أمر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون بإجراء "تدقيق محاسباتي عميق" في شركة النفط الحكومية العملاقة "سوناطراك". ويشمل التحقيق صفقات "مشبوهة" عقدتها الشركة قبل سنوات، أبرزها اقتناء مصفاة "أوغستا" في صقلية الإيطالية قبل عامين وهويات "وسطاء" المؤسسة في بلدان عربية منها لبنان، إضافة إلى عقود خدماتية في مجال أمن المستخدمين يقف وراءها جنرالات متقاعدون.
ارتبط اسم "سوناطراك" عند الجزائريين بمفهوم "الريع المالي" لعقود طويلة. مع ذلك، حظيت على مدار السنين بـ"حصانة سياسية" غير منظورة، وتفجرت "فضائح" مالية مدوية طاولت إدارة هذه المؤسسة، إلا أن القضاء لم يعالج إلا ملفاً واحداً بطريقة انتقدها قانونيون وسياسيون. ما دفع قيادة المؤسسة العسكرية العام الماضي إلى إعلان إعادة التحقيق في الملف من جديد.
ومع إعلان وزير الطاقة، عبد المجيد عطار، أن "سوناطراك" ستكون للمرة الأولى في تاريخها موضوع عملية "تدقيق محاسباتي عميق"، تتضح دواعي التغيير الحكومي المصغر الذي أقر قبل أسابيع، خصوصاً في قطاع الطاقة. فالمؤسسة التي يطلق عليها الجزائريون اسم "البقرة الحلوب" ستخضع وفق الوزيرلـ"رقابة صارمة تشمل صفقات دولية لرفع الغموض عن كيفية تسييرها ومعايير التوظيف فيها ومصير الأرباح الضخمة التي تدرها والتحقيق في تكاليف الاستغلال والتدقيق في عدد مناصب العمل غير الضرورية في الخارج".
مصفاة "أوغيستا" وقضية لبنان
التدقيق في أداء المؤسسة النفطية الجزائرية يتوخى النظر في مرحلة تسيير المدير العام السابق عبد المؤمن ولد قدور، إذ اكتشف المسؤولون الذين تعاقبوا على رأس الشركة منذ السنة الماضية ثغراً بالجملة في ملفين على الأقل، هما صفقة شراء مصفاة "أوغيستا" الإيطالية قبل سنتين بقيمة مالية مضخمة، والثانية ملف وسطاء الشركة في لبنان عبر فرع لندن.
ومطلع الشهر الحالي أودع قاضي التحقيق لدى محكمة بئر مراد رايس في الجزائر العاصمة، أحمد الهاشمي مازيغي، النائب السابق لولد قدور المدير العام الأسبق لـ"سوناطراك" الحبس المؤقت، للاشتباه في قضايا فساد. فيما يُتابع ولد قدور الموجود في الخارج بتهم تتعلق بـ"تبديد أموال عمومية وإساءة استغلال الوظيفة ومنح امتيازات غير مستحقة وظروف صفقة شراء مصفاة النفط أوغيستا في صقلية الإيطالية من إيكسون موبيل بقيمة مليار دولار قبل سنتين".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يكتفي التحقيق بهذه الملفات، إذ يشمل "ظروف التنازل عن بعض الحقول في مشاريع نفطية في صحراء الجزائر، لمصلحة ريبسول الإسبانية وتوتال الفرنسية، إلى جانب إعادة تجديد عقد الشركة الإسبانية في حقول عين أمناس الجزائرية لمدة 20 سنة أخرى عن طريق التراضي".
وتفيد مصادر قضائية لـ"اندبندنت عربية" بأن جهاز العدالة في البلاد يحاول معرفة إذا ما كان لولد قدور صلة مباشرة بفضيحة "الوقود المغشوش" التي فجرها لبنان قبل أشهر، ويطاول التحقيق الجزائري هويات الوسطاء ومدى ارتباط ذلك بأنشطة نجل ولد قدور، في لبنان، حيث يدير أربع شركات للأعمال في الخارج.
وطلب الرئيس تبون فتح تحقيق قضائي حول صفقة تجارية قام بها أحد فروع "سوناطراك" في لبنان. وأعلنت الرئاسة الجزائرية على لسان الناطق باسمها محند بلعيد أوسعيد "المؤكد أن الجزائر كدولة غير متورطة في مثل هذه الأعمال التي تخص ربما أفراداً، لكن العدالة ستأخذ مجراها وتُبيّن الحقيقة".
لوبيات وجنرالات
قطاع آخر ضمن خدمات "المناولة" معني بالتحقيق المطلوب من عبد المجيد عطار بصفته وزيراً للطاقة، الذي شغل سابقاً منصب المدير العام لـ"سوناطراك"، وهو ملف شركات الأمن الخاصة التي تستفيد سنوياً من عقود ضخمة للحراسة والمرافقة لوحدات الاستكشاف. هذا النوع من الخدمات قريب من الاحتكار من بعض الجنرالات السابقين في الجيش الجزائري.
ويشير الأستاذ الجامعي والمستشار الاقتصادي عبد الرحمن مبتول إلى أن "إجراء معاينة معمقة على مستوى مؤسسة سوناطراك يعني أن التفكير في استراتيجية فعالة لهذه الشركة قد انطلق. فالشركة كانت، لسنوات عدة، بمثابة البقرة الحلوب".
ويعتبر أنه "يجب إدخال مناهج عمل جديدة إلى الشركة، لا سيما من خلال اعتماد خطة محاسبة دقيقة. والشركة بحاجة إلى تحديد التكلفة بشكل صحيح. حسابات التحويل مثلاً، التي كان يتولاها قسم مراجعة الحسابات على مستوى الإدارة العامة للمؤسسة، كثيراً ما كانت تغطي العديد من الاختلالات في التسيير. والأمر نفسه بالنسبة إلى تحديد قيمة موحدة لمبيعات منتجات معينة مصدرة بالأسعار الدولية، إذ كانت تباع في السوق الوطنية بسعر أقل بكثير".
حقيبة سيادية
على هذا الأساس لا يتم النظر إلى ملف "سوناطراك" كقضية اقتصادية بحتة. فالملف يُخفي جوانب سياسية نظراً إلى "الحماية" التي تحصّلت عليها هذه الشركة منذ تأسيسها عام 1963. ويذكر أستاذ الاقتصاد السياسي عبد الرحمن العايب، لـ"اندبندنت عربية"، أن "الحديث عن سوناطراك أشبه بالحديث عن حقيبة وزارية سيادية. في هذه الشراكة ترابطت مصالح محلية مع أخرى دولية على مدار السنين، لا سيما بعد عام 2000، حينما تضاعفت المداخيل النفطية للبلاد مرات عدة.
ويعتقد العايب أن "فتح ملف تسيير هذه الشركة لن يكون هيّناً أو سهلاً، بل هو مكمن للشبهات المالية والإدارية والسياسية وحتى الأمنية".
ويذكّر العايب بملف "سوناطراك 2"، الذي كانت المؤسسة العسكرية قد طالبت بإعادة فتحه قبل سنة، و"هذا الملف يراوح مكانه الآن، ويُفترض أن يصدر بموجبه أمر جديد بملاحقة وزير الطاقة السابق شكيب خليل. لذلك يُطرح السؤال من جديد عن غياب أي مستجد في هذا الملف".