي "اللون الأصلي"، كان قد مضى على وصوله إلى فرنسا 15 سنة، وكان قد قضى نحو ثلاث سنوات معها من دون زواج رسمي، وعندما هجرته قرر أن يكتب حكايته معها في شكل يوميات، مستحضراً في شكل أساسي أوضاع السود في فرنسا ومعهم فرنسيون آخرون من أصول شتى، ليطرح إشكالية الاندماج في المجتمع وثقل الإرث الاستعماري الذي يصر طرفاه على عدم تجاوزه بما أنه لا يزال يعبر عن نفسه اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، سواء في فرنسا نفسها أو في مستعمراتها السابقة، الأفريقية منها على وجه الخصوص.

يكتب "خبير الأرداف" بسخرية، وبتدفق وتشرذم ما يؤكد أن اليوميات التي اختار لها عنوان "البازار الأسود"، تعبيراً عن وجود السود في المجتمع الباريسي، هي تجربته الأولى في الكتابة وربما تكون الأخيرة. يكتب بحقد إزاء "اللون الأصلي" وعشيقها الذي فرَّت معه، وبحيرة إزاء جاره في السكن ويسميه "أبقراط"؛ لأنه أسود ومع ذلك يعامل السود بعنصرية ويتمنى أن يعودوا جميعاً إلى بلادهم الأصلية التي يرى أنها مدينة للاستعمار بما أنه طوَّرها وأوجد لها مكاناً في ركب الحضارة الإنسانية! وهو يرى كذلك أن المستعمرين الفرنسيين "لم يتموا عملهم على الوجه الأكمل؛ ولذلك فإنه يكرههم كراهية الموت، إذ كان ينبغي عليهم أن يستمروا في جَلد الأفارقة بالسياط، حتى يتم تعليمهم مبادئ السلوك القويم" (الرواية صـ41).

عربي الناحية

هو يسمي غريمه "الهجين"، وبحسب المترجم عادل أسعد الميري، وهو أيضاً روائي معروف، فإن المؤلف استعمل كلمة hybride  الفرنسية في وصف عازف الطمطم المتجول الذي خطف منه رفيقته، "وقد ترجمتُها بكلمة (هجين) لأنه كان يقصد بها إهانة العازف، وهذه الكلمة تستعمل غالباً في حالة اقتران حيوانات من فصائل مختلفة" (الهوامش صـ 346). 

أما اسم "أبقراط" فقد أطلقه عليه جيرانه لكثرة استدعائه أطباء التأمين الصحي لعلاجه مذكراً إياهم بأن عليهم الاستجابة له في كل حين وفق ما يقرره قَسَم أبقراط، وترجع أصوله إلى جزر المارتينيك ومن ثم فإنه يشعر أنه أقرب إلى الفرنسيين، ممن عداهم من مواطني المستعمرات الفرنسية السابقة في أفريقيا وآسيا، لأن بشرة بني جلدته سمراء وليست سوداء أو صفراء. ولذلك نجد أن هؤلاء يشعرون بالانتماء إلى فرنسا وإلى الثقافة الفرنسية، ومن ثم فهم أكثر قدرة على الاندماج في المجتمع الفرنسي، مقارنة بأولئك اللذين ترجع أصولهم إلى أفريقيا السوداء.    

يقول "خبير الأرداف" في يومياته التي يسخر أصدقاء الحانة التي يتردد عليها بين الحين والآخر من إقدامه على كتابتها بدعوى أن الكتابة الأدبية لا يجيدها سوى البيض: "لن يمنعني شيء عن التعبير عن أفكاري التي لا أستطيع كبح جماحها".

أما "عربي الناحية" (هكذا يسميه السارد) فهو في الثالثة والستين من عمره، وهو من أصل جزائري ويمتلك محل بقالة يواجه البناية التي يسكن فيها الراوي، الذي ينقل عنه قوله عن الفرنسيين "الأصليين": "إنهم يعتبروننا المسؤولين عن الثقب الذي حدث في نظام التأمين الاجتماعي". ويضيف: "لا أمل لنا إلا في قيام اتحاد الشعوب الأفريقية الذي دعا إلى تأسيسه المرشد المستنير الزعيم القذافي" صـ 153.

 

ويرى "عربي الناحية" المولع بالقذافي وبسرد النكات التي تسخر من الإسرائيليين، على حد سواء، أن "مشكلتنا في فرنسا الآن ليست في البطالة ولا في عحز ميزانية التأمينات، وإنما في الأخلاق، في نقص الاحترام، إنهم (يقصد شباب المهاجرين من المسلمين) لا يعرفون حتى قراءة القرآن".   

يسكن السارد في الطابق الأرضي من بناية من سبعة طوابق، وفي الشقة المجاورة له يسكن أبقراط الذي يقول عنه في يومياته: "خطَرَ في بالي أنه يربط بين ملابسي غالية الثمن وبين ثقب التأمينات الاجتماعية، التي يدفعها هو، في حين أنني أرى أنه هو الذي يبتلع نقود التأمينات الصحية، بالنظر إلى حجم الأدوية التي نراه يبتلعها كل يوم، ويبدل بينها وفقاً لحالته المزاجية، ولا يكف عن جعل أطباء التأمين يتوافدون على شقته".   

