ما هو الرابط الذي يجمع الكاتب ألبير كامو والشاعر جان سيناك والسينمائي لوتشينو فيسكونتي والمهندس لو كوربوزييه والناشر إدمون شارلو والرسام سوفور غالييرو والكاتب إمانويل روبليس والمناضل الثوري ياسف سعدي؟ الجواب الأوّل الذي يتبادر إلى ذهننا هو الجزائر، وهو صحيح. لكن في التحقيق المضاد الذي يقوده الكاتب الفرنسي كريستوف كلارو في كتابه الجديد، "المنزل الأصلي"، الذي صدر حديثاً عن دار "أكت سود"، يقترح علينا جواباً آخر أكثر دقّة وإثارة: العمارة التي شيّدها جدّه، ليون كلارو، في العاصمة الجزائرية عام 1930، في مناسبة الاحتفال بمرور قرنٍ على "الحضور" الفرنسي في الجزائر.
الكتاب نصٌّ هجين وآسِر يقع في 173 صفحة ويتراوح بين البحث الوثائقي والتحقيق العلمي والرواية العائلية والسيرة الذاتية والخطاب الشعري. كتاب يغوص صاحبه فيه داخل ربطة مدهشة من المصادفات التاريخية والشخصية، مدفوعاً بدوره بمصادفة: وقوع صديقه الكاتب أرنو بيرتينا أثناء أبحاثه على معلومة أرسلها فوراً إليه، ومفادها أن "النص الأوّل الذي كتبه كامو بعنوان "المنزل المغاربي" يصف فيه فيلا شيّدها كلارو". هكذا ينكبّ حفيد هذا الجد على فتح ودراسة هذه "الرسالة" التي وصلته بالصدفة من زمنٍ بعيد نسبياً، ومجيد، مستعيناً بكل موارد لغته التي تآلفنا مع قدراتها التعبيرية المذهلة ومناوراتها المدوخة في رواياته "كوسموز" (2010)، "جميع ماسات السماء" (2012) و"مادّة" (2019)، كي لا نسمّي غيرها. تحقيق فريد من نوعه يرتكز على معطيات ومواد شخصية وعائلية لطالما رفض الكاتب إرثها، قبل أن يجد نفسه مضطراً، بوقع المصادفة، إلى فرزها ومنح معنى لمجموعة متشابكة من الروابط العارضة وغير العارضة، في ضوئها.
منزل الجد
أحداث "المنزل الأصلي" تتركّز في ظاهرها على قصة الجدّ المهندس وعلى المنزل الذي شيّده عام 1930 في حيّ "القصبة" الشعبي، في العاصمة الجزائرية، انطلاقاً من مواد هجينة استقاها من منازل جزائرية أخرى لكن ذات هندسة عثمانية أو أسبانية أو صقلّية أو فرنسية. منزل حمل أسماء عديدة: "المنزل المغاربي"، "فيلا المئوية"، "دار الألفية"... لكن الكاتب احتفظ باسم "المنزل الأصلي" للتشديد على انتمائه إلى الأرض الجزائرية، علماً أن عملية تشييد هذا المنزل وتدشينه المسرودة في الكتاب لا تشكّل موضوع ذكرى له، لكونه لم يكن قد وُلِد بعد آنذاك، بل موضوع ذاكرة لا تتذّكر، وفي الوقت نفسه، مأخوذة في جهد غايته إنتاج ذكرى لا يمكن أن تكون سوى شبحية. فمع أن جدّه هو الذي شيّده، إلا أن هذا المنزل يتفكك ويتحلّل في ذهنه حتى لا يتبقّى منه سوى طيفٍ غير مادّي مكوَّن من كلمات. منزل ترويه خطابات متعددة، تمسك به وتقولبه من زوايا مختلفة، موقعةً إياه داخل سرديات تاريخية، سياسية وأدبية، تارةً استعمارية وتارةً مناهضة للاستعمار. وتنوّع هذه الخطابات وتناقضها والشك الذي يعتريها تساهم في تحليل هذا المنزل الهجين في مواده وبعده اللغوي. أما الذاكرة التي تستيقظ في ذهن الكاتب إثر هذا الجهد، فيتعذّر فصلها عن هذه الخطابات وريبتها وانعدام تجانسها. ومن هذا المنطلق، "المنزل الأصلي"، مثل كتاب كلارو الذي يحمل اسمه، هو موضوع لغة، عمل خرافي، أي عمل مفتوح على منطق الأدب كمخيّلة وترحال وتحوُّل.
وقد نظّن أثناء قراءة هذه السردية المتعددة أن خلف صورة الجدّ المشيِّد، ليون كلارو، ثمة بحث عن الوالد، هنري، يشكّل الخيط الخفي لها، قبل أن يتبيّن لنا أنه ليس سوى وقودها، وأن موضوعها الحقيقي، الذي سينكشف تدريجياً، مع بسط ثنايا المصادفات وفكّ عُقَد الدلالات، هو الشعر. فصحيح أن نتائج الاستعمار وما بعده في الجزائر حاضرة عند كل منعطف، وأن تفاصيل قصّة عائلة كلارو تنبثق مع كل خطوة، لكن رزمة التساؤلات المركزية للكاتب تتقاطر نحو بودلير الذي عشقه والده وكان السبب في إيقافه دراسته وتكريس وقته لكتابة الشعر. وأوّل هذه التساؤلات: بأي خيمياء سرّية يجتثّ الشاعر الفن والحلم من الثفل عديم الشكل أو من الواقع الظرفي؟ هكذا يمنحنا كلارو، بطريقة حميمة غير مسبوقة، أمثولة في الأدب أثناء فعله.
وفعلاً، حين يتطرّق إلى موضوع كتابة كامو نصّه الأول بعد استكشافه "المنزل الأصلي" واختباره فيه حالة تجلٍّ، ينطلق كلارو في جملة استطرادات هي في الواقع ليست استطرادات بل قلب كتابه، لمساءلته فيها تلك الأشياء التي تردّنا إلى الحميمي. وفي هذا السياق، تأتي القصص والطُرَف والتحليلات والاقتباسات التي تسمح لنا بمرافقة كامو خلال ذلك الزمن، وتحثّنا على قراءة أو إعادة قراءة أعماله، وخصوصاً ذلك النصّ الذي كتبه عام 1933 ويمنحنا، بالتأملات الكئيبة المبكرة في السعادة والألم والموت التي تعبره، مفاتيح مهمة لفهم صاحبه، ورواية "الغريب" التي يتوّقف كلارو مليّاً عندها، وتحديداً عند صورة العربي والسؤال الجزائري فيها، مستكشفاً في طريقه مختلف محاولات إخراج هذا النصّ سينمائياً ومدى اقتراب هذه المحاولات أو ابتعادها عن خطابه، وآخرها فيلم فيسكونتي "الغريب" (1967).
جاك سيناك
ومن كامو، ننتقل في كتاب كلارو إلى جان سيناك الذيّ مرّ بدوره بـ "المنزل الأصلي". انتقال منطقي لأنه يتعذّر عدم ربط قدر هذا الشاعر الذي قُتِل في وطنه بالتبنّي، الجزائر، مطعوناً بسكين الغدر خمس مرّات، بقدر العربي الذي ينتهي مقتولاً على الشاطئ بخمس رصاصات يطلقها عليه بطل "الغريب" مورسو. ومن خلاله، نتعرّف قليلاً إلى والد كلارو نظراً إلى الصداقة التي جمعتهما منذ سنّ الصبا، وإلى استقرار سيناك في منزل صديقه لدى قدومه إلى باريس. هكذا يتحوّل الشاعر إلى فضاء تقاطُر فريد داخل الكتاب عبر اقتباسات منيرة من قصائده يستثمرها كلارو ببراعة داخل نصّه، متابعاً أيضاً خيوط حياة سيناك للعثور في تعرّجاتها على ما يسمح له في ترميم صورة والده.
ولأن لو كوربوزييه زار أيضاً "المنزل الأصلي" عام 1931، إثر دعوة وجّهها إليه جدّ كلارو، يستحضره الكاتب للإشارة إلى أن هذا المهندس الكبير تأثّر بدوره بفضاء هذا المنزل وتصميمه، قبل أن يتوه يوماً في حيّ "القصبة" ويدخل بالمصادفة منزلاً آخر كان في الواقع ماخوراً عثر داخله على تلك الجمالية الفريدة التي طبعت إنجازاته الهندسية اللاحقة. استحضار من خلال وثائق دقيقة ومجهولة يقترحها كلارو علينا، وفي مقدّمها الذكريات التي خطّها لوكوربوزييه عن هذه الزيارة، ورسالتان، واحدة لجدّه والأخرى لجان دو ميزونسول، نقرأ فيهما تفاصيل هذه الزيارة وانطباعاتهما عنها. استحضار لا يخلو من سخرية يوجّهها الكاتب إلى هذا العملاق نظراً إلى افتتانه في الجزائر ببطاقات بريدية عنصرية لا تلبث أن توحي إليه برسومٍ وجداريات ذات صبغة استشراقية مؤسفة.
كامو، سيناك، فيسكونتي، لو كوربوزييه، لكن أيضاً شخصيات أخرى كثيرة كانت فاعلة ثقافياً في تلك الحقبة المجيدة ويستدعيها كلارو في نصّه لافتتانها بالمدينة البيضاء (الجزائر العاصمة) أو لوقوعها ضحية حرب التحرير. شخصيات تملك كل واحدة منها مفتاحاً لـ "المنزل الأصلي" لا يتردد في استخدامه لفتح أقفال ودفع أبواب، آخرها باب غير منتظر يفتحه بنفسه ويقود إلى غرفة سرّية يصفها بـ "الفضاء الجديد للعالم". غرفة ينفك لغزها لنا حين يقول في صددها: "أسمّي هذه الغرفة الصفحة". وهو ما يجعلنا فوراً نفهم أن "المنزل المغاربي"، الجد، الوالد، كامو، سيناك وسائر الشخصيات المستحضَرة هي من دون شك في قلب كتابه، لكنها لا تشكّل موضوعه الرئيس، لأن الدافع الخفي الوحيد الذي يحرّك نثره ويتحكّم به هو تشييد تلك الغرفة، ذلك المكان الذي نسكنه شعرياً ونستسلم فيه للكتابة.
باختصار، "المنزل الأصلي" الذي شيّده كلارو من قِطَعِ مختلفة لمنحنا وهم الحقيقة، ولم يتردد في وصفه بـ "المصطنع حتى في أصالته"، ينخرط في زمنٍ ــ فضاءٍ مثالي لسردية سيرذاتية خرافية عن الأصول لا غاية لها في الواقع سوى الكتابة.