Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فرنسا وتقاليد السياسة الخارجية

الحضور الثقافي في مستعمراتها القديمة ودورها المحوري بالاتحاد الأوروبي دفعا بها لتكون جزءاً مهماً من النظام العالمي الجديد

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعانق إحدى ضحايا انفجار مرفأ بيروت (أ ف ب)

قام الرئيس ماكرون بزيارة نهاية الشهر الماضي لبيروت، هي الثانية منذ التفجير الهائل الذي لا تزال آثاره التدميرية تتواصل مادياً ومعنوياً، وكان ماكرون قد قام بزيارة سريعة للعاصمة اللبنانية بعد التفجير مباشرة، ولم يكتف بإعلان دعم بلاده للمدينة المنكوبة، وإنما أيضاً أعلن عن تنظيم مؤتمر دولي لدعم لبنان، كما طالب بإعادة تأسيس ميثاق سياسي جديد وتشكيل حكومة وحدة وطنية، واشترط كذلك على عدد من الساسة والقيادات التي التقاها مكافحة الفساد وإخراج البلاد من ورطته السياسية والإصلاح. وواصلت الدبلوماسية الفرنسية بعدها ربط المساعدات بإصلاح النظام السياسي اللبناني، وتخلل الزيارة مشهد درامي وهمي من مطالبة عدة آلاف من المواطنين اللبنانيين عودة الحماية الفرنسية في مشهد محزن ليس فقط للبنان وساسته، بل والعالم العربي ولكل من ذاق الاستعمار يوماً، وبعده بدأت تتردد تقارير إعلامية عن دور فرنسي متزايد في مشاورات الساحة اللبنانية، وبخاصة في مشاورات تكليف السفير مصطفى أديب تشكيل حكومة جديدة.

وقد ترأس ماكرون المؤتمر الدولي لدعم لبنان في 9 أغسطس (آب) الماضي، بمشاركة 15 رئيس دولة وحكومة، وأعلن عن بعض المساعدات لدعم لبنان يمكن وصفها بأنها محدودة.

واستهل ماكرون زيارته الثانية الاثنين الماضي بلفتة فرنسية من نوع خالص، وهي مقابلة الفنانة الكبيرة فيروز عقب وصوله، واختتمها بمقابلة الفنانة ماجدة الرومى في مشهد عاطفي آخر، لا يمكن فصل دلالاته عن المحتوى الخاص للقوة الناعمة الفرنسية التي سنعود إليها لاحقاً، ومن ناحية أخرى تسرب عن الزيارة أن ماكرون تحدث بلغة تهديدية لعدد من القيادات اللبنانية، وهو ما نفته مصادر الرئاسة الفرنسية لاحقاً.

وانتقل ماكرون من بيروت إلى محطة أخرى، هي بغداد واستقبل بحفاوة كبيرة وأحيطت الزيارة بكثير من الوعود ورسائل الدعم للعراق، وأنه لايجب أن يكون ساحة للصراع الخارجي، في رسالة اعتبرها كثيرون موجهة لواشنطن وطهران، كما أكد دعمه أيضاً للعراق ضد تهديدات تنظيم داعش.

في شأن الصراع في البحر المتوسط، يعلو الصوت الفرنسي كثيراً، فمنذ أعوام قادت باندفاع ودون خطة متكاملة تدخل الأطلنطي للإطاحة بالقذافي، ثم اتبعت سياسة ماكرة مع انهيار الأوضاع الليبية، وتجاهلت بل في بعض المراحل تماشت مع التحركات التي حاولت أن تمهد الساحة للفصائل المتشددة، ثم تراجعت وبدأت في دعم فصيل الجيش الليبي وقائده خليفة حفتر ما فتح باب المواجهة والتنافس بينها وحليفتها الأوروبية إيطاليا، التي قرأت هذا وكأنه مساع فرنسيةلإحكام نفوذها – في وقت كانت لازالت مستاءة من تدخلها السابق مع الناتو، وفي جميع الأحوال خلق هذا حرب التصريحات المتبادلة بين البلدين، التي تضمنت أوهاماً من الجانبين حول حدود نفوذهما في الساحة الليبية، وعدم إدراك أن أطرافاً دولية وإقليمية أخرى تتمتع بنفوذ أكثر وضوحاً في هذه الساحة. والآن يعلو صوت الدبلوماسية الفرنسية ضد التدخل التركي في ليبيا وكذا ضد العدوان التركي في شرق المتوسط، ولا تكتفي بالتصريحات المتواصلة، بل أيضاً تقود حملة داخل الاتحاد الأوروبي ضد السياسات العدوانية التركية سواء في ليبيا أوشرق المتوسط، وتضيف إلى ذلك تحريك أسطولها البحري، وعقد مناورات مشتركة مع اليونان وقبلها مع مصر، في رسالة واضحة إلى أن رؤيتها لتهديد تركيا لمصالحها واضح  وهو تهديد يتضمن عدة محاور، أولها يتجاوز الساحة الليبية من خلال الدعم التركي للميلشيات المتطرفة بما يهدد أمن البحر المتوسط كله، ويمتد إلى العمق الأفريقى حتى مستعمراتها السابقة في وسط وغرب أفريقيا، وثانيها يتعلق بطموحاتها وأطماعها في ليبيا ذاتها، وثالثها بمخاوفها من التطلعات الإمبراطورية التركية وتأثيرها على حلفائها الأوروبيين شرق المتوسط، كل هذا يدفعها إلى موقف متماسك في مواجهة هذه السياسات التركية ويضعها في قلب تحرك سياسة خارجية نشطة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

منذ عقود تناول بعض المفكرين والباحثين الظاهرة الفرنسية بعد هزيمتها في بداية الحرب العالمية الثانية، ثم نجاحها من خلال المقاومة بزعامة شارل ديغول، في أن تصبح جزءاً من ترتيبات النظام الدولي الجديد ضمن الدول الخمس دائمة العضوية، وتوقف كثيرون بعد ذلك عند خسارتها لمستعمراتها في كثير من الحالات، بحروب هزمت فيها وعلى رأسها الجزائر وفيتنام، رغم أنها كانت دوماً من القوى العسكرية الكبرى، إلا أنها خرجت مهزومة بشدة في هذه المعارك كلها، ولكن فرنسا استخدمت رصيداً آخر في سياستها الخارجية، وهو الحضور الثقافي ووزنها المعنوي عند مئات الملايين من أبناء مستعمراتها السابقة، وحتى غيرهم المرتبطين بهذه الروابط اللغوية الثقافية، واعتمدت على أداة أخرى، وهي دورها المحوري ومعها ألمانيا في قيادة الاتحاد الأوروبي، وفي الواقع أن الركيزتين أتاحتا لفرنسا مواصلة حضور دولي مهم في الساحة الدولية، ولا يفوتنا أيضاً أن نتذكر أن سياسة ديجول المستقلة في حلف الأطلنطى والعالم الغربي أعطت له ولبلاده وزناً وحضوراً آنذاك، استمر صداه في نمط سياسة خارجية تملك القدرة على الاستقلال والتأثير النسبي، وهذا لايقل أهمية عن شعور عميق بالتميز والقدرة على مبادرات طموحة لا تملك بالضرورة القدرة على تنفيذها، ولكن تتيح لها مظهر التواجد حتى لو كان وهمياً، ولقد امتدت هذه المبادرات ليس فقط أوروبياً، وإنما أيضاً متوسطياً وأفريقياً، وفي حالات أخرى دولية مثل تصديها لاتفاقية المناخ ورعايتها المجدية لاتفاق باريس بهذا الصدد حتى لو تعثر الآن كما هو معروف.

بيت القصيد هنا هو تحليل الوزن السياسي الفعلي لهذه السياسات والضجة الفرنسية ومدى فعاليتها، ففي لبنان يبدو الحضور الفرنسي المعنوي متزايداً، ولا تملك قوى سياسية طائفية معينة لأسباب تاريخية ومعنوية، لا يمكن الاستهانة بها تجاهل الدور الفرنسي، ومع الضعف النسبي لحضور الأطراف الأخرى، أو بالأدق لا أحد يلقي بثقله بقدر فرنسا ولا يمكن تجاهل هذا الحضور في الأسابيع الأخيرة الماضية، وبخاصة أنه يلعب بحذر ويتجنب الصدام مع حزب الله، ولكن هذه الساحة اللبنانية صعبة ومعقدة وتحقيق اختراق فيها ليس بالأمر السهل، ومع ذلك فبالمقارنة مع العراق، حيث ضعف الوجود الفرنسي تاريخياً، تبدو قدرة باريس على مزاحمة طهران وواشنطن  في العراق مهمة صعبة وغير متوازنة. أما في ليبيا فعلى الرغم من التحرك الفرنسي الذي لايمكن تجاهله، فإن الساحة تعج بلاعبين أقوى وأكثر تأثيراً  وترتبط قدرة فرنسا على التأثير بنجاح تحالفاتها في هذا الصدد.

معنى ما سبق أن فرنسا بالضجة والحضور الدولي، قد تبدو للبعض وكأنها تلعب دوراً قيادياً كبيراً، وهو ما يتضمن من حيث العائد الفعلي كثيراً من المبالغة، ولكن لا يمكن أيضاً إنكار أن هذا التحرك النشط يعطيها وزناً وقبولاً دولياً واسعاً، ويضفي حيوية متجددة، ويعزز هذا أن الأمر لا يقتصر على حيوية هذه السياسة الخارجية، التي أعاد ماكرون كثيراً من الزخم إليها وإنما أيضاً البعد الثقافي العاطفي الذي تجيد فرنسا استثماره تاريخياً، ويعد من أهم ركائز سياستها الخارجية تاريخياً، ويجعل هذه الدولة التي تراجع دورها السياسي والعسكري بعد الحرب العالمية الثانية كثيراً، دولة ذات حضور ووزن واستمرارية في الساحة الدولية بشكل أكبر كثيراً من مجمل قوتها الشاملة، ويذكرنا مرة أخرى بحقيقة (نبهنا وكثيرون إليها) أن تصورات الدول عن نفسها وتصورات الآخرين عن هذه الدولة التي قد لا تكون بالضرورة  متطابقة تماماً مع الواقع، هي أمر مهم للغاية في أنماط التأثير والنفوذ الدوليين.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل