Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بول كوفمان الزنجي المتمرد أحدث ثورة في الشعر الاميركي

ترجمة أولى لأحد رواد جيل "البِيت" الذي واجه العنصرية وانتصر لثقافة السود

الشاعر الأميركي الزنجي بوب كوفمان (يوتيوب)

اختار الشاعرُ والناقد العراقي محمد مظلوم الوقتَ الملائمَ لتقديم مختاراتٍ من دواوين  الشاعر الأميركيّ الزنجيّ أو الأسودِ بوب كوفمان بعنوان "عزلة مكتظة بالوحدة" (دار الجمل)، فأصداءُ مقتل جورج فلويد ما برحت تتردّد في أميركا والعالم، معيدةً إلى الواجهة السجال الثقافيّ حول العنصريةِ وتجلياتها في حقول الأدب والفن والسينما. هذا الشاعر الذي غلبت عليه الطبيعة الزنوجيةُ التي ورثها من أمه المتحدّرة من جزر المارتينيك، عاش حالاً من الاضطهاد لا سيما بعدما تزوج من امرأة بيضاء تدعى إيلين، متحدياً معها سياسة التفرقة العنصريةِ التي كانت في أوجها حينذاك، ومواجهاً تقاليدَ النظامِ الاجتماعيِ.

أنها المرة الأولى التي تصدر مختارات بالعربية لهذا الشاعر الذي كان واحداً من أهم شعراء جيل "البيِت" أو "البيتنك"، ولو أنه لم يحظَ بشهرة نجوم هذا الجيل مثل ألن غينسبرغ وويليام بوروز وجاك كيرواك، بل إنها المرة الأولى يتعرف فيها القراء العرب إلى هذا الشاعر عن كثب ويطالعون نماذج من شعره المتفرد. ويشير مظلوم إلى أن الشاعر العراقي سركون بولص كان أول من قدم جيل "البيتنك" وترجم بضعة قصائد ونصوص لرواده، لم يدرجه ضمن الشعراء الذين ترجمهم، لكنه ذكره مرتين في حوارين له، متحدثاً عنه بحماسة قائلاً: "هناك شاعر يعتبر أهم منهم جميعاً هو بوب كوفمان، شاعر زنجي غيّر وجه الشعر الأميركي، وهو شاعر ثوري في المعنى الحقيقي للكلمة، لا سياسياً فقط، بل لغوياً، أي أنه ثوّر اللغة الإنجليزية من طريق تطعيمها بمفردات زنجية ولهجة رجل الشارع". ثم يتحدث في حوار آخر عن تعرفه إليه، وكيف كان يجالسه "من غير أن ينبس بكلمة، يكتفي بالنظر اليّ فحسب، كأنما يتكلم بالنظر".

المتعدد المرجعيات

إلا إن محمد مظلوم يفي هذا الشاعر حقه ويختار له أكثر من مئة قصيدة من دواوينه ضمها ديوانه الشهير، معتنياً بترجمتها ومواجهاً صعوباتها اللغوية والتركيبية التي يواجهها مترجموه عادة ومنهم الفرنسيون جاك فرانسوا، كلود بيليان وماري بيتش الذين ترجموا له ديوانين هما: "عزلات" و"سردين مذهب". وأرفق مظلوم الترجمة بمقدمتين، الأولى ضافية وشاملة والثانية تدور حول فعل الترجمة وتحدياتها. وفي مستهل المقدمة ينقل مظلوم عن ريموند فاي الذي كتب تقديماً لآخر ديوان أصدره كوفمان "المطر القديم" اعترافه بسعيه إلى لقاء "هذا الشاعر المنعزل والمشرد والغريب الأطوار لما يقارب العامين"، فإذا به يظهر له فجأة في أحد مقاهي سان فرانسيسكو قائلاً له: "أريد ان أبقى مجهولاً". وأضاف: "لا أعرف كيف تريد أن تتورط مع شخص لا يريد الانخراط في صحبة، ولكنني لا أريد تلك الصحبة، طموحي أن أُنسى تماماً". لكن هذا الشاعر "المتوحش" الذي يشبّهه الفرنسيون برامبو كتب في قصيدة ضمّها ديوانه "عزلة مكتظة بالوحدة" يقول: "حين أموت لن أبقى ميتاً". وبين نزعته إلى العزلة والنسيان ويقينه بانبعاث شعره بعد وفاته، يكمن سر هذا الشاعر المتعدد الهويات والأهواء، المتعدد المشارب والجذور، والذي كما يقول مظلوم، "هو المبتكر الأصلي لمصطلح "بيتنك" وقبله كلمة "بيت" بدلالتها الخاصة". وهذا الرأي الذي يحدد أصل نشوء التيار والمصطلح وانبثاقه لا يزال محط  نقاش بين الأميركيين أنفسهم وبينهم وبين بعض الباحثين الأوروبيين. ففي فرنسا مثلاً، التي كانت سباقة في استقبال تيار "البيتنك" وفي ترجمة أعمال رواده وكذلك أعمال كوفمان تناول نقاد ومترجمون هذا التيار من وجهات مختلفة، ومنهم جيرار جورج لو موان الذي وضع أنطولوجيا ضخمة عن شعراء البيتنك" مع دراسة مسهبة. لكن الناقد والمترجم الفرنسي جاك فرانسوا ينحاز إلى موقع كوفمان في هذا الجيل قائلاً:" إن كان من شاعر يستحق صفة "البيت" فهو بوب كوفمان، شاعر سان فرنسيسكو الذي أضحى من غير إرادة منه صورة أسطورية في البانوراما الأدبية لهذه المدينة التي حطّ فيها العام 1956 وانتمى إلى ما يسمى "نهضة سان فرنسيسكو" في زمن هو الأشد غلياناً في تاريخها". ويعتبره الناقد الأميركي ستيف أبوت "الأستاذ الخفي لجيل البيت".

ولئن بدا كوفمان زنجياً أو أسود فوالده يهودي ألماني، لكن قدره حتم عليه أن يرث جذور أمه الكاثوليكية السوداء التي تنتمي إلى إحدى قبائل المارتينيك. وكانت جدته لأمه التي وصلت إلى أميركا في سفينة تقل "عبيد" أفريقيا، تنتمي إلى طائفة "الفودو" وطقوسها السحرية. وفي مثل الجو العائلي المتعدد كان بوب يصلي الأحد في الكنيسة مع أمه والسبت في الكنيس مع والده. وقيل عنه إنه في طفولته كان يرتدي "لباساً زنجياً مع أزياح يهودية". ولعل هذا التعدد في الجذور والأعراق والأديان منحه هوية فريدة انعكس في شعره وأمده بـ"مرجعيات من التراث الكريولي والفودو والزنوج وحتى الهنود الحمر"، علاوة على ما علق في ذهنه من مقولات ومشاهد وقصص من التوارة اليهودية والإنجيل المسيحي.

تشرد وسجون

عاش بوب كوفمان حياة تشرد وصعلكة وعمل في مطلع شبابه بحاراً في الأسطول التجاري الأميركي وطاف العالم والموانئ مرات خلال سنوات تسع، ونجا أربع مرات من حوادث غرق. وانصرف بوب خلال هذه الرحلات الطويلة إلى القراءة في الأدب والفلسفة والتاريخ. ومنحه هذا الإبحار المفتوح على جهات العالم وعياً أممياً وعالمياً هو على نقيض مع الثقافة الأميركية العنصرية. ولما حطّ على الأرض استحال بحاراً يطوف المدن والشوارع، والحانات والسجون، شاعراً بوهيمياً وملعوناً، يدمن الشرب والمخدرات والقراءة والتأمل. وما إن قرّر دراسة الأدب في نيويورك الأربعينيات حتى هجر الجامعة، ولم يلبث أن تعرف إلى ويليام بوروز وألن غينسبرغ وجاك كيرواك رواد جيل "البيتنك" فاقترحوا عليه الانتقال إلى سان فرنسيسكو التي استحالت معقل هذا الجيل، وهنا استطاع بوب أن يفرض نفسه شاعراً متفرداً في لغته الآتية من مضارب أخرى. أصدر له الشاعر فيرلنغتي ثلاثة كراريس شعرية في سلسلة "أضواء المدينة"، ولم يتوانَ عن تأسيس مجلة شعرية مع غينسبرغ اسمها "بياتوتيد". وفرض نفسه ملهماً أولَ للشعراء السود الشباب الذين وجدوا فيه صوتاً فريداً. نشر بوب مطولات شعرية مهمة ثلاثاً كان لها أثرها وهي "أبوميونيست مانيفستو" و"نيسان الثاني" و"هل يهمس العقل السري؟"، وحملت طابعاً تهكمياً وتهتكياً وغدت من المصادر الراسخة لجيل "البيت". وكتب فرلينغتي عن "نيسان الثاني" قائلاً: "سيأتي يوم يجري فيه الاعتراف بأن هذا النص هو أحد مصادر التنوير الأساسية التي غيّرت الشعر الأميركي". في هذا الديوان يربط بوب بين ولادته في هذا الشهر وصلب المسيح وقيامته، ويدين بسخرية سوداء ما خلفته القنبلة الذرية من مآسٍ، عطفاً على ملامح من معاناته خلال وضعه تحت رقابة الأمن الفيديرالي بوصفه مشتبهاً فيه في الانتماء إلى الشيوعية.

قاسى كوفمان كما يقول مظلوم، أصعب أحوال العيش في أميركا، بصفته زنجياً متمرداً وشاعراً منبوذاً ورافضاً للقيم الثقاقية الأميركية ومتهماً بالشيوعية في زمن المكارثية. بل كان شاعراً أشد هامشية من شعراء "البيت" وأكثر غربة واغتراباً عن محيطه، لا سيما بعد زواجه من امرأة بيضاء وإنجابه ابناً سماه باركر تيمناً بالموسيقي الكبير في عالم الجاز تشارلز باركر. كان كوفمان بمثابة "الغراب" الأسود في جيل البيت الذي يبدو كأنه يحمل "تاريخاً أبيض" فتم تجاهل دوره ومساهمته الأساسية في نشوء هذا الجيل ونهضته. بدا كأنه "بقعة سوداء" في وسط التاريخ الأبيض، علماً أن الشعراء زملاءه أقرّوا بدوره المهم في جيلهم. ومن أثمان زنوجته أن أعماله اقتصر نشرها في المجلات وبعضها ضمن مختارات من شعر السود المتحدرين من أصول أفريقية. واستبعدت قصائده في الفترة تلك من المختارات الشعرية الخاصة بجيل "البيت" وكاد اسمه يغيب عن السجال الدائر حول هذا الجيل. بل إنه صنف بصفته "شاعر جاز" وهذه صفة ترتبط  بالشعراء السود، نظراً إلى أن موسيقى الجاز تنتمي إلى الثقافة الزنجية. ولعل تبنّي كوفمان كما يقول مظلوم موضوع موسيقى الجاز في شعره، نمّ عن رغبته في "تحِّدي الثقافة المهيمنة من خلال كسر الصورة النمطية لهيمنة الثقافة الأميركية البيضاء".

عصي على التصنيف

بوب كوفمان شاعرٌ عصيٌّ على التصنيف بحسب المدارس أو بحسب التيارات، فشعره مفتوح على الثورات الشعرية المتتالية بدءاً من حداثة بودلير الذي قرأه جيداً و"رؤيوية" رامبو ثم السوريالية أو بالأحرى سورياليته التي لا تندرج تماماً في سياق بيانات أندريه بروتون بمقدار ما تستقي كما يشير مظلوم، من "سوريالية"  الشاعر الإسباني لوركا كما تجلّت في ديوان "شاعر في نيويورك" الذي يعدّ محطة مميزة في مسار لوركا. عطفاً على اقترابه من والت ويتمان وألبير كامو الذي خصّه بقصيدة  عنوانها "كامو أريد أن أعرف". لكنه غالباً شاعر جاز، كما يشير مظلوم، ساخر ومرير، "شاعرٌ سياسيٌّ ذو نبرة يسارية احتجاجية، وشاعر شارعٍ، شاعر قاعٍ، شاعر سجونٍ، وشاعر ليلٍ وتشرُّدٍ ومخدراتٍ".

يوصف كوفمان بأنه شاعر "شفهي" في ما تحوي هذه الصفة من أبعاد ملتبسة ومتعددة، مثل المنبرية، والارتجال، والبلاغة، واعتماد الأصوات واللهجة العامية ولغة الزنوج، وكذلك البعد الصوتي للكلمات. لكن شعره ينطوي في الوقت نفسه على مضامين عميقة وغريبة هي مزيج صعب من نزعات "شامانية" و"أورفية" ورؤيوية وميتافيزيقية وصوفية، تتآلف مع نزعات نقيضة مثل "البذاءة" و"السوقية" و"التهكم" والهتك، وهذا ما يجعله قريباً من تجربة شاعر فرنسي هو أنطونان أرتو.

واجه الشاعر محمد مظلوم في ترجمته قصائد كوفمان العوائق التي تعترض مترجمي هذا الشاعر العصيّ على الترجمة فعلاً، ومنهم مترجموه الفرنسيون على الرغم من القرب بين الإنجليزية والفرنسية. لكنه استطاع أن يطوّع لغة كوفمان ويجسّدها في لغةٍ عربيةٍ ملؤها المتانةَ والسلاسةَ، موجداً في لغة الضاد ما يوازي اللغة الأصل، "الوحشية" والمتفلتةَ من أسر النحو والتركيب المفترض. ووظف خبرته وتمرسّه اللغوي في فعل النقل من لغة إلى لغة بل من حالة لغوية إلى حالة لغوية أخرى. ويقول مظلوم إنه لم يترجمَ نصوصه لغوياً فقط، وإنما ترجم "العوالم الخفيَّة وعلامات اللغة السريَّة الداخلية المستمدَّة من خصوصية تجربته وطبيعة حياته"، هو الشاعر الذي كثيراً ما كتب تحت تأثير المخدرات، مستخدماً بلاغات الهلوسةِ والغيبوبةِ وأجواءَ موسيقى الجاز الارتجالية.

كان لا بد للشاعر العراقي محمد مظلوم من أن يقدم هذا الشاعر الزنجي السوريالي والرؤيوي الهدام والصوفي، أحد رواد جيل "البيتنك"، إلى القراء العرب، ولو أن الترجمة تطلبت منه جهداً مضاعفاً ومثابرة وبحثاً في أسرارها. وكان لا بد من المقدمة الضافية والشاملة التي كتبها للديوان، فهي قراءة عميقة، تجمع بين السيرة والنقد والتحليلِ، وتقود القارئ العربيَّ إلى صميم هذه التجربة البارزةِ في مسار الشعرِ الأميركيّ الحديثِ.

المزيد من ثقافة