عقد الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون أخيراً، ثاني جلسة حكومية في ظرف شهرين، لبحث ضعف تدفق الإنترنت في البلاد، وتأثير ذلك في قطاعات ذات أولوية في برنامجه الرئاسي، مرتبطة بالمؤسسات الناشئة. ويعكس هذا الاستدعاء الثاني لمجلس الوزراء لبحث المسألة، حجم "المعضلة" التي شرح بعض تفاصيلها متخصصون لـ "اندبندنت عربية"، في مقابل عدم رضا أكثر من 25 مليون مستخدم للشبكة العنكبوتية.
وعاد ملف سرعة تدفق الإنترنت ليشكل أحد أهم محاور اجتماعات مجلس الوزراء، بعد نحو شهرين من توجيه الرئيس الجزائري مسؤولي قطاع البريد والاتصالات السلكية واللاسلكية، إلى إيجاد حل فوري لمشكلات الشبكة في الجزائر.
ويبدو أن استعجال رئاسة الجمهورية تقديم حلول "فورية" يضاعف قدرة الجزائر على تقديم خدمة إنترنت نوعية، جاء منافياً لإمكانات القطاع الحقيقية، وحجم الاستثمارات المخصصة له طوال العقدين الماضيين، لذلك يمكن تصور أن بعض الحلول الجزئية التي تقررت في شهر أغسطس (آب) الماضي لم تف بالغرض، بعد تحرير مزيد من "طيف الذبذبات" لمصلحة مستخدمي الهاتف النقال.
مخططان بسرعتين مختلفتين
في السياق، ليس خافياً تذيل الجزائر معظم التصنيفات الدولية والقارية والإقليمية لسرعة تدفق الإنترنت، ويندرج ذلك تحت معضلة عامة تتعلق بتخلف البلاد في مجال ربط قطاعاتها الإستراتيجية والإدارية بأنظمة رقمية، تشمل أيضاً قطاعات البريد والمصارف والسياحة.
وبدا الوضع كمن يضع العربة قبل الحصان، وتبيّن أن ضعف تدفق شبكة الإنترنت يشكل عائقاً أساسياً أمام خطة تبون التي تقضي برقمنة سريعة لكل القطاعات الحيوية، وإيلاء أهمية بالغة للمؤسسات الرقمية الناشئة، التي خصصت لها حقيبة وزارية وموازنة ضخمة.
وفي هذا الشأن، أفاد الأستاذ في جامعة باب الزوار للعلوم والتكنولوجيا، شرق العاصمة، فريد فارح بأن "ملف تدفق الإنترنت عرض على مجلس الوزراء لمعالجة تبعات سياسة عرجاء استمرت 20 سنة، وكخبراء طالبنا دائماً بوضع سياسة إنتاج بيانات محلية، تعوض محدودية الكابلات البحرية بين الجزائر وفرنسا، والجزائر وإسبانيا، وعددها اثنان، مع كلفة مالية باهظة وتحويل للعملة".
ولفت فارح إلى أن "الطلب على الإنترنت في الجزائر يشهد قفزة عالية أمام محدودية العرض، وهذا الواقع فاقمته تداعيات فيروس كورونا، وأعتقد أن الطلب على الإنترنت سيظل مرتفعاً، والتجاوب معه يجب أن يكون عبر مخطط وطني لا يقل عمره عن خمس سنوات".
دمقرطة الرقمنة
ولا يتعلق الأمر بالنسبة إلى قطاع الإنترنت بمجرد حلول قصيرة الأمد، بحسب فارح، الذي قال إن "الطريق إلى حل هذا الإشكال يستوجب ورقة طريق تضع في الحسبان هدف "دمقرطة" الدفع الرقمي بحسب المعايير الدولية، ووضع مخطط رقمي بالتواريخ يحدد الفاعلين والأطراف المعنية بتخزين البيانات محلياً، أو على الأقل حذو تجربة تونس والمغرب على سبيل المثال، وفق نظام مناولة مع كبرى الشركات الدولية ذات الاختصاص مثل غوغل أو أمازون".
في سياق متصل، تطرح أسئلة حول قدرة الكابلين البحريين اللذين يزودان الجزائر بالإنترنت، انطلاقاً من فرنسا وإسبانيا، على تحقيق مخطط الحكومة الجزائرية، إضافة إلى كلفة صيانتهما الدورية والتبعات الاقتصادية على آلاف الشركات في حالات الأعطال الطارئة التي حدثت مرات عدة في عرض البحر المتوسط، ويضاف لذلك عدم امتلاك الجزائر بواخر تختص بمثل عمليات الصيانة تلك، ما يضطرها إلى عمليات استئجار دولية تستغرق أياماً عدة في العادة.
ويقول فارح في هذا الصدد، "لا أنصح باستمرار التعويل على هذين الكابلين إذا كانت هناك نية للاستمرار وفق سياسة الكابلات، ويجب إحياء مشروع الكابل الرابط بين الجزائر وأبوجا النيجيرية، فهذا المشروع اكتمل جزؤه المار بالجزائر، لكن الوضع في دول الساحل عطّله، حيث ينتهي عند نقطة ربط في المحيط الأطلسي، وكلفته أقل بكثير". وأضاف، "حالياً هناك تفكير في تحرير الذبذبات لمصلحة متعاملي الهاتف النقال، وأتمنى أن يصدر قرار سياسي شجاع، وألا يكون هناك صراع بين التجاري والحكومي والأمني".
وختم قائلاً إن "توفير البيئة المناسبة واللائقة يحتاج إلى قانون رقمي مع سياسة أمنية معلوماتية فعّالة، تحدد الجهة المسؤولة عن تأمين بيانات الجزائريين، ثم المرور إلى شراكة تكنولوجية حكومية مع القطاع الخاص".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المخاوف الأمنية
ووجه تبون انتقادات تتعلق ببطء الانتقال إلى الرقمية، إذ قال في لقاءات مع مسؤولين رسميين إنه من المحرج "مخاطبة مواطن في إدارة ما أن عليه العودة بتاريخ لاحق بسبب غياب خدمة الإنترنت"، لكن هذا الخطاب وبقدر ما يبعث من ارتياح في أوساط المستهلكين والمتعاملين الاقتصاديين، فإنه يثير مخاوف من أن تتعامل الحكومة مع هذه القضية وفق حلول آنية.
وقال مطور التطبيقات الخدماتية عبد الإله بن زيتوني، بأن "الوقت الحالي لا يسمح باعتماد حلول ظرفية تجعلنا نخطو خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء. لا يتعلق الأمر فقط باستهلاك المواطن الجزائري لهذه الخدمة والوصول إلى التطبيقات، بل هو عملية انتقال إلى حال مجتمعية رقمية".
وتضع السلطات في المخطط الحكومي أهدافاً عدة للرقمنة، فهي تأمل بإدخالها مجال الإحصاءات وتحويلها إلى محرك بين القطاعات والدوائر الوزارية لتقاسم المعلومات وتنسيقها، وتدارك التأخر المسجل في رقمنة دوائر حيوية تقدم للدولة مؤشرات اقتصادية، واستخدامها في إحصاء الثروة الوطنية، ومحاربة البيروقراطية والفساد، والتصدي للمناورات الهادفة إلى الإبقاء على الضبابية في إدارة الاقتصاد الوطني.
وذكر بن زيتوني أن "السلطة إلى وقت قريب كانت تنظر إلى ملف الرقمنة على أنه لهو أطفال، ومن زاوية أخرى فإن المخاوف الأمنية والسيادية ظلت قائمة وأسهمت في تأخر دخول الجزائر هذا المجال، مع أنه من الممكن تجاوز هذا الأمر بشكل عادي مع الحفاظ على السيادة الرقمية".
وأوضح، "صحيح أن نحو 90 في المئة من مراكز إيواء المواقع والأرضيات الإلكترونية الجزائرية موجودة في الخارج، بما في ذلك مواقع المؤسسات والإدارات الرسمية، إلا أن بلداناً أخرى تجاوزت مخاوفها من اختراق بيانات مؤسساتها بالاعتماد على مراكز إيواء محلية، تكون عادة أقل كلفة وأكثر أمناً، إذا نظرنا إلى عملية الانتقال التي تطالب بها وزارة الاتصال حالياً بالنسبة إلى المواقع الإلكترونية من الخادم الدولي إلى الخادم الجزائري، فهي مقبولة وآمنة، لكنها عملية انتحارية في الوقت الراهن، لأن الجزائر لا تملك خدمات تخزين، ولا يمكنك إجبار مسيّر موقع على ترك ملايين المتابعين والانتقال إلى متابعين بالمئات".
ولفت بن زيتوني إلى أن "هذا القطاع تم احتكاره حكومياً بشكل كبير، وحتى تجربة القطاع الخاص في مجال تزويد المستخدمين بهذه الخدمة كانت بيروقراطية إلى درجة قصوى، ويشوبها الغموض وسوء استغلال الوظيفة والمحاباة، فإذا قررت السلطات فتح هذا الملف من كل جوانبه فستضطر للبدء من الصفر، وللأسف هذا هو المطلوب".