Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سعاد العامري تروي سيرة ملتبسة للذات والجماعة

"دمشقي" رواية الحنين إلى الأرض الأولى ترجمت عن الإنجليزية

البيت الدمشقي التراثي (يوتيوب)

تقارب الكاتبة الفلسطينية سعاد العامري، في روايتها الأخيرة الصادرة  حديثاً عن دار المتوسّط بعنوان "دمشقي" من منظور السيرة الذاتية التي تروي فيها جانباً من طفولتها وحنينها إلى دمشق القديمة، مدينة والدتها، هي الفلسطينية - السورية. ولئن كانت الرواية مترجمة عن أصلها الإنجليزي my damascus  وبعهدة المترجم القدير عماد الأحمد، فإنها تنقل حرارة انتماء الراوية إلى الإنجليزية الجذور، والحنين إلى الأماكن الأولى حيث عاشت الراوية "سعاد" الجزء الغالب من طفولتها وفتوّتها، لما قبل احتلال إسرائيل قرى كثيرة في الجولان عام 1967، واستحالة عودة الناس إلى حياة تواصلهم السالفة، على الخطّ الطبيعي الذي رسمته القرابات وصلات الأرحام والعلاقات العريقة بين القبائل والعشائر والعائلات على مدى القرون الغابرة، بين فلسطين وسوريا ولبنان، لا سيّما بين بلدة عرّابة، مسقط رأس الراوية، في فلسطين، وبين دمشق، مسقط رأس أمها سامية البارودي. 

يتساءل القارئ العربي، أول الأمر، عن الداعي إلى اختيار الكاتبة الراوية، سعاد العامري حقبة من الزمن (1920-1962)، كانت لا تزال خارجة عن الصراع المباشر بين العرب والفلسطينيين وبين الإسرائيليين في فلسطين التاريخية، حتى عام 1948، الذي شهد تقسيم فلسطين وقيام الدولة الإسرائيلية، ومن ثم حرب عام 1967، حين دخل الإسرائيليون في احتلالهم إلى جنّين وعرّابة، وباتت قيد الاحتلال إلى يومنا هذا. وللإجابة نقول إنّ الكاتبة سعاد العامري، الإنجليزية اللغة والتعبير، والأكاديمية خريجة جامعة أدنبرة في اسكتلندا، معمارية ومحاضرة في الهندسة، كانت قد نشرت أول رواية لها بعنوان "شارون وحماتي" فترجمت روايتها إلى عشرين لغة، وأتبعتها بالعديد من الروايات، من مثل: "مراد مراد"، و"غولدا نامت هنا"، وغيرهما. بالتالي، شاءت أن تنتقل من الرواية الواقعية الدرامية والتهكّمية الهازئة في كتابها عن الحصار الإسرائيلي لمقرّ الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وبرفقتها حماتها ذات الطباع الصعبة، إلى رواية السيرة التي تسلّط فيها الذات أنواراً على حقبة من حياتها، عزيزة على روحها، مستعينة بكل ما اكتسبته من تقنيات السرد، والوصف، وتوقيع الاقتباسات، وعنونة الأجزاء والفصول، وغيرها، في رواية السيرة التي نحن بصددها.

مجريات السيرة

إذاً، يتّضح من قراءة الكتاب ومن مجرياته أنّ الكاتبة أرادته سيرة ذاتية، بل سيرة ذاتية جزئية، ما دامت الكاتبة ترسم إطاراً زمنياً معلوماً لمجريات السيرة، كما أسلفنا، من عشرينيات القرن الماضي، إلى أوائل الستينيات من القرن نفسه، باعتبار ذلك الإطار الزمني الذي تتحرّك فيه الراوية باسمها الصريح، سعاد، وتتنقّل في مسرح مكاني، هي والشخوص الذين تؤرّخ أهمّ محطات حياتهم (الجدّة بسيمة من ناحية والدتها، والجدّ نعمان، والخالتان: ليلى وكريمة، وأمها سامية، وابن عمّها وسيم الكثير التجوال إلى حيفا، ونورما...)، هو مدينة دمشق وأحياؤها الأليفة ، وعمارة آل البارودي الأميرية التي لطالما احتضنت ، بغرفها وباحاتها الواسعة وجنائنها، الراوية وهي الصغيرة، وذات الدلال وكبَر الانتماء، من جهة الأب إلى عشيرة عبد الهادي كبار ملاّكي الأراضي، في جوار جنّين، من أعمال فلسطين. ولكنّ السيرة، وإن كانت تدوّن بعضاً من ذكريات عالقة في روح الراوية سعاد العامري، فإنّها تمطّ زمن السرد والسيرة، أربعين عاماً إلى الخلف، (1920) أي حين ارتضت عائلة آل البارودي الدمشقية، أن تزوّج ابنتها سامية، وهي في صباها الأول، بأحد شبان بلدة عرّابة من آل عبد الهادي، من كبار ملاّكي الأراضي في فلسطين.

ثم تعود (الراوية) وتمسك بخيط السرد تماماً، عندما تروح تروي سيرة أمها وخالاتها الأربع اللواتي عايشتهنّ طوال فتوتها والشباب. ما هي حكاية رواية السيرة هذه؟ إنها بالأحرى حكاية بسيطة، تروي أحداثها المتسلسلة عبر التاريخ ، من عام 1920، حين تُزوّجت جدّتها بسيمة البارودي بشاب من آل عبد الهادي، من بلدة عرّابة، أعمال فلسطين بالقرب من جنّين، والبعيدة عن الشام مسقط رأسها حوالى مئة وخمسين كيلومتراً، ويتلاقى نمطان من التفكير والحياة، نمطٌ مدينيّ قائم على العادات والتقاليد وأوّلية قرابات الأمّ مع نمط من العادات والتقاليد ريفي، تقوم فيه قرابات الأب المقام الأوّل، إلى جانب الكثير من المعتقدات حول المولود الذكَر الأول عند المرأة المتزوّجة ووجوب أن تلد الذَّكَر قبل موافاة أمّها في الشام، وكان أن توفّي لها المولود البكر في اليوم الأول، فمنعت من زيارة أهلها ثلاثين عاماً إلى حين ولدت للعائلة ذكراً يرثُ الأراضي. وتتوالى الأحداث التي تروى بصيغة الراوي العليم، ما لم تكن الراوية معنيّة بها شخصياً، مصحوبة بالكثير من وصف الأعراس، وجهاز العروس، ورسم الحنّاء، والهدايا المقدّمة من الوافدين، والزيجات المحصورة، في حينه أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، بين أفراد الطبقة الغنية من تجّار دمشق وبين طبقة الإقطاع من جوار دمشق، وامتداداً إلى شمال فلسطين، وصولاً إلى عرّابة.

هندسة وأنتروبولوجيا

ويمكن القول إن الكاتبة سعاد العامري، قد أحسنت توظيف كل معارفها الأنثروبولوجية، والتراثية، وحتى الهندسية، في إغناء السرد السيري، لا سيما المتصل بحياة الجدّة وابنتها بسيمة، أي أم الراوية، والذي تستعيد فيه علاقة التزاوج بين دمشق وعرّابة، عبر الأجيال المتعاقبة، وإكسابه أبعاداً اجتماعية وثقافية وجمالية (مثل المقارنة بين مدينة دمشق وإسطنبول، ونابلس ودمشق)، وعمرانية، هي خلاصة حياة أجيال غابرة بأسرها، كان يحسن بالكاتبة أن تدوّنها قبل أن تتوارى آثارها إلى الأبد. وتلك هي نكهة الرواية التي شاءت كاتبتها، ابنة دمشق من جهة الأمّ، أن تودعها متن الكتاب، بالحفظ والصّون، وقلوب القرّاء بأمان الذكرى.

أما الجزء الثالث من السيرة (العائلية - الذاتية) فقد خصّته الراوية بسرد أهمّ التقاليد الثابتة والتحوّلات الدراماتيكية التي بدأت معالمها الأولى بالظهور منذ عام 1946، وكان بعنوان "بيت جدّو نعمان"؛ ومن هذه التقاليد الثابتة اجتماع أفراد العائلة كلّهم، نهار الجمعة، مع كل ما يترتّب عن ذلك الاجتماع من عادات الجلوس، وفقاً للتراتبية الطبقية والاجتماعية بين أفراد العائلة نفسها، وما يصاحب الاجتماع من مآكل ومشارب وغيرها. وبعد أن سردت حكاية زواج فاطمة، إحدى الخادمات في قصر جدها نعمان، تروي موت جدّها أوائل الستينيات من القرن العشرين ("كنتُ في التاسعة من عمري عندما توفي جدّو نعمان. وأكثر الذكريات جمالاً ووضوحاً في ذهني هي ذكرى وفاته..." (ص185) ومن تلك الذكريات شربها الشمبانيا برفقة شقيقتها نانا وابنة خالتها نورما، وثمالتهما بينما يشاهدن عرض رقص الدراويش في حارة آل البارودي، من ضمن الفعاليات الكثيرة التي كانت تجرى في حينه لهذه المناسبة. وتعود الراوية بالذكرى إلى عام 1958، حين يلقى القبض على والدها في عمّان بتهمة التآمر على الدولة، وهو القوميّ الهوى والقريب من اليسار، فلا تفهم الواقعة كثيراً، وهي في السابعة. وتنهي الجزء بفصل الحمّام ذي السبع زوام.

الجزء الرابع والأخير من السيرة العائلية تروي فيه الكاتبة، وبحميمية بيّنة، تطوّر علاقتها بنورما الطفلة التي تولّت خالتها تربيتها، فتنتقل بها الذكريات من طفولتهما سوية، وحادثة المسبح والنفاذ من الغرق، في بيروت، إلى المشهد المسرحي بعنوان "اللقيطة" الذي مثّلته نورما قلباً وقالباً، وسؤالها الأليم عن أمها البيولوجية، ثم تولّيها رعاية خالتيها ليلى وكريمة، وقد كانت ذات ثراء من زواجها وعملها في إحدى دول الخليج، إلى لقائهما الأخير في فيلّتها ببرمانا، وسؤالها الوحيد عن أمها، ولماذا هي من حيفا، وليست من القدس.

هي الرواية الثالثة لسعاد العامري، تروي فيها الكاتبة سيرة عائلية، تتموضع فيها الذات عبر الزمن، والمواجع والأفراح ومحمولات الفكر والمعتقد والموروث وقليل من الاعتداد بالمكانة الاجتماعية التي اندثرت إلى غير رجعة. أو يكون للأدب تلك الوظيفة بتخزين كل ذلك، وإن يكن بلغة غير العربية.

المزيد من ثقافة