الزنجي في مخيلة المستعمر

وضمن الأفكار التي يصر على أن يكتبها في يومياته: "هم (يقصد بعض فناني الغرب) ألصقوا بالزنوج الصورة التقليدية التي تبنَّاها المستعمر: شفة وردية غليظة، منقلبة إلى الخارج، حتى إن هناك في بعض كتب التاريخ، التي كان المستعمر يقوم بوضعها في مناهج أبنائه في مدارس فرنسا وغيرها من الدول الاستعمارية، نجد معلومات مضللة مقصود بها الإساءة إلى الإنسان الأسود، عن أن الشعوب الزنجية لم تستكمل تماماً تطورها الطبيعي، من مرحلة القِردة العليا مروراً بالطفرة إلى مرحلة الإنسان، مثلما فعلت بقية شعوب الأرض، وأن الزنوج الأفريقيين لا يزالون يحكون جلودهم بأظافر أقدامهم" صـ 64. أما أصدقاء الحانة الذين عملوا على تشكيكه في نسب ابنته من "اللون الأصلي" إليه، فهم كما حددهم في يومياته: "إيف من ساحل العاج، لم يصبح فرنسياً بعد، روجيه فرنسي أصله من ساحل العاج، فلاديمير من الكاميرون، بول من الكونغو الكبير، بيار لوبلان من الكونغو الصغير، أوليفييه من الكونغو الصغير، باتريك من الكونغو الكبير، بوسكو من تشاد".

وتزخر الرواية بأفكار "خبير الأرداف" وتعرض أيضاً بإسهاب لأفكار المحيطين به، علماً أنّ ليس بينهم فرنسي أبيض، فجميعهم ينتمون إلى ما يسميه الراوي "البازار الأسود"، ومع ذلك فإن لكل منهم "فلسفته" الخاصة في التعامل مع مجتمع أوسع لا يستطيعون الاندماج فيه، كما لا يستطيعون العودة إلى أوطانهم الأصلية بما ترتع فيه من فساد وحروب أهلية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

العنصرية عائق للاندماج

الرواية، أو لنقل اليوميات التي كتبها "خبير الأرداف" الذي توقف تعليمه عند المرحلة الثانوية، تفضح عنصرية تحول دون الاندماج في المجتمع الفرنسي، خصوصاً بالنسبة إلى المنحدرين من أصول أفريقية سوداء، وتفضح في الوقت نفسه الفساد المستشري، في البلدان التي ترجع إليها أصول هؤلاء، وهو فساد يتم بتواطؤ مع أنظمة الحكم في الدول التي كانت تستعمرها في السابق، وذلك يبدو الدافع الأساسي وراء فعل الكتابة نفسه الذي بدأه السارد بأن اشترى آلة كاتبة من طراز قديم، كان يصطحبها معه إلى حديقة عامة ليكتب على راحته، ثم بدأ في التحول إلى فأر مكتبات، بحسب تعبيره، واكتشف "جورج سيمنون" الذي أصبح قدوته في الكتابة... "ثم تبيَّن لي مع الوقت أنني لا أستطيع أن أكتب إلا عن أشياء خبرتها بنفسي، أو عشتُ ملابساتها، أو شاهدتها بعيني، على أن أكتبها بنفس الأسلوب المرتبك الذي تبدو عليه هذه الأشياء في الواقع" صـ 215.

يفتتح مابانكو روايته التي جاءت ترجمتها هذه في 330 صفحة، بما أسماه "بداية الكلام"، لنعرف أن "خبير الأرداف"، بدأ كتابة يومياته بعد مرور أربعة أشهر على هروب "اللون الأصلي" مع "الهجين"، وأخبر أصدقاء الحانة بذلك، لكن أحدهم حاول أن يحبطه حين قال له "بصوت معدني": "أنا قرأت كل الكتب العظيمة، ولستَ أنت من سيأتي ليغير الأشياء. أنت تعتقد أنك تكتب، لكن في الحقيقة أنت تتقيأ الغضب نحو رفيقتك السابقة، ونحو الموسيقي الجوَّال الذي خطفها منك". ثم تتلو ذلك ما يمكن أن نعتبره الرواية في أربعة فصول طويلة، وفي الختام نقرأ "نهاية الكلام"، لنعرف أن تلك الكتابة استغرقت 18 شهراً وأن عامل المطبعة تعرف في أواخر تلك المدة على "سارة" وهي فنانة تشكيلية من أب بلجيكي وأم فرنسية. شجَّعته على التفرغ للكتابة بعدما أعجبها ما كتبه، وقالت له: "يجب أن تتحرر من الانبهار التام بما يقترحه عليك لويس فيليب، فالأدب لا يتةقَّف عند أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي".

هكذا، تتجلى في الختام، أبعاد أخرى، تؤكد أن الاندماج ليس مستحيلاً، وأن "البازار الأسود" ستكون مجرد عمل أول لمؤلفه الافتراضي، الذي بات بفضل علاقة الحب التي ربطته بـ"سارة"، قادراً على تجاوز أزمته الشخصية، وبخاصة في بعدها المتعلق بخيانة "اللون الأصلي" له، وم ثم أصبح "يكتب بحماسة أكثر من ذي قبل".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة