Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الانتهازية المفضوحة في "هوب لا... ها نحن أحياء!"

حين هندس إرنست موللر انتحاره النيويوركي في مسرحيته

من تقديم لمسرحية "هوب ... ها نحن أحياء!" (موقع المسرحية)

في عام 1939 انتحر الكاتب الألماني إرنست توللر في غرفة فندق وسط في نيويورك واضعاً حداً لحياة عاشها يائساً من تحقيق أي من أحلامه الكبرى، كارهاً أن يعيش في عالم كان يخشى أن يسيطر عليه النازيون.

وكان ذلك في زمن كثر فيه موت المبدعين انتحاراً، وحسبنا أن نذكر في السياق فالتر بنجامين في الجنوب الفرنسي وستيفن زفايغ في البرازيل. لكن توللر أتى متميزاً عن هذين الأوروبيين الآخرين بكونه سبق له أن هندس انتحاره مستخدماً بديلاً له أول الأمر الشخصية المحورية في واحدة من أشهر مسرحياته "هوب لا... ها نحن أحياء!" التي كان قد قدمها قبل أعوام من رحيله الطوعي وحققت نجاحاً لا يضاهيه صخباً إلا السجال الذي أثارته.

وتعتبر هذه المسرحية واحدة من أمهات المسرح السياسي خلال الربع الثاني من القرن العشرين، زمن تسييس المسرح إلى حد لا سابق له. ويروي إريك بنتلي في مقال عن توللر أنه حين قدمت هذه المسرحية على خشبة "كامرشبيل" البرلينية بإخراج إرفين بسكاتور وحلت اللحظة التي تقول فيها فراو ميلر إنه "لم يبق أمام المرء إلا أن يفعل شيئاً واحداً: إما أن يشنق نفسه أو يغير العالم!".

وقف جمهور الشبان في الصالة منشداً نشيد الأممية! وكان من الطبيعي للنازيين أن يضموا نص المسرحية إلى ألوف الكتب التي أحرقوها يوم استولوا على الحكم في ألمانيا.

انتهازيو اليسار وسياسة اليمين

ومع ذلك لا تتحدث المسرحية عن النازيين مباشرة بل تدور في حيز زمني يتراوح بين 1919 و1927 بدءاً من اعتقال السلطات الألمانية خمسة من مناضلي جماعة "سبارتاكوس" التي أجهض انقلاباً قاموا به.

غير أن السلطات سرعان ما تعفو عن أربعة منهم رامية خامسهم كارل توماس في مستشفى المجانين بسبب غرابة أطواره... ويخرج كارل من المأوى بعد ثماني سنوات صور لنا المخرج بسكاتور ما حدث فيها من تغيرات سياسية في ألمانيا والعالم على جدار الديكور بشكل مبتكر.

غير أن كارل توماس لم يكن عالماً بما حصل، ومن هنا بوغت حين وجد رفاقه في السجن وقد صاروا في قمة السلطة، بل إن واحدهم والذي كان يعتبر الأكثر خطورة، فلهلم كيلمان صار رئيساً للحكومة ووزيراً للداخلية.

 بعد حين وإذ يصل كارل إلى حد اليأس وتذهله تصرفات رفاقه السابقين ومحاولاتهم استيعابه بالكلام المعسول، يقرر اغتيال كيلمان ولكنه يفشل حتى هنا حيث يسبقه ساق يميني متطرف يقتل الرئيس بوصفه... يسارياً سابقاً!

صورة يائسة للمجتمع مرتبك

لقد كان واضحاً مقدار اليأس والخيبة اللذين صبهما توللر في هذه المسرحية هو الذي كان لسنوات خلت مناضلاً من أنصار السلم، حيث إن ثلاثة عشر شهراً أمضاها على جبهة القتال خلال الحرب العالمية الأولى كانت كافية له كي يكره الحروب وينخرط في نضال سلمي.

وهكذا حين سرح من الجيش وكانت تلك الحرب لا تزال مشتعلة، توجه تولر إلى هايدلبرغ حيث نظم رابطة طلابية تدعو إلى السلام ووقف الحرب. تنبهت إليه الشرطة وراحت تطارده، فلجأ إلى مدينة ميونيخ حيث دبر له أصدقاؤه ملجأً، لكنه ما إن أمن على نفسه هناك حتى انطلق يناضل مجدداً وسعى إلى تنظيم إضراب لعمال مصانع الأسلحة، وراح يحرض أولئك العمال على الامتناع عن إنتاج آلات الدمار.

وظل على تلك الحال حتى اندلعت ثورة ميونيخ في 1918، وكان قد أضحى اشتراكياً متحمساً، فإذا به ينتخب عضواً في اللجنة المركزية لسوفياتات العمال والفلاحين والجنود في بافاريا.

ولقد أسهمت تلك السوفياتات في ثورة سبارتاكوس، وحين فشلت تلك الثورة التي قادتها روزا لوكسمبورغ، قبض على إرنست تولر وحكم عليه بالإعدام، لكن الحكم سرعان ما بدل بالسجن خمس سنوات، أمضى منها عامين بالفعل بين 1921 و1923.

هذا الجزء الأول من سيرة إرنست تولر كان من شأنه أن يجعل من الرجل زعيماً حزبياً وسياسياً كبيراً. لكنه كان أكثر من هذا، كاتباً كبيراً من أبرز الكتاب الألمان خلال الثلث الأول من القرن العشرين، وهو كان في عمله الكتابي أكثر نجاحاً منه في عمله السياسي، وإن كان مؤرخو تولر يرون أنه ليس ثمة انفصال بين الجانبين فيه. ومهما يكن، فإن تولر الكاتب لم يولد إلا في 1919، أي في الفترة ذاتها التي فشل فيها مشروعه السياسي.

من الحرب المرفوضة إلى المسرح الواعد

ولد إرنست تولر في 1893 بساندتشين، لتاجر لديه من المال ما مكن ابنه الحصول على تعليم جيد متنقل بين الدنمارك وفرنسا، متابعاً دراسته العليا في جامعات غرينوبل، هايدلبرغ وميونيخ.

غير أن دراسته أتت الحرب العالمية الأولى لتقطعها، وحين انتهت الحرب وحلت فترة الاعتقال والسجن كان تولر قد نضج ككاتب، ولكن ككاتب يريد أن يضع مواهبه في خدمة أفكاره السياسية، ومن رحم تلك الرغبة ولدت، على أي حال معظم الأعمال الأولى التي كتبها وكانت أولاها مسرحية «التحول» التي كتبها في 1919.

وفي 1921 وعلى الرغم من أن إرنست تولر كان نزيل السجن، قدمت مسرحيته التالية «الإنسان - الجمعي» في برلين تحت إشراف أرفن بسكاتور، والحقيقة أن النقاد ينظرون إلى هذا العمل الذي أثر تأثيراً كبيراً على المسرح الروسي الثوري، باعتباره واحداً من أعظم الأعمال المنتمية إلى حس المسرح النضالي الذي تجلى ضمن إطار التعبيرية الألمانية.

ولقد كانت تلك المسرحية من النجاح، بحيث شجعت تولر على كتابة مسرحيته الثالثة «هنكمان» (1953) التي امتزج فيها الأمل بالغنائية باليأس، لرسم مناخ تنبؤي لما كانت عليه ألمانيا وشعبها غداة الهزيمة العسكرية والسياسية التي حلت بهما.

والحال أن الجو المأساوي هذا سيظل طابعاً مميزاً لمسرحيات تولر التالية ولا سيما منها مسرحية «هوب لا... ها نحن أحياء!» التي أخرجها إرفن بسكاتور كذلك.

ففي هذه المسرحية ينتهي الأمر بكارل توماس، وهو شخصيتها الرئيسة، إلى الانتحار شنقاً في زنزانة سجنه. وكان ذلك الانتحار الممسرح شبه تمهيد لانتحار آخر أكثر مأساوية، وحقيقي هذه المرة، سيحدث في الثاني والعشرين من مايو (أيار) 1939، في غرفة فندق نيويوركي، والانتحار الذي نعنيه هنا هو بالطبع انتحار إرنست تولر نفسه.

نيويورك... الهروب المستحيل

«هوب لا... ها نحن أحياء!» قدمت في 1927 حال فراغ تولر من كتابتها لتكشف عن مقدار اليأس الذي كان مخيماً على الحياة الثقافية في ألمانيا، في الوقت الذي كانت فيه النازية تنمو لتزداد خطورتها أكثر وأكثر. وبين 1927 و1933 قام تولر بزيارات عدة لنيويورك حيث قدمت أعماله وألقى العديد من المحاضرات وهو خلال تلك الفترة زار كذلك العديد من المناطق الأميركية كما زار الاتحاد السوفياتي.

وفي 1933 حيث سيطر النازيون على الحكم في ألمانيا فضل تولر التوجه إلى أميركا فوصل نيويورك لكنه بدلاً من أن يخلد إلى الهدوء ويعيش مجده ككاتب معروف ومنفي، استعاد حمياه الثورية التي كانت قد خبت خلال فترة سجنه وراح يناضل ضد الفاشية، وبعد ذلك توجه في 1938 إلى إسبانيا الحرب الأهلية، حيث راح يقوم بحملات لصالح أبناء اللاجئين الإسبان.

غير أن ذلك كله سرعان ما انهار، وفي لحظة من اللحظات وجد تولر نفسه ضائعاً وسط مشاكله العائلية من جهة، وانهيار الجمهوريين والتقدميين الإسبان لصالح رجعيي فرانكو، وازدياد حدة التدمير النازي لألمانيا. في تلك الآونة كان الميثاق الذي وقع في ميونيخ بين الاتحاد السوفياتي وألمانيا الهتلرية، فرأى تولر أن كل شيء قد انتهى وأن السواد يعم كل شيء، فوضع حداً لحياته في فندقه النيويوركي مؤثراً الانسحاب من هذا العالم.

مهما يكن، فإن قراءة لمجمل أعمال تولر على ضوء مأساة انتحاره ستكشف لنا عن عنصر تراجيدي صارخ يعبر كل أعماله من «شعر السجناء» إلى «يوم البروليتاريا» حيث يسود الألم والموت.

والطريف أن الكتاب الوحيد الذي كتبه تولر ويبدو لنا اليوم عابقاً بالحياة هو «كتاب السنونوات» الذي وضعه حين كان مسجوناً.

المزيد من ثقافة