Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمد الجنوبي يستعيد فن "العديد" الفرعوني تشكيلياً

"أوراق الفقد والنسيان" معرض يجمع صورا ومواد بصرية تحمل ذكريات الرحيل    

من معرض "اوراق الفقد والنسيان" في القاهرة (اندبندنت عربية)

على جدران إحدى المقابر الفرعونية المنحوتة في الصخر للحاكم "رعموزا" حاكم مدينة طيبة حوالى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، يصور الرسام المصري القديم مشهداً جنائزياً تبدو فيه مجموعة من النساء النائحات وهن يودعن صاحب القبر. تُعد هذه الجدارية واحدة من الرسوم النادرة التي تصور النائحات في العصر الفرعوني، وهن نساء كن يحترفن النواح في الجنازات وعرفن أيضاً بمغنيات الإلهة حاتحور. قد تتشابه تلك المهمة التي كانت تضطلع بها النساء النائحات في العصر الفرعوني مع طقس حديث مرتبط بالجنازات والموت وهو "العديد". والعديد هو نوع من الشعر المسجوع باللهجة المحلية كان منتشراً في صعيد مصر، وتردده النساء عند وفاة عزيز لديهن. يمكن أن تضطلع بتلك المهمة قريبات المتوفى، غير أن هناك أيضاً نساء مُخصصات لذلك يحترفن "الندب" في الجنازات. يقترب "العديد" لأن يكون فناً شفهياً، لما يحمل من إبداع وتراكيب لغوية، وأقوال تذهب أحياناً مذهب الأمثال والمأثورات في صعيد مصر. هذا الفن الشفهي في طريقه اليوم للاندثار، ويكاد أن يختفي لأسباب عدة مرتبطة بتغير ثقافة المجتمع وتوغل الأفكار الدينية الأكثر تشدداً مع تلك العادات القديمة. 

بُذلت جهود كثيره لجمع هذا الموروث الشفهي من فن "العديد" وتناوله بالبحث والدراسة، ومن بين هذه الدراسات ما قدمه الكاتب المصري عبد الحليم حفني في كتابه "المراثي الشعبية" الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، كما تناوله أيضاً الكاتب كرم الأبنودي في كتابه "فن الحزن" بتقديم للروائي الراحل خيري شلبي. وفي دراسته عن أشكال العديد في صعيد مصر يذهب الباحث المصري درويش الأسيوطي إلى أن "العديد" هو أشرف الغناء الشعبي، كما كان الرثاء أشرف أشعار العرب، فعندما سأل الأصمعي الإعرابي: ما بال المراثي أشرف أشعاركم، قال الأعرابي لأننا نقولها وقلوبنا محترقة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أساليب تعبيرية

الفنان محمد الجنوبي يقدم معالجة بصرية لفن "العديد" من خلال معرضه في أتيليه القاهرة تحت عنوان "أوراق الفقد والنسيان". يجمع الجنوبي في هذا المعرض الذي احتل القاعات الأربع لأتيليه القاهرة بين مجموعة من الوسائط وأساليب التعبير المختلفة، من رسوم وتجهيز وكتابة. القاسم المشترك بين هذه العناصر هو الحضور الطاغي لأشعار العديد وتمثيلها كتابة ورسماً على مساحات مختلفة من أقمشة وأوراق رسم. يستدعي الجنوبي هنا فكرة الفقد باستحضاره صور أصدقائه وأقاربه الذين رحلوا أو غابوا أو تقطعت بهم السبل، كما يستحضر فكرة الموت وما ارتبط  به من مرض أو معاناة. يبدو المعرض مزدحماً بالعناصر الكثيرة، عشرات من الصور والكتابات والأوراق والرسوم تعكس جميعها مشاعر الفقد والحنين وتلامس مشاعر المشاهد ووجدانه، وقد يكمن هنا سر هذا الشعور بالألفة والدفء الذي يخيم عليها.

بين العناصر الكثيرة التي أتى بها الجنوبي نرى عبوات أدوية وضع في داخلها صورة مصغرة لوجهه، وفي ركن آخر نرى صورة شقيقه الذي رحل. بين الأعمال رسوم عدة كانت مهملة في ركن محترفه، وجاء بها الفنان كما هي ليعرضها دون ترتيب، حتى أن بعضها قد حال لونها وبهتت معالمها، فبدت أشبه بلفائف من القماش أو الجلد المغطى بالأصباغ. يبرز الجنوبي أيضاً هنا محاولاته الأولى للتلوين والرسم، كما يملأ أحد الحوائط بأوراقه الخاصة وعشرات من القصاصات المهملة التي تحمل ذكريات شخصية، بينها شهادات الدراسة وكشوف الأطباء وتذكرته الأولى للسينما حين حل في القاهرة لأول مرة. يسكب الجنوبي تجربته الحياتية ورحلته مع الفن على جدران القاعة بنجاحاتها وإحباطاتها، بتفاصيلها الهامشية وأحداثها المحورية التي ربما غير بعضها مساره. ثمة رسومات أخرى غطى بها الفنان أحد جدران القاعة تحمل كل منها "عدودة" كما يطلق عليها أهل الصعيد، تتضمن رثاءً للأب أو الابن أو الابنة.

تحمل هذه النصوص الشفهية المتداولة على ألسنة النساء شيئاً من ثقافة المجتمع وقناعات النساء أنفسهن حول مكانة الرجل في المجتمع الصعيدي، أو تشير أخرى إلى عادات متوارثة كالثأر مثلاً. بل يحمل بعضها حتى أقوالاً تتجاوز التقاليد والأعراف السائدة. لكنها على كل حال تمثل سجلاً حافلاً بالحكمة وحاملاً لثقافة ضاربة بجذورها في عمق التاريخ.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة