Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

شوقي مسلماني يعبر الأنواع منفتحا على الشعري

"عابر يواريه الضباب" ديوان قصائد وأناشيد وشذرات ورؤية إنسانية متشائمة  

لوحة للرسام اللبناني الراحل صليبا الدويهي (موقع الرسام)

الشاعر اللبناني شوقي مسلماني (1957) المقيم في أستراليا، وصاحب المجموعات الشعرية العديدة، منها: أوراق العزلة، وحيث الذئب، ومن نزع وجه الوردة؟ ولكل مسافة سكان أصليون، ومحور مائل، وقبل المودة التالية، والظل يركض على الحيطان، وأخضر في سهول الجراد، صدرت له مجموعة شعرية جديدة بعنوان "عابر يواريه الضباب"  عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر(2020).

في ما مضى غالباً ما كانت الكتابة النقدية تستلف من تاريخ الشخص الكاتب، موضوع التقديم، لتفتتح توقعاً حول مضمون العمل الجاري تعريفه أو تقديمه للقراء. وإن كنا نعرف عن الشاعر مسلماني أنه امتهن الصحافة زمناً، في عزها، إلى يوم هجرته إلى أستراليا وإقامته في ربوعها، فإن القارئ المعاصر اليوم، بات بغنى عن هذه المقدمات للولوج إلى عالم الشاعر، وتلمس هواجسه، والتعرف إلى أبعاد كتابته الشعرية وخلطاته الفريدة، التي نفصلها لاحقاً، وخطاباته المحمولة على متن شذراته، وقصائده الطويلة، ومسارده الشعرية، على حد سواء.

في ما نستذكر معايير سوزان برنار الثلاثة حول قصيدة النثر (الاختزال، المجانية، والإضاءة الشعرية) لدى كلامنا على شعر شوقي مسلماني، نعتبر أن باب النقاش في مسألة الشعر والشعرية وأشكال قصيدة النثر والفروق بينها وبين الشذرات والنثر الشعري والسرد الشعري وغيرها، انفتح مطلع القرن التاسع عشر، أي مع ألويزيوس برتران، وبودلير، ورامبو، مروراً بالحركة السريالية والدادائية، وصولاً إلى موجات قصيدة النثر في العالم العربي، ومنها لبنان، والمنطلقة فيه مطلع الخمسينيات من القرن الماضي.

يقول الشاعر شوقي مسلماني في إحدى مقابلاته، إن الشعر الفصيح واتاه في فتوته، على الفطرة، والعامية كذلك، وإنه لم يتح له التعرف إلى قصيدة النثر إلا في أواخر السبعينيات، وكانت قصائد وديع سعادة مفتتح التأثر بهذا النوع الجديد. ومن أين لابن الريف، كونين القرية الجنوبية، النفاذ إلى أحدث أنماط التعبير الشعري العربي، لولا الصحافة في بيروت، وخطوطها الذهبية الثقافية التي افتتحها الشعراء المبدعون، وتولوها في أمهات الجرائد المحلية في عزها، عنيت أنسي الحاج، وشوقي أبي شقرا، وعباس بيضون، وبول شاوول وسواهم؟

المهم في الأمر أن افتتان مسلماني بقصيدة النثر، وكتابته أعماله الشعرية بها، إلى حينه، زاداه يقيناً أنه النوع الذي يغنيه عن كل الأنواع، أو قل هو النوع الجديد الذي يحمل في طياته أشكالاً وأساليب وخطابات متنوعة، ورؤى قيد التحول إلى رؤيا.

المجموعة الشعرية الجديدة، إذاً، تنقسم، بخلاف المعهود في كتب الشعر المنظومة قصائد بعينها، ستة أقسام كبرى، بل ست قصائد كبرى، أو أناشيد، وكل قسم يتفرع بدوره إلى شذرات، وقصائد صغرى، وكبرى، وهي جميعها مرقمة، ويجمعها رابط دلالي، أو قضية محورية، ولكنها من دون عناوين حتى يظل محافظاً على جوهر الثنائية (الوضوح/ الغموض) التي تقوم عليها لغته الشعرية. على سبيل المثال، يفتتح الشاعر نشيده الأول (1) بقصيدة تمهيدية، يستهلها بـ"فجأة هو أمام آخر غير الآخر" (ص:5)، في ما يشبه المسلمة أو الفكرة المحورية التي سوف تفصل لاحقاً، في أقسام النشيد، وسائر الأناشيد التي تلي، عنيت "حكاية الناب آكل النحل/ حكاية الحساء الأول/ حكاية العوم والزحف/ حكاية التائه لا يهتدي، وعقل آخر" (ص:5). وفي ما يأتي من قصائد، موزعة على ستة أقسام، وكل قسم منقسم بدوره إلى قصائد وشذرات، يبلغ فيها الشاعر حد الإشباع، بتصوراته حول الإنسان العدواني، المتحول، حيناً بعد حين، إلى "القرد، الغوريللا/ الأسد، الفهد، النمر/ الباشق، الصقر، النسر/ الكلب، الذئب، الثعلب" (ص:6)، ولا يزال حتى "يدمر هنا ويشعل حرائق هناك"، ويتجسد، في آخر المطاف بتيمورلنك. ولعل الشاعر، في هذا التصور، يلاقي خليل حاوي، في منتصف الطريق، ولا سيما نظرته إلى الإنسان- النمر، في قصيدة لعازر سنة 1962، وقوله "يعبر الصحراء فولاذ محمى /خنجر يلهث مجنوناً وأعمى/ نمر يلسعه الجوعُ فيرغي ويهيج" (ص:322). مع فارق أسلوبي واضح، أن حاوي كان ضنيناً بالرمز والنماذج الأصلية، ما يبقي نوعاً من المسافة بين المتكلم الشاعر وصوره الرمزية، في حين أن تعداد الشاعر مسلماني الصفات وأسماء الحيوانات ذات العدوانية السالف ذكرها، من دون الإشارة إلى الموصوف أو الإنسان يولد الإيحاء، غير الواضح بل الملتبس، بغياب المشبه له (الإنسان)، وبأن تحولات العدوانية لا تني تصيبه، وبأن الحياة برمتها "طريق وجبهات متقاتلة/ وبيت الطاعة مشرع على الجريمة النكراء" (ص:11)

صور صادمة

ما حاولت قراءته هو مثال عما يمكن القيام به، في النشيد الرقم 2، الذي يمضي فيه الشاعر مسلماني إلى وجهة غير يسيرة، وجهة التوتر في الأسلوب، واللعب على الطباق، والتواشج الصوتي، والقلب، والتكرار، والتداعي، ونقض الأقوال الشائعة، واستخلاص صوت الكائن من كل مظهر في الجزيرة أو الأرض اليباب التي يقطنها الإنسان: "صوته من البعيد،/ صوته من القريب/ من الحركة الظاهرة والحركة الباطنة/ لا يأتي من فراغ، يأتي من الاحتراس/ من أبراج عالية/ من مستوصفات ومستشفيات/ من جنائن، من سفن شراعية / من أجنحة، من ببغاء ينطق،/ من الصباح، من الظهيرة، من الحيز المرجاني..". (ص:35-36).

في لغة شعرية سيالة، ودفق من الصور الصادمة، والمشاهد الطبيعية، النباتية والحيوانية ذات الدلالات المرتبطة برؤية إنسانية وسياسية متشائمة، أقرب ما تكون إلى العدمية العارفة والهازئة بالقيَم المنقولة في قوالب جاهزة، أو الماثلة في الأدب الرسمي، السردي منه "ألف ليلة وليلة"، و"كليلة ودمنة"، وبعض النفري، وبعض الأمثال، وبعض الحكم، والكثير من الهزء بلحظات من الواقع ومن الأحلام والكوابيس، والشعري منه، يورده بين طيات شلالاته الشعرية على شكل سطور شعرية معلقة ومتعالقة، ومتداعية تداعياً مجانياً، ولكن بعيداً عن الاختزال أو التركيز المقتصد الذي دعت إليه سوزان برنار في بناء قصيدة النثر. "اقتربْ، اقتربْ، يا بني / أنا لست جنياً شريراً، أنا من جنسك، حسناً فعلت أنك فررت/ من وجه سيدك/ ضربك وأهانك بأمك وأبيك، وعموم أهلك، ولكن أكثر ما قهرك أنه وحده يفوز بالأطايب: كالموز واللوز الأخضر والجوز المقشر والأرز وبالكاد لك فتات، حتى بلغ السيل الزبى، يوم التهم وحده سلة توت ولم يلقمك حبة واحدة" (ص:47).

عالم شعري

يمكن القول، إن أحد أبعاد شعر مسلماني، في مجموعته الأخيرة "عابر يواريه الضباب" هو البعد التناصي، الجلي ولكن غير الحاسم في تحديد طبيعة العالم الشعري، المصنوع من حطام الأشياء والكائنات والمواقف، والخطب العقلانية وغير العقلانية، المادية الماركسية منها واللاهوتية واللاهية، في آن واحد. أما البعد الأسلوبي في شعره فلافت، ويحتاج إلى وقفة تأملية أشمل من هذه، للثراء المعجمي الموسوعي، والقدرة الفائقة على خلط درجات السجل اللغوي (بين المتين، والأليف، والعامي) وحملها جميعاً إلى الأعلى، في يسر ظاهر. تضاف إلى ذلك قدرة على استخلاص الشعرية، بل الالتماعة الفريدة، من خلال النشيد الطويل، والشذرات القصيرة التي تقوم على الصورة الشعرية المبتكرة، والمشهد الشعري الحامل دلالات كثيرة: "ملاذ آمن هو الحب / ملاذ أقل أمناً هي القوى الأمنية / تستنبت إذاعات وصحف وفضائيات/ باعتبار أن أول الحرب كلام.." (ص:93)

وللشذرات، في المجموعة، موضعها الذي يكاد يكون مخصوصاً لها، عنيت به القسم السادس، أو في النشيد السادس من الكتاب، إلى جانب قصائد نثر ملمومة، على المقاس الذي وضعته سوزان برنار. ويمكن لي أن أورد بعضاً منها: "لا عد ولا حصر، النفوس والنصوص/ يصنعون فرادى، حوافر، لا رأس في الرأس/ وفيهم غبطة تثير الذعر، تيه في تيه / وقحون، كذابون، مجرمون.." (ص:106). "ظن ماء، ظن بلبلاً مغرداً/ رحيقاً، مطراً شفيفاً، شجرة/ وفتح غربته، ودخل عتمته.." (ص:109)

أما البعد السياسي في شعر مسلماني، فمحمول من غير مواراة ومن دون أسلبة أحياناً، أو ترميز، كما يفعل الشاعر الكندي ميشال فان شنيدل في انتقاده أميركا؛ ويمكن له القول: "من ينشد الطمأنينة لن يمنحها له كارل ماركس/ بل سيرفع له الغطاء عن عفن العالم / منهمكون بالحرية، وفي غفلة عن طبقية الحرية / إصبع الرأسمال على الزر النووي/ الكائن يصدر عن الفكر لا العكس".

"العابر يواريه الضباب" شعر عبر به مسلماني حدود الأنواع ومعاييرها، وصنع له منها شعراً آخر، ونكهة جديدة.

المزيد من ثقافة