Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صاحب "الإنيادة" يستعير من هوميروس ليدعو إلى السلام

دانتي وبروخ وغيرهما يحولان فرجيل دليلاً ومعلماً وبطلاً إشكالياً

لوحة فسيفسائية تصوّر فرجيل وهو يكتب موجودة في متحف باردو التونسي (غيتي)

لا شك أن من حق الفكر الغربي أن يعتبر الملحمة الرومانية "الإنيادة" ثالثة الملاحم الإنسانية الكبرى في تاريخ هذا النوع الإبداعي الكبير. ومع هذا، قد يكمن الفارق الرئيس بين هذه الملحمة وسابقتيها، "الإلياذة" و"الأوذيسة" اللتين تنسبان إلى الشاعر الإغريقي هوميروس، في أنه لئن كان هذا الأخير قد اختبأ دائماً خلف ملحمتيه ليُعتبر بطله يوليسيس، أول بطل إنساني إشكالي في تاريخ الإبداع وربما في تاريخ حضور الفرد في مسار الكون، فإن فرجيل مؤلف "الإنيادة" يكاد يكون هو البطل الحقيقي هنا. وليس فقط في سياق الملحمة بحدّ ذاتها، بل على مجرى التاريخ الأدبي والإنساني، إذ ندر في مجرى هذا التاريخ أن تحول مؤلف من المؤلفين ومهما علا شأنه، من مبدع إلى بطل في إبداعات عدد لا بأس به من مبدعين آخرين، وذلك حتى من قبل أن يجعل منه دانتي أليغييري، صاحب "الكوميديا الإلهية" رفيق درب له في الأعالي، حين راح يبحث عن حبيبته بياتريس التي سبقته إلى هناك، فلم يجد سوى فرجيل من يقوده إليها. ثم لاحقاً بعدما جعل الكاتب النمساوي المعاصر لزمننا تقريباً، هرمان بروخ، من فرجيل نفسه بطلاً درامياً في روايته الكبرى "موت فرجيل". 

 حين يتسلل المبدع إلى أعمال الآخرين

من قبل دانتي النهضوي، ومن بعد بروخ فيينا بدايات القرن العشرين، عرفت شخصية فرجيل كيف تتسلل إلى أعمال عدد من المؤلفين والرسامين من الذين سيصعب علينا إيجاد مكان يكفي لحصرهم في مقالتنا هذه. ومن هنا، لا بد من أن نكتفي بهذين العملين الكبيرين اللذين أبقيا فرجيل في الذاكرة حتى لدى الذين لا يبدون كبير اهتمام بملحمته. ففي هذا السياق، يبدو فرجيل منفصلاً عن الملحمة، تماماً كما يبدو يوليسيس منفصلاً في معظم استخداماته الإبداعية عن الملحمتين الهوميريتين، من دون أن ننسى هنا أن فرجيل مبدع بينما يوليسيس مبدَع.

ليس من السهل هنا تحري بداية اهتمام الإبداع بشخصية فرجيل وتحويله، إن جاز لنا القول، من مكانه خلف "الكاميرا" إلى مكان صدارة له أمامها. أي من مؤلف إلى بطل. لكن دانتي كان بالتأكيد الأكثر حظاً في الاشتغال على ذلك التحويل، ولكن من دون أن نفهم تماماً لماذا تراه فعل ذلك. نرجّح أن الأمر نتج من قراءته ليس فقط لـ"الإنيادة" ولكن كذلك لنصوص شعرية أخرى عدة وضعها فرجيل مثل "الجورجيك" و"القصائد الرعوية"، التي وجد فيها دائماً ما يذكّره ببياتريس. ومن هنا، حين قصد العالم الآخر لاستعادة هذه الأخيرة كان من الطبيعي لفرجيل، شاعر الحب والأرض والطبيعة، أن يكون رفيق تجواله.

أما بالنسبة إلى هرمان بروخ، فإنه لم يكفّ عن التأكيد أن الطريقة التي مات فيها فرجيل والرغبة التي عبّر عنها في آخر أيام حياته بإحراق ملحمته الكبرى، طبعتاه منذ قرأ للمرة الأولى سيرة حياة شاعر اللاتين الأكبر، فكانت أمنيته الخفية أن يتمكّن يوماً من تحويل حكاية تلك الأيام الأخيرة نصاً روائياً يكون الشاعر بطله ومبرره، ولكن ضمن سياق يتحول معه فرجيل إلى رمز يحمل آلام كل مبدع حقيقي في مسار التاريخ. ومن هنا، تمكّن بروخ من جعل فرجيل ليس فقط بطلاً درامياً إشكالياً، بل إنساناً يطرح في لحظاته الأخيرة أسئلة وجودية من الصعب على أي حال ألا نجد ممهّدات لها في سياق "الإنيادة" ذاتها. فما هي "الإنيادة" إذاً؟

ما بعد المجازر الطروادية

كتب فرجيل "الإنيادة" خلال الأعوام الأحد عشر الأخيرة من حياته، ومن هنا نجد هرمان بروخ يجعل من موت فرجيل نهاية لها ونهاية لحياة كاتبها، ويصوّر لنا أيام الكاتب الأخيرة وهو يتساءل عن جدوى ما فعل مطالباً بإحراق النص. أما ما فعله فرجيل، فكان في الحقيقة استجابة للتحدي الذي كان هوميروس الإغريقي يطرحه على الرومانيين. فهؤلاء كانوا يشعرون بالدونية لأن للإغريق ملحمتين ولا يمتلكون هم واحدة. ومن هنا تصدّى فرجيل للتحدي غير خافٍ ذلك وكتب حكاية البطل إنيا (ومن هنا اسم الملحمة "إنيادة") وهو يتجول في تيهه بعد انتهاء الحروب الطروادية. والحقيقة أن استجابة فرجيل للتحدي وصلت به ليس فقط إلى استعادة أجواء ملحمتي هوميروس نفسها، بل إلى استعارة عنوانيهما كعنوانين للقسمين اللذين تنقسم إليهما ملحمته. فالقسم الأول يحمل بالتحديد عنوان "أوديسا"، فيما يحمل القسم الثاني عنوان "إلياذة". وكما يمكننا أن نتصور، أدى هذا التطابق "المدهش" إلى حضّ الباحثين على مدى تاريخ الأدب على، أولاً البحث عما دفع فرجيل إلى مثل ذلك التصرف؛ وثانياً، وبالنتيجة، إلى اتهام الشاعر اللاتيني بالسرقة المباشرة والعلنية. بيد أن ثمة سؤالاً طرح نفسه بقوة هنا: هل يمكن لمبدع أن يكون مجانياً إلى هذا الحدّ في استعارته – كي لا نقول سرقته – أعمال مبدع سابق عليه؟

بدايات "المثاقفة" الأدبية؟

لقد ظل هذا السؤال من دون جواب حتى إن كانت في الآداب القديمة ممارسات تسمّى اليوم "مثاقفة" ويوجد ما يشبهها إلى حد كبير في تراثنا الأدبي العربي وهو ما يسّمى بالمعارضة، كأن يكتب شاعر أبيات شعر تتخلل قصيدة لشاعر سابق عليه تعتبر نوعاً من المعارضة لها. ومن هنا لم يفت عدد من الباحثين أن يروا في ممارسة فرجيل هذه نوعاً من تكريم لسلفه الكبير هوميروس. تكريم وصل إلى حدود استعارة أشعار بأسرها تقال على لسان هرقل مثلاً وإيرادها ذات صفحة في "الإنيادة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مهما يكن من أمر، لا بد هنا من موافقة باحثين رأوا أن "التعارض" بين الملحمتين الإغريقيتين ولاحقتهما اللاتينية، ليس شكلياً فقط ينبع من استخدام مشترك لتوصيف البيئة والمغامرات والمخاطرات والتشرد وما إلى ذلك مما تشترك به الأعمال الثلاثة، بل هو في المضمون والرسالة أيضاً. فلئن كان في مقدورنا أن نستشفّ تأليهاً للحروب والقتال في ملحمتي هوميروس، على اعتبار أن تلك الممارسات كانت على الدوام جزءًا من الحياة السياسية الإغريقية لا يمكن التصدي له بسهولة كونه من ضروريات تلك الحياة ومن مبررات وجودها، فإن رفض الحرب كان في روما الفرجيلية جزءًا من ممارسة سياسية متجددة، نبعت من كون الحياة قد باتت مستقرة. ومن هنا، فإن ما سعى إليه فرجيل بلغته وتركيبية ملحمته إنما كان توصيف ولادة السلام بدلاً من توصيف حتمية الحرب. وهذا ما يقترحه على أي حال الكاتب الفرنسي جاك بيرّيه في مقدمة معاصرة وضعها لترجمة جديدة لـ"الإنيادة"، قائلاً فيها ما يعني أن فرجيل إنما كان همّه سلمياً "ينادي بالوصول إلى تفاهمات بين البشر بعد كل تلك الحروب الطاحنة التي أكلت الأخضر واليابس" والتي يصفها هوميروس من دون موقف أخلاقي معيّن، في مئات الصفحات، فيما يأتي فرجيل هنا ليتحدث عما يجب أن يحلّ من سلام، بلغة رجل حكيم وورع ومحبّ للسلام. بالتالي، كان من الطبيعي أن نلاحظ في هذا السياق كيف أن فرجيل لم يجعل البطولة في ملحمته لأوكتاف أوغست "الحربجي"، و"كان في إمكانه أن يفعل ذلك، وإنما لإنيا البطل المسالم الداعي إلى وقف التقاتل بين البشر...".

هل هو حلّ مقنع للغز؟

ومن المؤكد أن النظر إلى "الإنيادة" من هذا المنظور، سيحمل إجابات عدة عن أسئلة كانت تبدو دائماً شديدة الغموض، ومنها بخاصة السؤال المتعلق بما يعتبر "استعارات فرجيل" المفضوحة من أشعار ملحمتي هوميروس.

بقي أن نذكر أن فرجيل، واسمه اللاتيني بوبليوس فرجيليوس مورو (وهذه الكلمة الأخيرة تعني الأفريقي الشمالي في مصطلحات ذلك الحين)، ولد في لومبارديا الإيطالية عام 70 قبل الميلاد ورحل في برينديزي خلال حملة عسكرية شارك فيها، وتُروى لنا بقوة في رواية هرمان بروخ آنفة الذكر، عام 19 قبل الميلاد. وهو عاصر نهاية الجمهورية الرومانية وبداية الإمبراطورية مع أوغست، وتعتبر أعماله الشعرية الرئيسة أساس الآداب اللاتينية الكبرى، لا سيما من قبل المدافعين عن الكلاسيكية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة