في كل تاريخ الدياسبورا العربية وبلدان شمال أفريقيا، وعلى مدى قرن من الزمن، ربما أكثر بقليل، تبدو الدياسبورا الشامية (السورية واللبنانية والفلسطينية) هي الأكثر فعالية في علاقتها مع الجغرافيا البشرية التي تنتقل إليها، في جميع القارات، فهي أينما حلت إلا وتتأقلم بشكل سريع وإيجابي، من دون أن تفقد كثيراً من خصوصياتها المحلية.
استقرت الدياسبورا الشامية في أميركا الجنوبية والشمالية، منذ بداية القرن العشرين، هاربة أساساً من حكم العثمانيين وظلمهم، لتستقر بالأساس في أميركا الشمالية والجنوبية، وقد استطاعت أن تخلق لها عالماً منسجماً ومنتجاً على المستوى الاجتماعي والثقافي والسياسي.
أعتقد أن ساكنة بلاد الشمال بشكل عام هم "ناس" الأسفار ومغامرة البحر، فالذاكرة الفينيقية لا تزال حاضرة إن بشكل واعٍ أو لا واعي، لذا فهناك اجتهاد متميز في التأقلم والعيش مع الآخر وفي بلاد أخرى وفي ثقافات أخرى، وقد استطاعت الدياسبورا الشامية في الأميركتين الشمالية والجنوبية أن تكون الرافد الثقافي للأدب العربي، مثلاً، من خلال الإنتاج الأدبي الشعري والإعلامي المتميز والحداثي.
فلا أحد يمر في تاريخ الأدب العربي الحديث والمعاصر من دون التطرق إلى تجربة كتاب المهجر، والرابطة القلمية وغيرها، حتى أن اللغة العربية تم تطويرها وعصرنتها أدبياً من خلال هذه الدياسبورا الأدبية الشامية المقيمة في الأميركتين.
على المستوى السياسي فقد أدركت الدياسبورا الشامية في الأميركتين بشكل خاص ومنذ البداية بأن لا خيار لها إلا الانخراط في العمل السياسي، وهو طريق آخر لتحقيق ذاتها والدفاع عن مواقعها.
فالأحزاب والتنظيمات السياسية طريق لخوض المنافسة على الوجود وفي الوقت نفسه على مساعدة وحماية الوطن الأم ولو من بعيد، إن الدياسبورا وهي تدخل السياسة تمثل درعاً خلفياً لحماية الوطن، وسنلحظ بعد زمن ليس بطويل، كيف استطاعت كثير من الأسماء الشامية أن تدخل البرلمانات في جميع بلدان دول أميركا الجنوبية وأميركا الشمالية وكندا.
وقد وصل كثير من أبناء هذه الدياسبورا الشامية إلى رئاسة بلدان ورئاسة حكومات ورئاسة برلمانات وحقائب وزارية كثيرة، وهو ما يعود بالإيجاب على البلدان المستقبلة لأنها تستفيد من خبرات جديدة ذات حساسيات خاصة وذات ذاكرة حضارية مختلفة مما يقوي مناعة الدول بخاصة تلك التي تكون فيها أنظمة تحترم التعددية والاختلاف.
وقد كانت صورة الدياسبورا، قبل هذه الألفية الجديدة، هي نموذج النجاح والمنافسة المثالية بالنسبة لأبناء البلد الأصلي، فعين ابن البلد على دياسبورا بلده، يحلم بأن يكون على خطواتها من دون أن ينسى أرضه الأصلية.
أما الدياسبورا التي تنتمي إلى بلدان شمال أفريقيا، وبالأساس الدياسبورا الجزائرية، والتي استقرت بشكل مكثف في فرنسا منذ بداية القرن العشرين، فقد تشكلت في ظروف سياسية خاصة، على خلفية الاستعمار وفي البلد المستعمِر، وقد كانت الخطوة الأولى لهذه الدياسبورا كي تكتشف الآخر هو الانتماء إلى نقابات العمال، فكانت الدياسبورا الجزائرية يسارية التوجه في البداية بتأثير كبير من الحزب الشيوعي الفرنسي الذي احتضنها.
وفي هذا الباب يمكن الإشارة إلى مسار تشكل شخصية مصالي الحاج وآخرين الذين أسسوا لاحقاً أحزاباً وطنية كانت الطريق إلى ثورة التحرير.
لقد كان تأسيس الدياسبورا الجزائرية أولاً على قاعدة فكرة "التحرر الاجتماعي الطبقي" ومن ثم لاحقاً "التحرر الوطني، الاستقلال"، وبقدر ما كانت هذه الدياسبورا منخرطة في التوجه الإيجابي لمسار التاريخ الوطني والإنساني في بدايتها إلا أن ذلك سيشكل عقبة سيكو- سياسية يصعب التخلص منه أو القفز عليه لاحقاً بالنسبة للجيل الجديد من هذه الدياسبورا.
لم تستطع الدياسبورا الجزائرية الجديدة المقيمة على أرض "مستعمِر البارحة" أن تتخلص من جرح الاستعمار، ولم تستطع أن تتخلص من خطاب الخمسينيات القائم على ثنائية "المستعمِر والمستعمَر"، وهو ما عطل انخراط هذه الدياسبورا الكبيرة العدد في سياق التاريخ الجديد.
ولا يزال الوجود السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للدياسبورا الجزائرية في فرنسا متميزاً بحس التوجس في الآخر (بلد الإقامة) وبغياب الثقة في الأنظمة الوطنية (البلد الأم).
وهناك طرفان ساهما في الإبقاء على هذه الحالة من "القلق"، لا طلاق ولا عيش مشترك، هما اليمين الفرنسي المتطرف الذي لم يستطع حتى الآن استساغة استقلال الجزائر، وهو بالتالي يعمل على زرع فكرة العنصرية والإبقاء على "جو حرب التحرير حتى الآن"، حيث لا يزال هذا اليمين يوظف "الحرب" التحريرية من أجل حرب ضد دياسبورا الأجيال الجديدة، ومن أجل أن يبقيها في مربع هاجس "الحرب" الغائبة ولكن ظلها حاضر.
وعلى الجهة الأخرى، أي في الجزائر المستقلة، لم تستطع الأنظمة السياسية المتعاقبة التحرر من "هوس" خطاب الحرب ومن صورة "فرنسا الاستعمارية" والدخول في منطقة أخرى من العلاقة ومنطق آخر من الخطاب الذي لا ينسى ولكنه معافى من "الهوس".
إن الأنظمة السياسية في الجزائر ومنذ الاستقلال ظلت تستثمر في ثنائية "المستعمِر والمستعمَر" وتلوح بهذه الورقة في كل مناسبة، وهو ما يجعل الدياسبورا الجديدة تعيش حالة من "القلق" مع الذاكرة الجماعية وفي الوقت نفسه تعيش حالة من "اللااستقرار" في الجغرافيا البشرية التي تعيش فيها، وهو ما يعطل نجاحها في المجتمع الذي تعيش فيه.
لم تستطع الأنظمة السياسية المتعاقبة في الجزائر، وهي لا تريد ذلك، قلب صفحة الحرب وبدأ صفحة جديدة في علاقتها مع فرنسا حتى الآن، على الرغم من مرور قرابة الستين عاماً على الاستقلال، في المقابل استطاعت فرنسا وألمانيا، على الرغم من العداوة، أن تتجاوز التاريخ وتصنع تاريخاً جديداً، بل لتصلا إلى واقع الاتحاد. فالإبقاء على هذه الحالة يجعل الأجيال الجديدة رهينة لفترة زمنية دموية، ورهينة لفلسفة عقدة "المستعمِر والمستعمَر".
أمام عملية "تسخين البندير" السياسي بين الجزائر وفرنسا في كل مرة وفي كل مناسبة وفي كل أزمة، من خلال تقليب مواجع الماضي الأليم، فإن الدياسبورا الجزائرية ممثلة في الأجيال الجديدة التي لم تعرف الثورة ولا الحرب التحريرية، تجد نفسها قلقة في وجودها فهي من جهة مهددة من قبل اليمين المتطرف ومن جهة أخرى في حالة من اللاانسجام مع النظام السياسي في بلدها.
وكما يستفيد اليمين المتطرف في فرنسا من حالة القلق الوجودي للدياسبورا الجزائرية الجديدة وهو ما يشوش اندماجها العضوي في المجتمع الذي تعيش فيه، فالأنظمة السياسية في البلد الأم تستفيد هي الأخرى من إبقاء هذه الدياسبورا في حالة من التطاحن، لتظل هذه الدياسبورا هشة لا تشكل قوة سياسية قادرة على التغيير الفعلي لا في بلدها الأصلي ولا في بلد الاستقبال.
إن الدياسبورا الجزائرية، بفرنسا على وجه الخصوص، تعد رأس مالاً كبيراً، بالنسبة للجزائر، لو أُحسن توظيفه سياسياً واقتصادياً وعلمياً وثقافياً. فعلى المستوى الكمي والنوعي، تعد الدياسبورا الجزائرية قوة بشرية وازنة اقتصادياً وإبداعياً وسياسياً.
كما يضاف إلى الدياسبورا الجزائرية الجديدة مجموعة اجتماعية أخرى وهي تلك الطبقة الاجتماعية المشكلة من الأوروبيين وأبنائهم ذوي الأصول الجزائرية، الذين ولدوا وعاشوا في الجزائر، ومن ثم هاجروا سنوات الحرب أو حتى بعد الاستقلال، وهم يملكون علاقة داخلية قوية مع الجزائر، إلا أن الخطاب السياسي الذي يصنف الأمور تصنيفاً حنبلياً يقطع الطريق عن كل حلم في وضع خبرات ورأسمال هذه الدياسبورا في صالح تطوير البلد.
تشكل الدياسبورا الثقافية الجزائرية الجديدة المتكونة من الجامعيين والكتاب والسينمائيين والفنانين التشكيليين والمسرحيين والموسيقيين وغيرهم، حضوراً متميزاً في بلد الاستقبال، إلا أن هذا التميز لا يقدم شيئاً كبيراً للبلد الأم، لأن النظام السياسي لا يتعاطى بشكل واضح مع فلسفة الاختلاف والتعددية السياسية واللغوية.
فالدياسبورا الجزائرية الإبداعية التي تشتغل وتنتج بلغة كاللغة الفرنسية، حتى وإن كان لها حضور في المجتمع الجزائري، إلا أن وجودها في البلد يبدو مزعجاً أو غير مريح بالنسبة للنظام السياسي، لأنها دياسبورا في عمومها تربت على تقاليد الاختلاف والتعدد، بالتالي فهي لا يمكنها أن تعيش في ظل نظام أحادي سياسياً شبه ديني سلوكاً.