Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الضحية والجلاد  في دوامة العنف الجسدي والنفسي على المسرح

سعدالله ونوس إقتبس "الاغتصاب"من نص إسباني وفايز قزق يعيد إخراجها من جديد

من مسرحية "الإغتصاب" السورية بإخراج فايز قزق (اندبندنت عربية)

أعاد الفنان فايز قزق إخراجه لنص "الاغتصاب" لسعد الله ونوس، مقدّماً مقترحاً جديداً للمسرحية التي كان قد لعب بطولتها عام 1990 مع فرقة المسرح الوطني الفلسطيني وبإدارة المخرج العراقي جواد الأسدي، محققاً صيغة جديدة من هذا النص، حاذفاً الرواية الفلسطينية منه التي أوردها ونوس تحت عنوان "سفر الأحزان اليومية"، ومبقياً على الرواية التي أطلق عليها كاتبها "سفر النبوءات" محاكياً بذلك كتاب التوراة وسفر إرميا. ومعروف ان نص "الاغتصاب" كان ونوس نفسه قد استلهمه من نص "القصة المزدوجة للدكتور بالمي" للكاتب الإسباني أنطونيو بويرو باييخو (1916-2000).

في مناخ تصاعدي لانهيارات نفسية هستيرية، تدخل شخصية بابا مائير (لؤي النوري)، مدير الاستخبارات ليضع بصمة طقسية على صعيد إقناع إسحق بمتابعة ومزاولة عمله ، إذ أصابه خور أنثوي في حفلات التحقيق الأخيرة، بسبب عجزه الروحي والنفسي والجسدي. وربما كان المشهد الأكثر إثارة في العرض هو اللحظة التي انكشف فيها إسحق على حقيقته أمام راحيل، عندما تقوم هذه الأخيرة بزيارة صديقه جدعون في بيته لتشكو ما ألمّ بها من علاقتها بزوجها العنين. لكن جدعون يشتهيها، ويهيّئها للحظة اغتصاب حقيقية في كشف مريب عن انهيار القيم ، حين تصبح الخيانات الزوجية ومراودات الأصدقاء لزوجات بعضهم أمراً مفروغاً منه، ولتخرج راحيل من بيت جدعون وهي تحمل عاراً مزدوجاً نابعاً من اكتشافها لحقيقة زوجها واغتصاب جدعون لها على الرغم من معارضتها ومقاومتها له! إن عودة راحيل إلى بيتها وقد أدركها حطام لا مثيل له في تاريخ علاقتها بزوجها وبالمؤسسة الأمنية التي ينتمي إليها، جعلها تقلب الطاولة في وجه زوجها.

مستويات عدة

تدور مسرحية "الاغتصاب" ضمن ما يشبه مستويات عدة على الخشبة، حيث استلهم الكاتب السوري أحداث العرض من أجواء تحقيقات استخبارات فرانكو وأقبية التعذيب السياسي، وما كان يعانيه المعارضون على أيدي رجال أمن الديكتاتور الإسباني، معوّضاً عن الضحايا والجلادين زمن الحرب الأهلية الإسبانية برجال أمن الدولة الإسرائيلية، وما قامت به من إجراءات بحق الفدائيين الفلسطينيين مع اندلاع ثورة الحجارة، أو الانتفاضة الأولى عام 1987، التي توقفت نهائياً مع توقيع اتفاقية أوسلو بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993.

سعد الله ونوس الذي كان يؤمن بإمكانية حل المشكلة الوجودية الفلسطينية عن طريق الحوار وبأحقية المعايشة بين اليهود والعرب المتنوّرين، جعل خاتمة مسرحية "الاغتصاب" تدور في إطار حوار بين ونوس نفسه ومنوحين الطبيب المتنوّر، كما يورد الكاتب في فصل يطلق عليه "سفر الخاتمة".

نلاحظ ذلك في تواضع الرواية الفلسطينية التي شطبها قزق من العرض في إعداده الجديد، مبقياً على كامل الرواية الإسرائيلية، فما كتبه صاحب "الملك هو الملك" عن الشخصيات الفلسطينية في "الاغتصاب"، تجلّى كخطاب سردي لم يتّكئ على ذرىً درامية، ولم يؤسس لشخصيات ثرية كالتي ساقها الكاتب في الرواية الإسرائيلية. فلم يركّب للشخصيات العربية حياة عميقة ترتّب تلك المصادمات التاريخية بين الخطابين الفلسطيني والإسرائيلي، ولو فعل ذلك لكان النزاع سيؤدي إلى الكشف عن المزيد من التراكمات الإنسانية العميقة في البناء الدرامي للنص بأكمله، مما ترك هشاشة وركاكة للبناء الدرامي، وعدم توازن بين طرفي الصراع، التي مثلتها شخصيات "الفارعة" و"دلال" وزوجها المعتقل "إسماعيل" الذي نراه في العرض أبكم بلا حوار، يتلقى لسعات السياط وصدمات الكهرباء واقتلاع خصيتيه من دون أن ينبس ببنت شفة.   

تقع مسرحية "الاغتصاب" ضمن دائرة الأعمال التي اعتبرت وثيقة اجتماعية على أحداث هذا العصر، وهي وإن كانت تجنح إلى جنس المسرح السياسي الذي ناقش بصفة مباشرة الحياة العربية العامة وظروفها المعقّدة، إلا أنها خضعت لنوع من النقد العنيف، وصارت نموذجاً ناضجاً للعمل الذي تنمو فيه قدرة الإنسان العربي على تأمل مصيره، وتثرى به رؤيته للحياة ومسؤوليته في تغييرها. فهي أولاً مسرحية التزمت قضية محددة، هي حق الإنسان –مهما كان انتماؤه- في ممارسة حريته الفردية والاجتماعية من دون قمع أو إرهاب، وهو حق ما زالت تنتقص منه وتطغى عليه المجتمعات العربية نفسها على اختلاف أشكالها وأيديولوجياتها. بيد أنه يعنينا هنا أن نشير إلى بعض الظواهر التي تتصل بأسلوب الأداء الذي اتبعه كل من معدّ ومخرج العرض، ووافق طريقة التكوين الفني الأكاديمي للمسرحية التي جاءت كمشروع تخرّج لأول دفعة طلاب تمثيل في كلية فنون الأداء بجامعة المنارة باللاذقية.

وحريّ هنا الذكر أنه منذ أن كتب ونوس نص "الاغتصاب"، ظلت الانتقادات تطاوله في مجلات وصحف عربية، أبرزها  مجلّتا "الهدف" و"الحرية"، إضافةً إلى الصحف الرسمية السورية، التي تحدّث عنها جواد الأسدي، مخرج النسخة الأولى في كتابه "مسرح النور المر"- (دار الفارابي- بيروت- 2015)، مذكّراً بعشرات المقالات التي دعت إلى تخوينه هو وسعد الله، وتقديمهما فوراً إلى المحاكمة بحجة الدعوة إلى السلام مع العدوّ ومناهضة الكفاح الفلسطيني المسلح مطلع التسعينيات من القرن الفائت.

محاكاة وتجريب

لقد سعى نص مسرحية "الاغتصاب" في محاكاته اللصيقة للنص الإسباني المقتبس منه، إلى العمل على  تجريب أشكال جديدة في الصياغة المسرحية، وذلك لتطوير الإطار التقليدي للمدرسة الواقعية. فقد بحث ونوس وقبله بويرو باييخو عن إمكانيات أخرى في استغلال الأبعاد الزمانية والمساحات المكانية للخشبة. ولا شك أن الترجمة التي قام بها باييخو عام 1966 لمسرحية بريشت "الأم شجاعة"، أتاحت له فرصة معايشة صاحب نظرية المسرح الملحمي، مثلما كان للكاتب السوري الراحل فرصة محايثة صعود مسرح التغريب في ألمانيا وفرنسا، والاطلاع على عروض بيتر فايس ومسرح التسييس، مما كان له أثر واضح في هذه النزعة التجريبية. ولكن الكاتب لا يفسّر على الإطلاق طبيعة الحلول التي اهتدى هو إليها بمجهوده الشخصي. فتأثير بريشت فيه لم يتجاوز حدّ الإلهام والإيحاء الذي انطلق ونوس بعده بحثاً عن صيغه الخاصة به، بعد أن جرّب صيغة قصصية خطيرة، لم يكن ليجرؤ عليها، لولا أنه أصبح في مطلع التسعينيات في قمة نضوجه، وتمكّنه من أساليب فنية مركّبة وضعته مديراً للمسرح التجريبي في سوريا. فالدكتور بالمي، المحلل النفسي في النص الأصلي يروي مقطوعات من أحداث مرّت به في مذكرات يمليها على سكرتيرته، والمؤلف يخرج هذه الأحداث على طريقته، موزّعاً الأدوار بين الطبيب والأبطال، ومسلّطاً الضوء على الجزء الذي يعنيه من المسرح، تاركاً لشخصية الطبيب حق التعليق من دون كسر الوهم المسرحي، أو تبخير واقعيته، لكن ونوس لم يكتفِ بالطبيب ليؤدي دور الكورس اليوناني القديم، بل أدخل  اثنين من مرضاه يرمزان إلى المجتمع الذي يدافع عن نفسه بالخداع والتجاهل، كي ينصحا الجمهور بألا يصدّق ما يقال له، فهو كذب أو مبالغة على أحسن الفروض.

 

لقد جاء تقسيم المسرح في "الاغتصاب" إلى ثلاثة مستويات متناظرة ومتجاورة ومتراكبة، من ركن صغير يمثّل عيادة الطبيب منوحين، إلى منزل الأسرة البائسة، ومكتب الأمن العتيد، فجاء تكويناً من أفضل الحلول الإخراجية المقترحة أصلاً في النص، إذ أتاح هذا التقسيم للإخراج عند توزيع المناظر، إبراز التناقض الإنساني بينها والتكامل الوظيفي في آنٍ. أما بالنسبة إلى المدلول الاجتماعي الذي رمى إليه ونوس، فلقد ذهب إلى أبعد من مجرّد إدانة لأعمال التعذيب السياسي، فقدّمها في جذورها التاريخية العميقة ودرس أسبابها النفسية لدى من يُقدمون عليها، ويستنفدون من كل ما يمكن وكل ما يقال للدفاع عنها وتبريرها، ثم تكون النتيجة الرهيبة التي ينتهي إليها العرض، أنها إضافة إلى كونها تشويهات اجتماعية ونفسية شائنة، فهي لا تقضي فقط على ضحاياها، وإنما على جلاديها كذلك. وهي بهذا سلاح ذو حدّين يجتث أحدهما اللحم البشري الذي يقع عليه، بينما يقطع اليد التي تمسك به. وونوس ومن قبله باييخو وصلا إلى هذه النتيجة بوسائل درامية بحتة، أبعد ما تكون عن الخطابية، أو النزعات الأخلاقية الجوفاء. قفد أدار الكاتبان أحداثهما في مناخ عائلي حميم، مستخدمين حيلة نفسية معقدة، هي عملية الإسقاط التي توقع البطل في مأزق لا منفذ منه، وذلك عندما يصاب إسحق بالعجز الجنسي كنوع من الكارما، أو العقاب على ما فعله بأحد ضحاياه، ثم يعاقب هذا كخلل شخصي لا يصاب به هو فقط، وإنما تصاب به زوجته أيضاً، التي نجح المؤلفان في رسم شخصيتها بلمسات ماهرة، ثم لتكون النهاية دوّامة مأساوية تقع فيها شخصيات العرض، وقد احترقت بأوضاع خاطئة ومدانة، فإذا انتهت الزوجة ماري في نص (باييخو) إلى قتل زوجها دانييل بمسدسه الحربي بعد اكتشافها لممارسته للتعذيب. 

لقد كان على الجمهور في إستوديو شريف شاكر، أن يتجاوز الهيكل الظاهري لهذه الأحداث، وأن يعايش شخصيات العرض في أعمق تحولاتها النفسية وأصغر دلالاتها الاجتماعية والسياسية، كدرس مسرحي طمح إلى تحقيق نضج شخصي وسياسي معاً، وفتح عيون المتفرجين على تجارب تستحق أن يستلهمها مسرحيون عرب للتعبير الفني عن المرحلة التي تشهدها مجتمعاتهم اليوم. فقد اعتمد مخرج العرض على المساحة الفارغة، لتلعب الإضاءة عاملاً حاسماً فيها للانتقال من فرع التحقيق، إلى حفلات التعذيب، إلى بيت إسحق ومنزل جدعون، وصولاً إلى مكتب الطبيب منوحين من دون الاعتماد على قطع ديكور ضخمة، أو محاولة تكديس قطع إكسسوار وملابس فائضة عن حاجة الممثلين. 

المزيد من ثقافة