Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بيان السورياليين الصادم يوم رحيل صاحب "تاييس"

"أناتول فرانس لا يموت... لأن الجثث لا تموت"!

أناتول فرانس في مكتبه (غيتي)

من المؤكد أن الاستفزاز بل قلة الأدب كانا من العلامات الفارقة للسورياليين، ومن قبلهم للدادائيين. فهؤلاء وأولئك لم يكن يريحهم شيء بمقدار ما يريحهم قول وفعل ما من شأنه أن يغيظ الآخرين. وهم لو يكونوا يفرقون في أوساط هؤلاء الآخرين بين الطيبين والأشرار أو بين اليمينيين والتقدميين أو حتى بين دعاة التغيير الذين لا يتوانون عن مسايرتهم ودعاة التخلف من الذين يؤلبون الناس ضدهم. فالاستفزاز يجب أن يطال الجميع، وقلة الأدب يجب أن تسود وإلا فلا فائدة ترتجى من أي قول أو فعل أو من أي إبداع. غير أنهم وصلوا في هذه الممارسة ذات يوم إلى مستوى لن يغفره لهم الفرنسيون. وكان ذلك يوم رحيل الكاتب أناتول فرانس.

فأناتول فرانس كان يُعتبر لدى معظم الفرنسيين أيقونة حقيقية سواء كان ذلك بفضل كتبه أو بفضل مواقفه السياسية المحببة والقوية، كما سوف نرى بعد قليل. وحدهم اليمينيون المتطرفون كانوا يكرهونه. والسورياليون لم يكونوا يوماً من اليمينيين المتطرفين، ومع ذلك لم يتورعوا عن إصدار بيان عُرف تاريخياً تحت عنوان "موت جثة". وهذا البيان الذي وقعه يومها عدد من أدباء سورياليين كبار سيصبح معظمهم من أساطين الأدب والفن في فرنسا، وبعضهم حتى من غلاة الشيوعيين، من لويس آراغون إلى بول إيلوار ومن فيليب سوبو إلى اليميني جوزف دلتاي واليميني المتطرف (الذي سرعان ما سيلتحق بالركب الهتلري) دريو لا روشيل، إضافة إلى كاتب البيان الزعيم الأوحد للسوريالية أندريه بريتون. لقد كان بيان نعي سخيفاً بالتأكيد، ومن النوع الذي لا يجرؤ حتى اليمين المتطرف على تبنيه. ومع هذا تبناه طليعيو فرنسا وضموا إليهم فيه تبني بعض رجعييها كما ضموا إلى أناتول فرانس في شتيمتهم بعض أسماء كبيرة أخرى، ليعتبر بيان "موت جثة" فضيحة الفضائح في الحياة الثقافية الفرنسية خلال سنوات العشرين أي عند بدايات انتشار النزعة السوريالية.

فرنسا بين السخط والذهول

والحال أن البيان، بقدر ما أثار سخط الفرنسيين بشكل عام والطبقات المثقفة بشكل خاص، أثار دهشتهم إن لم نقل ذهولهم. ولا سيما حين تلقفوه أول الأمر ليجدوه يبدأ بلغة هادئة وأسلوب مطمئن قائلاً "أناتول فرانس لم يمت"، وكانت العبارة طيبة من النوع الذي تبدأ به عادة تأبينات المبدعين، والمفترض أن يُستكمل بالقول مثلاً أن المبدعين لا يموتون لأن أعمالهم تبقى حية في ذاكرة قرائهم... ولكن هنا لا شيء من هذا. بل بكل بساطة، تابع البيان قائلاً "بل إنه لن يموت أبداً. وذلك ببساطة لأن الجثث لا تموت". إذاً بالنسبة إلى السورياليين لم يكن أناتول فرانس سوى جثة. ولهذا فقط أعلنوا أنه لم يمت ولن يموت أبداً. بل إنهم عادوا وأصدروا عدداً من مجلتهم "الثورة السوريالية" راح كل واحد منهم يتفنن فيه في المزايدة حتى على قلة أدب البيان وانعدام أي ذوق فيه. فكتب أراغون مزايداً، أنه بات الآن يحلم بأن يلطم ميتاً (!)، وما كان هذا الميت سوى ذلك المبدع اليساري الكبير. فهل كان أراغون الذي لن يلبث أن يصبح بعد حين أيقونة اليسار الفرنسي الكبرى، جاهلاً بمكانة أناتول فرانس عند اليساريين تحديداً وبكونه من مؤسسي صحيفة "الأومانيتيه" الناطقة باسم اليسار أولاً ثم الشيوعيين لاحقاً؟ ولماذا تراه لم يعتذر بعد حين عندما صار شيوعياً إلى أقصى درجات الستالينية؟


 

علامة على سقوط مبكر للمبادئ؟

مهما يكن من أمر جعلت تلك الفضيحة كثراً يتساءلون منذ ذلك الوقت المبكر عما إذا كانت قد سقطت تماماً أمام ضراوة السنوات الأخيرة تلك المبادئ التي كانت تتحدث عن دور المثقف في إصلاح العالم والمجتمع؟ كثر يقولون إن هذا قد حدث فعلاً، وإن المثقف والمفكر اللذين كانا يحلمان خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر والربع الأول من القرن العشرين، بدور للفكر في صناعة التاريخ، انتهى أمرهما منذ زمن بعيد. وكان أناتول فرانس كما يبدو من ضحايا ذلك الإفلاس.

فهو كان مثقفاً نشطاً ومبدعاً حلم ذات يوم بأن في وسع الأفكار الأكثر نبلاً، أن تلعب في التاريخ المعاصر، دوراً كان سبق للفلسفة أن لعبته في الحضارة الإغريقية القديمة، ثم لعبت الأفكار الدينية الكبرى بعد ذلك دور الأخذ بيد المجتمع إلى درجات سامية من الرقي والعدالة. والحال أن أناتول فرانس حينما مات عام 1924، كان يعبر عن بعض خيبة أمل، لكنه في المحصلة النهائية كان لا يزال متمسكاً بفكرته تلك: الفكرة الموروثة من عصر الأفكار الكبرى الممتد من زمن روسو إلى زمن إميل زولا. وهي فكرة لا شك أن الدور الأساس الذي لعبه المثقف في قضية درايفوس، قد عززها. وأناتول فرانس كان من أنصار الضابط اليهودي الذي اتهمه اللاساميون الفرنسيون، ظلماً من دون ريب، بأنه يتجسس لحساب الألمان، مما أقام فرنسا ولم يقعدها، ووصل ذروته مع تبرئة الضابط درايفوس ورسالة إميل زولا الشهيرة "إني اتهم"، ثم مع اندلاع حال عنصرية في فرنسا لم يسبق لها مثيل سرعان ما تجلت بعد الهزيمة أمام زحف الجيوش الألمانية، أوائل سنوات الحرب العالمية الثانية
 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الكتابة فعل مقاومة

لقد كان إميل زولا، كمثقف، الأعند والأصلب في موقفه. لكن أناتول فرانس كان صلباً أيضاً في هذا الموقف، وإن كان اختار أساليب أخرى، أكثر هدوءاً، وربما أكثر فاعلية على المدى الطويل أيضاً. ومن بين الوسائل التي اختارها صاحب "الآلهة العطشى" و"تاييس"، كتابة رواية أصدرها عام 1899 بعنوان "السيد برجيريه في باريس"، تغوص إبداعاً في صلب الحال الدرايفوسية.. وكان السيد برجيريه في الرواية مثقفاً حقيقياً وتنويرياً، يحمل أفكار فولتير ويحملها ما يشاء من المعاني، وهو بتلك الأفكار وبمناصرته لبراءة درايفوس وللمبادئ الاشتراكية، نراه في باريس يخوض الصراعات وكله ثقة بالفكر الإنساني الرفيع. والحال أن أناتول فرانس عرف كيف يعبر من خلال تجوال السيد برجيريه ومحاكاته، عما كان يعتمل في فرنسا

فأناتول فرانس عرف دائماً، بلغته الجزلة وإيمانه العميق بالتقدم وبالإنسانية كيف ينفخ روحاً جديداً ومتفائلاً، في أفكار ومواقف كان يمكن أن تبدو- على ضوء انتهاء القرن التاسع عشر وفشل الثورات الاشتراكية المتلاحقة، حتى ذلك الحين- عبثية وغير منطقية. لكن أناتول فرانس لم يكن ليتوقف يوماً عن التعبير عن عمق إيمانه بانتصار أفكار العدالة في المستقبل. وهو عبر لاحقاً عن صواب فكره، حينما اندلعت الثورة البولشفية عام 1917، محققة "بعض نبوءاتي" كما كان يحلو له أن يقول. ولقد كان من "حسن حظه" على أي حال أن مات وبريق تلك الثورة في أوجه، معيدة الاعتبار لأفكار الاشتراكية والعدالة، قبل أن تطغى النزعة الستالينية مودية بكل "الأفكار النبيلة" إلى التهلكة مما جعل مثقفين كثراً من طينة أناتول فرانس لا يتوانون عن التعبير عن خيبة أملهم.

عن المستقبل المضيء
 أناتول فرانس، واسمه الحقيقي أناتول تيبو الذي ولد عام 1844 هو ابن لصاحب مكتبة، كان حتى سن الخمسين يعتبر كاتباً روائياً جيداً متميز الإبداع ولكن... ضئيل الأفكار. لكن بعد ذلك، واعتباراً من تسعينيات القرن التاسع عشر، راح يزاوج بين الإبداع والفكر، خصوصاً أن الأحداث المتلاحقة جعلت منه مناصراً للأفكار الاشتراكية وكاتباً متحرراً، مما دفعه إلى الكتابة الصحافية في جريدة "الأومانيتيه" الاشتراكية في عهد صديقه جان جوريس، والشيوعية لاحقاً... وهكذا، راحت رواياته على التوالي تندد بالسلطة وبالنظام الفضائي وباستغلال الرأسماليين لعمالهم كما فعل في "جزيرة البطاريق" كما ندد دائماً بالاستعمار والحرب. أما المجتمع المستقبلي المثالي فنجده يعبر عنه في روايته "فوق الحجر الأبيض". أما في روايته الكبرى "الآلهة العطشى" فإنه ندد بالإرهاب الذي تلى الثورة الفرنسية وحذر الثوريين عموماً من مخاطر التطلع إلى السلطة والفساد الذي تسببه. وهو نال جائزة نوبل عام 1921 قبل ثلاث سنوات من رحيله. وربما كان ذلك الفوز يومها ما حرك أحقاد بريتون ومشايعيه!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة