تمتلئ صفحات التواصل الاجتماعي بصور من عقدي الخمسينيات والستينيات، تضم عادة نساء سافرات يرتدن الفساتين، ورجالاً يرتدون البدل الأنيقة، وصوراً أُخرى في ملاعب كرة القدم والمسارح، تُظهر حشود النظار المنظمين والباسمين، وأخرى للتلاميذ والطلبة مصطفين في الطابور المدرسي، أو في قاعات المحاضرات، أو في غرف الدرس منتبهين للمعلم، وما شابه ذلك. والصور كلها تشهد بالأناقة والابتسام والانضباط. والشوارع النظيفة الزاهية، والمحال المتراصة المرتبة، والبضائع المعروضة بدقة، منها ما هو صناعة محلية هي محل فَخَار. وهذه الصور جميعها، تتكرر بنفس المشهدية والصيغة المُرفقة، التي تُمجد بحسرة (الزمن الجميل)، ما ذهب ولن يعود.
الزمن الجميل، ما خرج ولم يعُد، وما يُشار إليه عادة بالبنان والحسرة، لا يتم تحديد تاريخه بالضبط، ويُستعان بأيقونة الصورة، التي في تقدير المهتم تؤشر إلى جمال ذلك الزمان. ما هو مُدغم مُبهم، ممكن تعليله بأنه ماضٍ ولى، ومن المستحيل استعادته. أو على الأقل كالجنة، التي خرج منها أب البشرية (آدم)، ودونه والعودة الأبدية صعاب جمة، تكاد أن تكون، كمقولة، طمع إبليس في الجنة. لكنها في أي حال، صور مؤرخة، فيغلب عليها تصوير ما بعد الحرب الكبرى الثانية، وخصوصاً بين عقدي الأربعينيات والسبعينيات. أي كما أشرنا، عقدا ما بعد الحرب.
وإذا ما بحثنا عن هذه الفترة الزمنية، المكناة بالزمن الجميل، سنجدها عالمية، من حيث تدعى الحرب الأولى، وكذا الثانية بالعالمية، لأن من خاضها هو مركز العالم، المسيطر والمستعمر لجلّ العالم. فيقول الخبراء العالميون إن ما بين عامي 1945 و1975م، كان الفترة المزدهرة اقتصادياً عالمياً، وما ظللها السلام، رغماً عن الحروب بالوكالة في المستعمرات السابقة. والاستنتاج الذي يخطر في البال، أن المركز كما صدّر حروبه، صدر الرخاء الذى طاله، بمشروع مارشال الأميركي، وبالأهم نهضة الشعوب من رزيتها الكبرى الحرب الثانية، التي أنتجت تطوراً وتغيراً غير مسبوقين في التاريخ البشرى، حتى كان الشعار الذى حملته هذه الفترة في المركز، انظر خلفك بغضب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما يخطر في البال ثانياً، أن الاندفاع إلى هكذا ماضٍ، ظاهرة عالمية مسكوت عنها، ما قد تضيف بعداً آخر إلى تفسير عودة اليمين المتطرف الغربي، المتقهقر والمتعصب المغلق، ما يبني الأسوار، التى فُتحت غبّ الحرب الثانية للمهاجرين، لبناء ما هدمت الحرب، ولإعمار العقول بفكرتي التقدم والتنوع. وبالتالي، هيمنة اليسار، واليسار الوسط، على السلطة في المركز. فهذه النظرة لتلك الفترة الزمانية، ما بعد الحرب، من مقتضى الحال، حيث التقدم واجه مأزقه عندما نبض الرخاء وأفلس، فلم يعد ينتج جديداً، بل يغترف الأفكار المقددة والمحفوظة، في زير "الزمن الجميل".
لقد خسر اليسار، ما لم يفز به اليمين في المركز، لأن كليهما ينتمي إلى عصر ولى، كلاهما يراه "الزمن الجميل"، ما خرج ولن يعود، ولذا أينما وليت وجهك ستصادف القيامة الآن. حتى الحروب بالوكالة من نتاج ما ولى، ولن تجدي نفعاً في حلحلة ما هو مستعصٍ، ما هو يتكرر لأنه ليس ثمة بديل.
ولقد كان الحديث عن البديل مثرياً مثيراً في زمن الازدهار والرخاء. والجيل الصاعد الذى ينظر إلى الخلف بغضب، فيما يتمظهر البديل، الآن وهنا في النظرة إلى الزمن الجميل بحسرة، فعسرة وخسران. وكأنما البشرية في حال كهف أفلاطون، ما يتراءى لها، خيالات تبزغ عن نار الحال على حائط الزمان. وأن مرحلة خسوف التقدم، وحال كسوف الازدهار، تجعلان البديل مستحيلاً، في العصر السبراني. ما يعني، مما يعني، أن البشرية في حقبة لا مثيل لها، لن يُغيثها زمن جميل ولا عصر قبيح. فليس لهذه الحقبة زاد فيما مضى. البشرية الآن وهنا في زنقة، أفقها ما رآه آدم ساعة خلق وحيداً، ثم جاءتهُ حواء كمنقذ بالخطيئة الأولى.
الزمن الجميل تفصيل رومانتيكي، لعبة الطفل الذي ولد يتيماً، كابن طفيل، أو من ربتهُ الذئبة، فهكذا نتبين أن كل عود حصاد زرع بوار... وفي أحسن حال تأويل "الزمن الجميل" بأنه استنفاذ الزاد.
وكما يلاحظ القارئ، أن مقالي هذا مشوب بعاطفة غير العارف، أين تكون الخطوة التالية، في هذا الشارع الوحل المظلم، لكن الواثق أنها خُطى كمثلها قبل، وإن لم يعرف إلى أين ومتى، فهذا حدٌ لا بأس به من المعرفة.