Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

يسينين وصفحات من المجهول في حياته الإبداعية والشخصية

أشعاره وصفها ألكسندر بلوك بأنها "جديدة ونيرة وصاخبة ومتميزة بصورها ومفرداتها"

تمثال للشاعر سيرغي يسينين في بلدته (غيتي)

كثيرة هي الأساطير أو المجهول في حياة وأشعار الروسي سيرغي يسينين، الذي لا يزال الغموض يكتنف صفحات غير قليلة من جوانب حياته الإبداعية والفنية والشخصية، يسمونه "شاعر الريف"، و"الفتى الساذج القادم من أعماق الريف" تارة، و"شاعر المجون الوَلِهْ بالخمور والمرأة" تارة أخرى، ويظل دوماً شاعر الرومانسية الأكثر التصاقاً بالوطن وطبيعته.

حياته، على رغم "قصرها"، التي لم تمتد لأكثر من ثلاثين عاماً، هي سلسلة من المغامرات والغرائب، وما قد يرقى منها حد الأساطير المفعمة بسذاجة مفرطة. ثمة من عزاها إلى نشأته الريفية بين أحضان الطبيعة عن عائلة فلاحين بسيطة، وإن وفرت له ما يقيه كثيراً من مآسي المرحلة، وما حفلت به من شظف العيش. وعلى رغم تمرده المبكر على مثل هذا الوجود الموجع، وتعجله الرحيل بحثاً عن أضواء المدينة، وأفراحها وأتراحها، فإنه ظل مرتبطاً بروحه وأفكاره، مع تلك الأرض الطيبة التي نشأ وترعرع بين أحضانها في ريازان بأواسط روسيا. مرحلة قال معاصروه إنها سجلت كونه "آخر أعظم شعراء الريف الحزين".

فلم تكد تصافح عيناه أحرف المطبعة التي عمل فيها مساعداً للمصحح بعد انتقاله إلى موسكو، حتى انسابت أشعاره ذكرى وتذكرة بما عاشه من أحلام القرية، ولتعكس ضمناً تأثره بحياة نجوم المدينة ممن خالط من شعراء وأدباء منتدياتها الفكرية، كان لهم أعظم الأثر في مسيرته الأدبية.

لم تمتد هذه المرحلة العمرية أكثر من ثلاث سنوات، شد بعدها الرحال إلى بتروغراد، المدينة الأكثر ضوءاً والأشد إشعاعاً، التي كانت له نعم المنبع والمعين، تعرف فيها إلى ألكسندر بلوك شاعر روسيا الكبير، الذي منحه شرف تقديمه إلى الأوساط الأدبية بمختلف أطيافها ومشاربها، وإن ظهر من يقول بتقاربه وصداقته مع آخرين، ممن كان لهم أيضاً أعظم التأثير في حياته الفكرية والأدبية.

 

"رائد أشعار القرية"

فقد شهدت هذه الفترة من حياة يسينين، ذيوع أسطورة تفترض وقوعه أسير "تأثره" بأحد شعراء عصره. ذاع صيته في وقت مبكر بوصفه "رائد أشعار القرية" القادم من مجاهل الشمال الغربي للإمبراطورية الروسية. ذلك هو نيكولاي كليويف (1884-1937) الذي عُرِفَ في بداية حياته بترويجه للأفكار الثورية المترعة بأطياف دينية معادية للنظام القائم. ولكم كان غريباً أن نكتشف بين أدبيات تلك الفترة التاريخية من حياة الشاعرين كليويف ويسينين، ارتباطهما بشاعر روسيا الأشهر في ذلك الحين ألكسندر بلوك. وتذهب هذه الآراء إلى أن بلوك قدّم يسينين، مثلما تبنى وقدّم كليويف، إلى المنتديات الفكرية والأدبية في العاصمة، كما ساعده على نشر إنتاجه في عدد من أهم مجلات ذلك الحين.

أما عن تاريخ تعارف شاعري "الريف الحزين" يسينين وكليويف، فتقول الأدبيات الروسية إن ذلك حدث في عام 1915، ولم يكن يسينين تجاوز العشرين من العمر، ما يعني عملياً أنه كان قريباً من اكتمال الموهبة وذيوع الانتشار. على أن مثل هذا "الخلط المتعمد"، إن جاز القول، لم يمنع حقيقة تقارب الشاعرين ونشاطهما المشترك. وتشير الشواهد الأدبية وما بقي من مطبوعات تلك الحقبة التاريخية، إلى أن يسينين وكليويف كثيراً ما شاركا معاً في المنتديات الشعرية والمحافل الأدبية، على نحو بدا معه كليويف بوصفه الأكبر سناً والأسبق شهرة، بمثابة الأستاذ والأب الروحي ليسينين. وقد أسهم في "ذيوع هذه الأسطورة"، ما تبدى من تقارب في أنماط إنتاجهما الأدبي، وما يجمعهما من ميول ثورية تقدمية، بل وعدوانيتهما المفرطة، تجاه كل من ينال من قيمة الريف وأبنائه. 

ولكم كان القدر جميلاً حين عاد وجمع بينهما، ليلقي بهما على مقربة من متغيرات وأحداث العصر سواء بعد اندلاع نيران الحرب العالمية الأولى في عام 1914، أو إبان تلك الفترة التي شهدت فيها البلاد بوادر وإرهاصات الثورة الاشتراكية، حتى انفجار شرارتها الأولى في فبراير (شباط) 1917، التي سرعان ما اكتملت على ضوء تبلور وذيوع أفكارها في الخامس والعشرين من أكتوبر (تشرين الأول) بالتقويم الجريجوري، أو اليولياني الحديث 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1917. لكن حياة ما بعد الثورة سرعان ما فرّقتهما، وإن ظل كليويف أكثر ارتباطاً بالأرض وبالقرية، وأشد حزناً وكمداً على ما آلت إليه أحوالها. وذلك ما جعله يوغل في انتقاداته للنظام، الذي طارده حتى بعد انتقاله إلى موسكو، التي شهدت اعتقاله ثم نفيه إلى تومسك غرب سيبيريا في 1934. ولم يمض من الزمن طويلاً حتى صدر الأمر بسجنه ثم إعدامه في 1937.

غير أن معاصري تلك الفترة لم يجتمعوا حول "أستاذية كليويف" ودوره القيادي في حياة يسينين. وهذا ما أكدته وثائق تلك الفترة، ومنها ما كتبه الشاعر أناتولي مارينغوف (1897-1962) في كتابه "حكاية بدون أكاذيب"، وهو من رعيل الأدباء "الانطباعيين" وكبار النقاد الذي نقل عن كليويف، أنه لم يلق بالاً لما كان يقال في هذا الشأن. أضاف أيضاً أنه لا يلتفت إلى ما يتردد حول أنه مَن قدّم يسينين، أو أن ذلك من مآثر آخرين، سواء كان ذلك الشاعر والمترجم غوروديتسكي (1884-1976)، أو أحد أشهر شعراء روسيا ألكسندر بلوك (1880-1921) أو آخرين. وفي هذا الصدد، ثمة ما يشبه الإجماع بشأن أن بلوك هو صاحب المأثرة الأهم في تقديم يسينين إلى الأوساط الأدبية الروسية، وإن كان هناك من يشير أيضاً إلى حقيقة دور سيرغي غوروديتسكي في تقديم يسينين، وإن كان تالياً لدور بلوك. وذلك ما اعترف به وأكده يسينين.

شهادة بلوك

وحول دور بلوك، قال يسينين، "لقد كان بالنسبة إلي بمثابة الأيقونة. وقد عقدت العزم خلال سنوات إقامتي العابرة في موسكو، على ضرورة السفر إلى بتروغراد (لاحقاً لينينغراد ثم سان بطرسبورغ) للتعرف إليه. وأذكر أنني ما إن نزلت من القطار في محطة سكة حديد "نيكولايفسك" (المحطة الرئيسة في بتروغراد، تسمى اليوم "موسكوفسكي")، حاملاً صندوقي على ظهري، لا أدري أي وجهة أو اتجاه أقصد؟ فالمدينة مجهولة بالنسبة إلي، أوقفت عابراً أسأله، أين يسكن هنا ألكسندر ألكسندروفيتش بلوك؟. وكانت الإجابة، لا أعرف. ومن يكون هذا الـ (بلوك). لم أعر إجابته اهتماماً، ومضيت في طريقي. وها هو مسكن بلوك، ها هو باب شقته. استقبلتني طباخته بقولها، ماذا تريد أيها الشاب؟ أجبت، أريد لقاء ألكسندر ألكسندروفيتش بلوك. وكنت أتصور أنها ستقول إنه ليس موجوداً، لأعود أدراجي وكما يقال بخفي حنين، لكنها راحت ترمقني باهتمام وهي تفرك يديها في المريلة المعلقة على صدرها، لتقول، حسناً. سأذهب وأخبره. لكن عليك أن تخرج إلى السلم. ولتنتظر هناك. فأنت وكما ترى الأواني والكسرولات. أنت غريب عن الدار. من يعرف؟".

