أولاً، لماذا كتب ماركيز روايته "الحب في زمن الكوليرا"؟ أجاب: كنت أعرف أن الكتابة عادة عن الحب، تستدعيه كحالة تراجيدية إغريقية، وكأنه أراد القول، لا بدّ من "مجنون ليلى" لتكون قصة حب، واستطرد: لكنني أردت عكس ذلك، أن أكتب عن الحب الذي لم يكتب عنه، الحب المرح، المغتبط، وأن تكون القصة، قصة حب من الفاتحة، حتى الورقة الأخيرة أو السطر الختام المسك. فركب القارب السكران في موج عاث، كيف يمكن أن تكون قصة حب من دون تحدّ، وسباحة في المجهول ضد مجاهيل ومعاليم، أراد أن يقول الحياة حباً، فالمرء يولد ميتاً، أو بتعبير أبي العلاء المعري: المرء يولد وقد زوّج الموت. من هذا استلّ سلك حرير، صار يلضمه وينسجه، وكحائك قماشته الحب، وضع المستحيل الهدف، من الحياة استخلص، من صرخة الطفل الأولى، المغالبة طريقة الحب، حس رقيق مرهف، جعل مسرح الرواية زمن الكوليرا.
ثانياً، الهجمة الضارية لكورونا تشتّت الأفكار، وفي هذه الحالة أمسيت أمسك بنفسي فارغاً من التفكير، الجوائح تعيد الكائن إلى مسألة الوجود في ذاته، لعل لهذا نتدافع عند الخطر فنموت تحت الأقدام، وهذا ما لاحظناه لرفض جمعي في الكثير من الدول للتكمّم والتحرز. لكن على أي حال سوى ككاتب أو بشر، مسألة كورونا المستجدة لا مثيل لها، لهذا وجدتني أفكر وأكتب عن هذا ما لا مثيل له، كذلك حضرت مسألة الموت كما لم تحضر في حياتي، صفحتي على فيسبوك، كلما هممت بفتحها أعلم مستجدها، إذ تحولت إلى معلنة للموتى وصفحة للتعازي، ولهذا فكرت كثيراً عن معنى أن نحيا في حضرة الموت. وحتى ما أقرأ فرض علي، أن يكون تحت مظلة عزرائيل، فهذا الجنوح البشري إلى الاستهتار بالخطر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد لجأت إلى الحب، واستحضرت أم كلثوم التي ليست المقام الذي أهوى، وفي هذه الشمس الضارية التي لا تغيب، اتخذت من الليل كل يومي، خصوصاً وقد كنت من قبل إنساناً ليلياً، فأبي خباز يعمل بالليل والبيت ينام نهاراً، هذه الحال كانت الغوث من هذه الملمّة الوعرة، فكنت ابن أبي، لهذا في زمن كورونا، أخذت أخبز أفكاري ووجداني في ليل هو كل يومي. كما أشرت، كورونا جعل مني لاجئاً في خيمة الحب ما هو زوادة الأمل، فالمرء بطبعه ينتمي إلى الحياة حتى النفس الأخير، ومن هذا كنت أتعلق بقشة الحياة، وأنا أشاهد الشوارع الخالية والمدن الخاوية، عشت في خلوة الغلبان، مغالبة أن أحيا ضد كورونا، وهذا ما كان لقاح كل يوم.
ثالثاً، لقد توضح لي في زمن كورونا، معنى أن يكتب ماركيز عن "الحب في زمن الكورونا"، ماركيز اكتشف المصل، أن اللقاح الحب، وأن الكوليرا خير لقاح للحب المرح، كذلك غمرتني ذاكرتي الموشومة: أني حين أصبت بالحصبة "النمنم" في طفولتي، غمرت بالحب وكذلك كنت رهيفاً محبّاً، حتى إني بعد أن شفيت بفضل مصل الحب، خصوصاً من أمي، ندمت أن شفيت. رهافة الروائي الفنان جعلته يلتقط الحب من براثن الموت، القارئ النبيه والشغوف أيضاً، يقرأ الرواية في نفس واحد، الرواية تبدو كتبت في نفس واحد، ونسج من نفس لا تكلّ، تنسج ليلاً نهاراً، فرشاً أعجمياً من حرير الروح.
كأن ماركيز أرشميدس من صاح وجدتها: أن تكتب عن الحب المرح، أن تكون استثنائياً، أن تكون "عوام قديم في بحر الحب"، لأن الحب المرح، الحب المضاد للجوائح.
رابعاً، كورونا لم يستأذن أحداً، في فبراير (شباط) 2020، عقب دورة معرض الكتاب، خرجت من القاهرة حيث أقيم منذ سنوات، إلى تونس التي أعرف جيداً، في مطارها وجدت الطوارئ والطوابير وقياس الحرارة والمسافة بين الأجساد، لم أهتمّ لحظتها، لكن بدا أن الأمر جاد، وليس كما جوائح سابقة عشتها، فور عودتي إلى القاهرة كتبت مقالي الأسبوعي عن كورونا في آخر فبراير، ثم اعتكفت في البيت.
ولتجربتي الحياتية ومهنتي ككاتب، لم تكن العزلة جديدة، فهي من لزوم ما يلزم، ولذا التزمت بما يجب، لم أعد أخرج إلا عند الضرورة الضرورة، وطبعاً لا سفر، ما جدّ أن أخذت أمارس المشي في ممر البيت لأكثر من ساعة في اليوم، وهذا أيضاً ناتج الخبرة، فقد كنت أفعل ذلك أيام الزمن الجميل في الزنزانة! لكن القلق والتوتر زادا، من حيث أن بدأت أفقد الأصدقاء، مثل المفكر الاستراتيجي محمود جبريل، من داهمه كورونا في الأيام الأولى، وفي هذه الحال، تقلصت علاقتي بالكتابة وبالقراءة، لكن هذا أسهم في تسرّب الوقت، فما تشابه لا زمن له، كمثل من يعيش الظلام.