Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأرمني الذي خاض تجربة الفصل بين الخير والشر داخل الإنسان

روبن ماموليان: بين غريتا غاربو ودكتور جيكل ومستر هايد

مشهد من "دكتور جيكل ومستر هايد" (1932) (موقع paramount)

قبل مئة عام تماماً من الآن، أي في عام 1920 كان روبن ماموليان في الثانية والعشرين من عمره حين قرر خلال زيارة مسرحية قام بها، مع فرقة جورجية، للعاصمة البريطانية، أن يبقى مقيماً في الغرب، مؤثراً ألا يعود إلى تفليس، مهاجراً إلى غير رجعة. مهما يكن فإن ماموليان، على الرغم من أنه ولد في تفليس عاصمة جورجيا، فإنه لم يكن يحس بنفسه، أبداً، مواطناً ينتمي إلى ذلك البلد الذي كان في طريقه لينضم إلى الاتحاد السوفياتي. صحيح كذلك، أنه أرمني الأصل لكنه لم يقيّض له أن يولد أو يعيش في مسقط رأسه أرمينيا. ولأن الأرمن شعب الهجرة دون منازع، سيواصل روبن الشاب هجرته وسيقيم في الغرب، "دون أي اعتبار للعوامل السياسية والأيديولوجية" كما سيقول لاحقاً، حين سيُسأل عما إذا كان دافعَ هجرته عداؤه للثورة الروسية، هو الذي سينضم إلى عدد كبير من مبدعين أرمنيين انتشروا طوال القرن العشرين في معظم بلدان العالم الغربي وبعض المدن في الشرق الأدنى لينتجوا أعمالاً فنية وأدبية تجعلهم واحدة من المجموعات الوطنية الأكثر إبداعاً في المنافي.

من الخشبة إلى الشاشة الكبيرة

المجال الذي سينخرط فيه ماموليان هو الفن الذي كان قد انصرف إليه منذ بداياته في تفليس، ولكنه إذ انخرط هناك في المسرح فإنه في منافيه الغربية سوف يبرز في مجال الإخراج السينمائي هو الذي سوف يرتبط اسمه لاحقاً، وفي مستقرّه الهوليوودي باسم غريتا غاربو التي حقق عدة أفلام من تمثيلها. غير أن بداياته ستكون مختلفة: تحديداً مع واحد من أفضل الشرائط التي حُققت في اقتباس عن رواية "دكتور جيكل ومستر هايد" لروبرت لويس ستيفنسون. وكان ذلك في عام 1931، حين اعتبر فيلم ماموليان هذا أول اقتباس ناطق عن حكاية العالم ذي الشخصية المنشطرة، ناهيك عن كونه اعتبر واحداً من الأفلام الجدية الأولى ذات البعد الجنسي، حتى وإن كان الجنس الذي يطالعنا في الفيلم شديد الخجل والحياء مقارنة بما سيلي ذلك. لكنه كان "فاحشاً" بالمقارنة مع الخمسة عشر اقتباساً معظمها صامت للرواية نفسها والتي سبقت اقتباس ماموليان الذي شاء لنفسه أن يكون جدياً وأدبياً إلى درجة استخدامه موسيقى باخ لمصاحبة بعض أقوى مشاهد الفيلم. ولا بد أن نذكر هنا أن الكاتب الأرجنتيني بورخس والذي كانت له اهتمامات سينمائية مبكرة بفيلم ماموليان هذا، أخذ عليه تشديده على الجانب الحسّي الذي تصوّر أنه يطبع شخصيتي العالم والشرير اللتين هما بالطبع وجهان لشخصية واحدة. وفي رأي بورخس أن الكاتب وصّف شخصيتيه بالقسوة لا بالشبق.

الإنسان ذو الوجهين

ونعرف أن الرواية تحكي أصلاً حكاية الطبيب العالم الشاب هنري جيكل الذي أبلغ طلابه ذات يوم، أمام سخرية أساتذته منه، أنه اكتشف طريقة تمكنه من الفصل بين التوجه الشرير والتوجه الخيّر داخل الشخصية الإنسانية. وهو لاحقاً يجري التجربة على نفسه في وقت كان والد خطيبته قد اصطحبها في سفره ليبعدها عنه، والتقى هو بالمومس ميمي وخلصها من أشرار كانوا يضايقونها ثم اصطحبها إلى بيته ليعالج جرحاً أصيبت به. وهناك يقع في إغراء إقامة علاقة معها لكنه يتراجع. وهكذا تأتي تجربة طريقته العلمية على ذاته كنوع من التعويض. وبالفعل يتمكّن من "خلق" شخصية هايد الذي سينفرد بالسمات الشريرة في شخصيته نفسها مما يؤهل هايد للارتباط بعلاقة مع ميمي دون أن يتحمل جيكل عبء ذلك ويبقى مخلصاً لخطيبته. وإذ تعود هذه من سفرها يتطلع جيكل لإنهاء التجربة العلمية و"السيطرة" على هايد. لكن الذي يحدث هو أن خطأً في تناول الدواء يحوّل جيكل بالفعل إلى هايد الذي يندفع إلى بيت ميمي ويقتلها، ثم تحت "قناع" جيكل يتوجه إلى بيت خطيبته دون أن يتنبه إلى أنه استعاد شخصية هايد... وبالتالي يحاول اغتصاب الخطيبة، لكن أباها والخدم يتمكنون من مطاردته فيلجأ إلى مختبر جيكل، حيث يحاصره رجال الشرطة ويتمكنون من إردائه قتيلاً... ليحدث بعد حين أن يولد جيكل مجدداً من رحم هايد ليستعيد سيرته كإنسان طبيعي وعالم مميّز إنما غير راغب هذه المرة في العودة إلى تجربته الكئيبة القاتلة...

لقد أتى هذا الفيلم في ذلك الحين ليجعل لروبن ماموليان مكانة هوليوودية، عززها فوز بطل الفيلم فردريك مارش بأوسكار أفضل ممثل، مهّدت لانتظامه في تحقيق أفلام يمكن القول إن ما كان قريباً منها بدا متميّزاً فيما نراه يخفق في عدد من تجارب سينمائية أخرى، حاول فيها أن يُحدث تجديدات من الواضح أن هوليوود لم تكن مستعدة لها بعد.

ولادات متتالية وغرب متعدّد

إذن لئن كان ماموليان قد ولد في هوليوود فإنها كانت ولادة ثالثة له بعد ولادته اللندنية هو المولود أصلاً في تفليس عام 1898، والذي كان قد اصطُحب إلى الغرب مرة أولى من قبل والديه عام 1905، حين أقامت العائلة في باريس لفترة مكنت الولد من أن يدرّس عدة صفوف ابتدائية. بعد ذلك عادت العائلة إلى تفليس، وفي 1915 توجه روبن إلى موسكو لدراسة الحقوق، لكنه أولع هناك بالمسرح وانضم إلى مدرسة الفن الدرامي تحت إشراف ستانسلافسكي. وهو حين عاد إلى تفليس في 1918، عمل في الصحافة ثم أسس فرقة مسرحية جورجية، كانت هي التي اصطحبها في رحلته اللندنية التي جعلته يقرر عدم العودة إلى موطنه. في لندن شكل موليان، مع عدد من المهاجرين الروس فرقة مسرحية لفتت الأنظار، كما بدأ يهتم بفن السينما، مما جعل المخترع والمنتج جورج إيستمان يطلب منه أن يوافيه إلى نيويورك. وفي نيويورك كانت بداية ماموليان الحقيقية كمخرج مسرحي، حيث أدار عدة مسرحيات حققت له شهرة واسعة ومن أهمها "يورغي وبس" (1935) و"أوكلاهوما" (1943). ولكن قبل هاتين المسرحيتين كانت شركة بارامونت قد اكتشفته واكتشفت قدرته على ابتكار المواضيع وإدارة الممثلين، فاستدعته في 1929 ليحقق أول فيلم من إخراجه، وكان عنوانه "تصفيق". وهو فيلم فرضه بسرعة في الساحة السينمائية ويرى مؤرخون أنه كان ذا أثر حاسم على العديد من المخرجين من أمثال تشارلز والترز وفنشنتي مينيللي، وصولاً إلى أورسون ويلز في فيلمه الأشهر "المواطن كين". مهما يكن فإن تلك المرحلة كانت هي التي بدأ فيها ماموليان عمله السينمائي المتأرجح بين أقصى درجات الجودة وأدنى ضروب العادية، وهو لم يفته أن يلاحظ هذا، فصرح ذات يوم بقوله بأنه يشعر بنفس الراحة والمتعة سواء أحقق أوبرا الفاغنر، أو فيلماً ميلودرامياً عادياً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على سجيته في كل الأنواع

والحقيقة أن روبن ماموليان بدا دائماً متميزاً وعلى سجيته سواء كان الفيلم الذي يحققه من نوع الكوميديا الموسيقية مثل "أحبني الليلة" أو فيلم رعب مثل "دكتور جايكل ومستر هايد" الذي نتناوله هنا أو فيلماً بوليسياً مثل "شوارع المدينة".

طوال سنوات عديدة وحتى رحيله عن عالمنا في ديسمبر (كانون الأول) 1987، لم يتوقف ماموليان عن اهتمامه بالسينما، السينما التي كان يراها على الدوام من التجريب والابتكار. وهو إلى ذلك كان لا يكف عن استخدام الممثلين الكبار في بعض أغرب أدوارهم، مثلما فعل مع غريتا غاربو في "الملكة كريستين". كما أنه كان من أوائل الذين أصدروا فيلماً كاملاً بألوان "تكنيكولور"، وكذلك كان واحداً من أفضل الذين نقلوا عوالم الأدب الروسي إلى السينما الأميركية حيث حقق فيلم "إننا نحيا من جديد" مقتبساً عن رواية "البعث" لليون تولستوي، ونذكر في هذا المجال أفلامه لـ"نينوتشكا" من بطولة غريتا غاربو. ولكن كما كان لماموليان نجاحات كانت له كذلك إخفاقات، وهكذا نجده، مثلاً، لا يصور سوى عشر دقائق من فيلم "كليوباترا" الذي حققه جوزف مانكفيتش، كذلك نجده عاجزاً عن نقل "بورغي وبس" إلى الشاشة، هو الذي كان قد تمكن من نقل أفضل وأصعب الأعمال إلى تلك الشاشة مثل "الفتى الذهبي" من بطولة بربارا ستانويك، و"علاقة زورو" من بطولة تايرون باور و"دم ورمل" من بطولة تايرون باور أيضاً مع ريتا هيوارث وأنطوني كوين...

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة