Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جذور مملوكية وراهن يغلفه البؤس في رواية "تمار"

المصرية مي خالد تصل الحاضر بالماضي بين تبليسي والقاهرة

مشهد من مصر المملوكية (غيتي)

"تمار" و"تقى"، شقيقتان، توأم، لكنهما مختلفتان جذرياً شكلاً ومضموناً، إذ نشأت الأولى في حي غاردن سيتي الراقي، ونشأت الأخرى في حي الدرب الأحمر الشعبي، وذلك بعد وفاة والدهما قبل ولادتهما بأربعين يوماً في حادث سير، ووفاة الأم عقب الولادة مباشرة.

تنتمي الشقيقتان من ناحية الأب إلى أسرة توارثت الثراء، ويتضح لاحقاً أنها من أصول شركسية كانت تعيش في النطاق الجغرافي الذي يسمى حالياً جمهورية جورجيا، بينما انتمت الأم إلى أسرة فقيرة.

 الجد "جمال الشوافيلي"، وهو مصمم أزياء وخياط، يصاب في سنواته الأخيرة بألزهايمر، وبعد وفاته تضطر "تمار" إلى الانتقال مع جدتها إلى المنزل الذي تعيش فيه "تقى". مات الجد بعد أن باع الأتيليه والمحل اللذين كان يملكهما ولم يخبر أحداً عن مكان الأموال التي جناها من عملية البيع تلك. ترك حقائب تحوي ملابس كان قد صممها بنفسه لزوجته، وصندوق رسائل ودفتر يوميات. "دخلت الجدة في علاقة عشق مع الحداد" (بحسب الرواية) بعد وفاة وحيدها "شامل" والد "تمار" و"تقى". وكان الجد قد تخلى قبل وفاته بسنوات طويلة عن حلمه أن يصير كريستوبال بالينسياجا؛ المصمم الشهير بالتصاميم المبتكرة والألوان الصاخبة والذي ألهم معظم ملوك الموضة. وبدلاً من أن يحمل لقب "سيد الخياطة" مثل بالينسياجا، تحول إلى مجرد خياط رجالي، "يفصل بذلات مكررة الألوان والأشكال، فيما عدا فتحة هنا، وجيب أو زر مختلف هناك". (الرواية صـ77).

من القاهرة إلى تبليسي

هذه التفاصيل التي سيتعرف إليها قارئ رواية "تمار" (العربي للنشر- القاهرة) للكاتبة المصرية مي خالد، من خلال تعدد صوتي، سرعان ما ستنحيه الكاتبة جانباً، لتهيمن "تمار" على السرد حتى نهاية الرواية التي تتألف من 287 صفحة من القطع المتوسط، فتنتقل من القاهرة إلى تبليسي عاصمة جورجيا في إطار تشويقي زاخر بالغوص في تاريخ هذا البلد، وخصوصاً في ما يتعلق بأنه كان موطن وسلاطين دولة المماليك الشراكسة، التي تأسست في سنة 923م، وانتهت على يد السلطان العثماني سليم الأول في سنة 1517.

في ظل هيمنة "تمار" على السرد المثقل بولعها بالتاريخ والموضة التي درست أصولها في لندن بتشجيع من جدها، وانشغالها كذلك بتذكر تفاصيل علاقاتها العاطفية "العذرية" منذ مراهقتها وحتى تخطيها الأربعين من عمرها، ثم التحول الجذري في مسار حياتها بسفرها إلى تبليسي لتتعرف على جذور عائلتها التي كانت تعمل بالتجارة، بين جورجيا بمسماها القديم ومصر المملوكية، من خلال طريق الحرير، تبهت شخصية "تقى"، لتعود قرب نهاية الرواية فنعرف أنها عانت طويلاً من اضطراب نفسي انتهى بانتحارها، بينما قررت "تمار" البقاء في تبليسي وتأسيس مشروع أزياء تحت مسمى "تمارا تنورة" بمساعدة القس الشاب "أندراوس".          

هذا القس كان أحد أجداده يحمل الاسم نفسه، وكان قساً أيضاً، والأخير كان مولعاً بالجدة البعيدة لـ"تمار" و"تقى"، وكانت تدعى أيضاً "تمار"، لكن أهلها أرسلوها مع ابن خال لها يدعى "زكريا" مع قافلة إلى مصر، فتركت للقس فردة من قرطها، فيما أهداها هو نسخة من الإنجيل، واشتعلت عقب ذلك حرب مدمرة، جعلت عودتهما إلى تبليسي متعذرة، فدخلا في الدين الإسلامي وتزوجا ليؤسسا عائلة جمعت لقبي الزوجة "أبو لاسة"، والزوج "الشوافيلي"، وهما محرفان عن أصليهما الجورجي.

وصيتان

أندراوس الأخير وصلته بالوراثة وصية أندراوس الأول، ومفادها البحث عن "تمار" الأولى أو نسلها لاستعادة نسخة الإنجيل وإعادة فردة القرط، فيما توارثت أسرة الشوافيلي وأبو لاسة وصية الجدة الأولى بالحفاظ على فردة القرط الأخرى والكتاب المقدس جيلاً بعد جيل. لكن يبدو أن "جمال الشوافيلي" كان قد نسي المغزى من ذلك حتى وصلت رسالة من "أندراوس" الأخير تتضمن أصل الحكاية. يبيع "الشوافيلي" ممتلكاته في القاهرة ويرسل المال الذي جناه من عملية البيع تلك إلى القس أندراوس ليكون رأسمال مشروع "تمار" في تبليسي. وبعد موت جمال الشوافيلي يتواصل أندراوس مع تمار ويطلب منها الحضور إلى تبليسي ليتمما تبادل ذلك الميراث الزاخر بالدلالات الرمزية، الدينية والتاريخية، على حد سواء.    

تقول "تمار": "قد أكون ابنة شرعية للمكان وذاهبة للتعرف على جذوري" صـ265 ، وكانت في طريقها إلى دير في قلعة مدينة "جريمي" لا تزال صامدة منذ القرن الـ16 الميلادي، عندما كانت عاصمة مملكة كاخيتي. تفاجأ بأن القس "أندراوس"، "شاب وسيم، أشقر الشعر، يعقده ذيل حصان، لعينيه زرقة صافية، ولبشرته لون وردي فاتح".  

وفي ذلك الدير تلتقي "تمار" "أندراوس"، فيحكي لها أن الجدة "تمار" ابنة أحد أكبر تجار الحرير والأقمشة في كاخيتي، شعرت بالإهانة لعدم استجابة الجد أندراوس لرغبتها في لقائه، واستجابت لطلب والدها في أن يرسلها مع القافلة المسافرة إلى مصر تحت رعاية خالها وابنه. خلعت فردة قرطها، وأعطته لأندراوس، ولم يجد تحت يده سوى إنجيل الكنيسة ليمنحه لها، وليحفظها في طريق سفرها الطويل.

 

حطت الراحلة في وكالة الغوري في القاهرة، في الوقت الذي أغارت فيه قوات الشاه عباس الأول الفارسي على كاخيتي، ودكت المدينة بالكامل. كان هذا في عام 1615. كانت القوافل تحمل الأقمشة الحريرية التي تنتجها مدينة يونن في الصين، التي تخصص منتجاتها للتصدير إلى مصر خلال حكم الشركس (المماليك) وقد كانت لعائلة "إيشوفيللي" والد تمار وأسرة "أبولادزه" والد زكريا ابن خالها من أكبر العائلات التي تخرج في قوافل نقل الأقمشة والمنسوجات عبر طريق الحرير.

دخلا راضيين في الإسلام وتزوجا وبات نسلهما يحمل اسمي "الشوافيلي و"أبو لاسة". وأوصت "تمار" بأن تسمى الابنة الكبرى من ذريتها "تمار"، وأن تحتفظ بفردة القرط والإنجيل، لسبب مجهول، لم يعلمه حتى زكريا. كان شقيق "ماريام"، خادمة "أندراوس" الأول، يعمل خادماً في القافلة التي سافرت فيها "تمار" و"زكريا"، وكان يراسل شقيقته التي تزوجت من "أندراوس" وأنجبا ولداً. وقبل موته أوصى "أندراوس": "أعيدوا للمرأة أو ذريتها فردة قرطها، واسترجعوا الكتاب المقدس".

واحدة لامعة والأخرى صدئة

فردتا القرط، تقول "تمار": "تشبهاني أنا وأختي؛ واحدة لامعة والأخرى صدئة. تمار إيلشوفيللي هي الأصل. تمار الشوافيلي هي الحفيدة".  

كان ذلك ضمن ما عرفته "تقى" التي هيمن عليها اعتقاد بأنها و"تمار" شخص واحد، وراحت تتعجب من أن "تمار" تزوجت من "محمد الخيامي" وهو الوحيد الذي لم تشعر تجاهه أصلاً بأي ميل عاطفي ولم تتزوج من أي ممن أحبوها: "ضياء رفيق الطفولة، فادي حبيب المراهقة، شادي محرك أنوثتها، ألبرت الإنجليزي، مطيع الفلسطيني".

ما سردته تمار سيتضح أنه يوميات كانت ترسلها مباشرة إلى "تقى"، أو تحكيها لها وجهاً لوجه على شاشة التليفون، في مكالمات الفيديو. تسأل "تقى": "هل يمكن أن ترتبط تمار بأندراوس، خصوصاً وأنها قد انجذبت إلى وسامته الطاغية وباتت تفضل البقاء في تبليسي عن العودة إلى مصر؟"

تعاني "تقى" من عقد عدة؛ منها سوء معاملة جدتها لأمها لها، وفشل زواجها من "علاء المصري"، الذي كان يعايرها ببدانتها وشرهها للطعام، قبل أن تضبطه يخونها مع أخرى، فتحاول قتلها وينقلها الجيران إلى مصحة نفسية... "أخذت روحي تهيم في سماء الرؤى، لم تكن خيالات وأطيافاً كالتي نشاهدها في المنامات، بل رؤى يقظة أراها بحواس قلبي، ويحادثني فيها الأحباب والأولياء وأصحاب الكرامات". صـ 279.

وفي الأخير يعيدها خالها "عادل" إلى شقة الدرب الأحمر. لكن سرعان ما تعود من جديد إلى المصحة وترعاها صديقة عمرها وهي امرأة مسيحية تماثلها في العمر وتدعى "ميراي"... تقول "تقى": "أجمل ما في ميراي أنها لا تحاول أن تثنيني عن طريق أسلكه، أو تسخر مني حين أحاول الارتقاء في المقامات، فهي تعرف أنني وتمار قد ولدنا في ليلة الإسراء والمعراج، وقد نلت أنا نصيباً من الخصوصية، وصار لي معراج كشفي". لكنها في الأخير ستنتحر بأن تطعن نفسها بمقص كبير. وكان خالها "عادل" قد هاجر إلى ألمانيا وتزوج وامتلك هو وزوجته مسرحاً صغيراً في ميونيخ، علماً أنه عندما فشلت في التعليم الجامعي أخذها معه إلى ألمانيا حيث عملت في خدمة الغرف في أحد الفنادق.    

هنا لا تكتب مي خالد، صاحبة روايات "سحر التركواز"، و"مقعد أخير في قاعة إيوارت"، و"تانغو وموال"، رواية تاريخية، بل تكتب رواية تصل الراهن بما انقضى، وترسم بعين بطلتها شخصيات من مصر وجورجيا، باستثناء "مطيع" أو "ميتو"، الكاتب والمخرج  الفلسطيني الذي وجد في البلد القوقازي مهجراً، وساحة لسرد حكاياته عن فلسطين وما جرى لها. فيما وجدت "أمينات" في تبليسي مأمناً، ففرت إليها من الصراع الطائفي في أبخازيا، فيما انضم ابنها المراهق إلى الدواعش في سوريا. تقول "أمينات": "كنا نغني باحترام ونرقص بوقار، ومع ذلك لم يعجبهم، وحرموا علينا الغناء" صـ193.

"تمار" التي منحتها الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة الدولي للكتاب جائزة أفضل عمل روائي، صدر في مصر، هي رواية بحث عن الجذور، لكن سردها جاء مثقلاً بكم هائل من التفاصيل والحكايات، وكأنها روايات عدة، وليس مجرد رواية واحدة، أبرز ما فيها هو إلقاء الضوء على حال امرأة بلغت أوج نضجها في بدايات القرن الحادي والعشرين، تصر على أن تكون قوية ومستقلة، ووجدت في محيطها الأسري والمعرفي ما ساعدها على تحقيق ذلك، فيما استسلمت شقيقتها التوأم لضعفها في ظل ظروف قاسية خصوصاً في جانبها المعرفي القائم على التدين الشكلي والتشبث بالخرافات. 

المزيد من ثقافة