عادت أدراجها بعد أن صفقت باب المسكن، وأنا واقف مكاني أنتظر. وأخيراً انفتح الباب على مصراعيه، وقالت، ادخل. لكن فلتمسح نعل حذائك. أدلف إلى المسكن في اتجاه المطبخ، وأضع عن كاهلي الصندوق. وأخلع غطاء الرأس، بينما كان يهل من بعيد ألكسندر ألكسندروفيتش، وهو يقول، أهلاً من تكون؟. وبدأت في الشرح من أكون، وأنني جئت لأعرض عليه أشعاري. لاحت ابتسامة على شفتيه، قال، لقد ظننتك قادماً من بوبلوف. فمن هناك يجيئني كثيرون من أهل موطني. وتقدم خطوات لأتبعه".

غير أن هناك تفسيراً آخر حول هذه الواقعة، ورد على لسان الشاعر والناقد والمترجم فسيفولود روجدستفينسكي (1895-1977) أوردها في كتابه "صفحات وذكريات. 1962"، قال فيه، إن يسينين اعترف بنفسه أنه سعى إلى لقاء بلوك بوصفه الشاعر الأكثر شهرة، المعروف باهتمامه بالمواهب الشابة، "أولاً، إن بلوك الأكثر حرصاً، كان قد احتفظ بدليل آخر حول هذا اللقاء. قال إن يسينين بعث إليه رسالة صباح ذلك اليوم يقول فيها، ألكسندر ألكسندروفيتش، أود الحديث إليك. الأمر بالنسبة إلي بالغ الأهمية. أنت لا تعرفني. ولربما صادفت اسمي في أي من المجلات. أود زيارتكم الساعة 4. مع احترامي س. يسينين"، ثانياً، تعليق بلوك الخاص على هذه الرسالة، فلاح مقاطعة ريازان. 19 سنة. القصائد جديدة. نيّرة. صاخبة. متميزة بصورها ومفرداتها. زارني في 19 مارس (آذار) 1915".  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سذاجة مفرطة

ونتحول إلى ما حاول يسينين الظهور عليه متناقضاً مع حقيقته في واقع الأمر، وهو ما يتعلق بما قيل حول سذاجته المفرطة، وافتقاده إلى الخبرات الحياتية. ذلك ما حاول تفنيده أناتولي مارينغوف في كتابه "حكاية بدون أكاذيب" المشار إليه عاليه. وجاء فيه، "إن يسينين لم يكن ليتسم بالسذاجة التي تخالف طبيعته الريفية، التي طالما يميزها الحرص على قياس الأمور وحساب العواقب. وقالوا أيضاً إنه كان شديد الاهتمام بكل ما كان يوجه إلى شعره من انتقادات ومديح. كان يجمع كل ما يتعلق بأشعاره، وذلك ما تمثل في ما تركه من كراسات تتضمن كل ملاحظات القراء والنقاد وزملائه من الشعراء والأدباء".

وفي ما يتعلق بمجونه وإغراقه في العربدة وتناول الخمور، قال يسينين، إنه لا يجلس أبداً لنظم الشعر وهو مخمور، وهو ما أكده كثيرون من أقرانه وزملائه في الأوساط الأدبية. ولم نجد في ما كتبه كثيرون عن مصرع أو انتحار يسينسن، ما يمكن أن نأخذه على محمل اليقين. وتباينت الآراء حول انتحاره في غرفته مشنوقاً، في وقت قال فيه آخرون إنه قتل رمياً بالرصاص، وحرص قاتلوه على تصوير الأمر، وكأنه انتحر على النحو الذي وجدوه فيه معلقاً بحزام حقيبة في غرفته بفندق "انجلتير"، في قلب العاصمة الثقافية بتروغراد.

ولمزيد من اليقين وتحري الدقة أشار عدد من أصدقائه إلى ما قالته آنا ايزريادنوفا، زوجته الأولى حول أن ما نظمه من أشعار كان أكثر فيها من الحديث عن الموت، بل وفي عدد منها كتب عن الانتحار تحديداً، وهو ما كان يكشف به عما يرد في خاطره خلال العامين الأخيرين قبل رحيله عن عالمنا هذا، من أفكار حول نهايته منتحراً. ولعل ذلك ما ينقلنا إلى تأكيد رفض غالبية القريبين من ذلك الشاعر المثير للجدل لقبول "نظرية المؤامرة".

ومن ذات المنظور، نشير إلى ما قيل حول قصيدته الأخيرة "وداعاً صديق وداعاً"، إذ ظهر من يقول إنها من نظم آخرين، ومنهم الشاعر وولف ارليش، أحد عملاء أجهزة الأمن الذي اُتهم بالوقوف وراء مقتله، وأن ياكوف بلومكين رجل الأمن هو من كتب هذه القصيدة بعد عامين من مصرع يسينين. أما الحقيقة وكما أثبتها خبراء الخطوط والطب الشرعي، أنها من نظم شاعر الرومانسية سيرغي يسينين. ولا أحد غيره.   

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة