Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

زيناتي قدسية يخوض المأساة الإغريقية عبر نص روسي

"إعدام" مسرحية سورية مقتبسة من "إنسوا هيروسترات" لغريغوري غورين تدين مضرمي الحرائق

مشهد من مسرحية "إعدام" السورية (اندبنندنت عربية)

ساعة من الزمن لخّصت أحداثاً متلاحقة ومتصاعدة أدارها المخرج زيناتي قدسية عرضه الجديد "إعدام" والمقتبس من نص "أنسوا هيروسترات" للكاتب الروسي غريغوري غورين (1940-2000). وفي النص يقوم بائع سمك متجول يدعى هيروسترات (قصي قدسية) بإحراق معبد أرتيميديا. الحادثة التي قام الكاتب بتأريخها عام 356 قبل الميلاد في مدينة إيفيس الإغريقية، كان قد حققها كنصٍ مسرحي عام 1970، وجاءت ضمن تمثيليات التراجي - كوميديا التي برع غورين في تأليفها عن الحياة السوفياتية في ظل الأنظمة الشمولية التي كانت قائمة آنذاك. وجعلها في فصلين وخمس لوحات، مصدّراً بطل هذه الملهاة السوداء كنموذج لتعرية التحالف بين الدين الإغريقي والسياسة، إذ يصدر قياصرة وكهنة المدن الإغريقية أمراً يحرّم ويمنع ذكر اسم حارق المعبد: "أنسوا هيروسترات". هكذا أمر الجبابرة والطغاة: "أنسوا... أنسوا"! لكن هل تستطيع الأوامر أن تسيطر على ذاكرة شعب؟ سؤال يطرحه المخرج السوري- الفلسطيني بعد مرات عدة من تقديم هذا النص على الخشبات السورية، كان أبرزها نسخة المخرج العراقي مناضل داوود الذي قدّم "هيروسترات" مع فرقة الحسكة عام 1991 بطولة عبود الأحمد وفواز الحسين، ثم ليقدّمها المخرج الشاب مضر رمضان على خشبة القباني عام 2015 مع نخبة من ممثلي مسرح الهواة.

مصادفات الحريق

قدسية الذي حقق عرضه هذه المرة في المسرح القومي في دمشق؛ لم تكن عواصف الحرائق التي اكتسحت مؤخراً غابات الساحل السوري ببعيدة عن نيران بطله "هيروسترات"، وذلك في ملاءمة تبدو نادرة بين الخشبة والجحيم السوري، استدعت مصادفات عدة بين الواقعين الفني والموضوعي. فلئن تم اجترار رائعة الكاتب الروسي التي ترجمها توفيق المؤذن ببراعة إلى العربية (نشرت في العدد الثالث من مجلة الحياة المسرحية 1978)، إلا أن هيروسترات ظل – كما يبدو - شهياً لقراءة سياق شلالات النار السورية، والتي تزخر كل يوم بحرائق متجددة، لربما لامس جمهور مسرح الحمراء الدمشقي لظى نيرانها في الأداء الحار الذي قدّمه كل من صفاء رقماني، وزهير عبد الكريم، ومحمود خليلي، وسامر الجندي، وجمال نصار، جنباً إلى جنب مع زيناتي وقصي قدسية وخوشناف ظاظا وجمال العلي. تدفقت حكاية حارق المعبد الإغريقي بسلاسة إيقاعية لافتة، واكبتها إضاءة موظّفة ودرامية للفنان بسام حميدي، ليذهب مُعِدّ العرض ومخرجه إلى تناص مع المسرحية الأصلية، حاذفاً العديد من الحوارات المطوّلة فيها، مع أن بعض المونولوغات المحذوفة كانت ضرورية ومهمة، لاسيما التي تختص بماضي قصة حارق المعبد، وتبيان دوافعه النفسية للقيام بهذا الفعل. لكن هذا بدا في النسخة السورية من غير جدوى، خصوصاً مع القفشات والتهكمات التي أضفاها أداء الممثلين على الخشبة، والقدرة لدى المخرج في جعلها توجهاً للأداء العام للعرض.

من هنا تبدأ حكاية هيروسترات بالتكشّف والتدحرج شيئاً فشيئاً، لنشاهد قدرة المجرم الذي يحلم بالمجد والخلود لقاء فعلته المجنونة، كيف تتحول إلى لعبة درامية مشوّقة ولاهثة في فضح الطُغم الحاكمة، والتي تتحالف معها البنية التجارية لتعريتها. يعمد هيروسترات بدايةً لشراء ذمة سجّانه، مستغلاً حاجته للنقود كي يطعم أولاده، ومن ثم بيع مذكراته لوالد زوجته المرابي (كريسيب) لنشرها، والإيقاع بـكريستينا أميرة البلاد، مستدرجاً إياها إلى علاقة حميمة معه، بعد زيارة هذه الأخيرة له في السجن، ومقايضته لها بجسدها الفاتن مقابل أن يعترف للمحكمة بأنه أحرق المعبد كرمى حبه لها. الأمر الذي يستدعي مواجهة مع زوجها أمير البلاد (تيسافيرن) إذ يأمر بقتل السجان، الشاهد الوحيد على خيانة زوجته له، وتعيين القاضي كليون بدلاً منه لحراسة هيروسترات، لكن الأخير يتمكن من الاستمرار في لعبة الابتزاز حتى النهاية. فبعد أن ينجح في نشر مذكراته في مكتبات المدينة ومواخيرها، وتهديد الأمير بشرف زوجته وعفافها، يواجه قدره الأخير مع قاضي قضاة إيفيس، والذي يتمكن في النهاية من قتل هيروسترات، ليسقط رجل القانون في محاكمة غير عادلة.

إحالات إخراجية

وكان كليون المفوّض من الشعب من أكثر المدافعين عن نزاهة سيرها وعدلها، لكنه ومع اكتشافه فساد الكهنة والقادة سيقرر تنفيذ حكم الإعدام بيده، طاعناً هيروسترات بالسكين ذاتها التي أعطاهُ إياها الأمير في السجن لتقطيع الخبز، موحياً للقاضي بتجاوز دساتير إيفيس، محيلاً بذلك الجريمة السياسية في إحراق معبد المدينة إلى جريمة جنائية صرفة. الأمر الذي ينشده رجال السلطة لبقاء سجلهم العدلي نظيفاً، والإجهاز على الخصم السياسي والبطل الشعبي بضربهم هذا بذاك، ومن ثم التفرغ لإزالة كل الأدلة على فسادهم المادي والأخلاقي. فذاكرة الشعوب تنسى المجرم، لكنها تتمسك بالبطل (الهيرو) وتغزل على منواله ثوراتها المقبلة، وهذا ما تتجنبه السلطة، مطلق أي سلطة تحاول جاهدةً التخلص من خصومها، لكن من دون أن تجعل منهم أبطالاً ورموزاً وأمثلةً لتمرد يهدد أركان عرشها وسلطانها.

هكذا أضرم الزيناتي النار مجدداً في قدسية المعبدين الإغريقيين، الديني والسياسي، منصرفاً إلى إرشادات المؤلف الروسي، وإحالاته الإخراجية في مقاربة الحال السورية. ووفّر النص الجديد في لغته العربية الفصحى تمويهاً محكماً عن الرقابة، وإسقاطاً ماهراً في تمرير رسائل مباشرة إلى التحالف الأزلي بين السلطان وفقهائه. مداورة في لعبة تخفّ قديمة- جديدة خاضها العديد من عروض المسرح القومي للالتفاف على الرقيب، وملامسة خجولة لم تسمِ الأشياء بمسمياتها، بل سعت إلى مماحكة هزلية للواقع الراهن، مستندةً إلى أداء الممثلين، وتندّرهم على رواتب العسس التي لا تكفي سد رمقهم ورمق عائلاتهم، وقدرة المجرمين على شراء الذمم بمباركة رجال السلطة وتواطؤهم. هنا يصبح الصراع بين التحالف الثلاثي (الدين والسياسة والمال) ضد إرادة القانون والشعب، ويدفع الإنسان ضريبة مضاعفة في تنفيذ تعاليم الغيب الديني، وتلبية أوامر الغيب الوطني على مذبح الوطن والآلهة الإغريقية.

هكذا يبحر زيناتي قدسية مرةً أُخرى كمخرج ومُعدّ وممثل في عرضه الذي أهداه إلى روح خالد الأسعد، الباحث في الآثار ومدير متحف تدمر، في إشارة من عرّاب مسرح المونودراما في سورية بأن ننسى هيروسترات فعلاً، ونتذكر الأسعد "عاشق زنوبيا" الذي قضى ذبحاً على أيدي مقاتلين من تنظيم الدولة الإسلامية داعش في أوغسطس (آب)  2015. كانت هذه الإحالة الوحيدة شبه المباشرة التي لم نجد لها أثراً على الخشبة في نسخة قدسية الاستعادية، بل ظلت في كلمته كمخرج في بروشور العرض، فلا وجه تقارب بين عالم الآثار السوري وقصة هيروسترات، إلا من حيث عمل الذاكرة الجمعية التي تلح على تذكر البطل ونسيان القتلة! 

المزيد من ثقافة