Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تعديلات روسيا الدستورية بنكهة قيصرية

الكرملين تحول من دب ثقيل الحركة في زمن الاتحاد السوفياتي إلى ثعلب رشيق الحركة مع فلاديمير بوتين

في مقدم التعديلات الدستورية إعادة تعيين بوتين لفترتين رئاسيتين متتاليتين (غيتي)

نهار الخميس الثلاثين من مايو (أيار) المنصرم كان الرئيس فلاديمير بوتين، يشكر الشعب الروسي الذي وافق على التعديلات  الدستورية التي اقترحتها حكومته بنسبة 77.92 في المئة، وفي نهاية أسبوع من الاستفتاء.

في كلمته كان القيصر يؤكد أن التعديلات عينها سوف تمنح البلاد "استقراراً داخلياً ووقتاً لتصبح أقوى ولتمتين مؤسساتها، عطفاً على تحسين النظام السياسي، وتدعيم الضمانات الاجتماعية، وسيادة البلاد ووحدة أراضيها".

على أن بوتين عزف وبلحن مميز على "القيم الروحية والتاريخية، وكذا الأخلاقية للروس في تعديلاتهم الدستورية الجديدة، وشاغب نفوسهم وعقولهم بتحسين أوضاعهم وتبديل طباعهم، لا سيما أن كثيراً منهم يعيشون فى ظروف صعبة جداً حتى الساعة على حد قوله.

لماذا وافق الروس على خطة بوتين، وهل كان الهدف منها البقاء في السلطة حتى 2036 كما يروج البعض، أم ضمان أمن واستقرار نهضة الفينيق الروسي؟ وهل سيشعر الغرب بالرضى عن تلك التعديلات، أم العكس؟ وما الذى يخطط له بوتين في كل الأحوال؟

ملامح تعديلات بوتين

كان من المقرر لهذه التعديلات أن تجرى في أواخر نيسان (أبريل) الماضي، غير أن تفشي وباء كورونا أدى إلى التأجيل حتى يونيو (حزيران) الماضي.

مثير أمر نتائج الاستفتاء، فقد كان يكفي التصويت بـ 50 في المئة لكي تمر، فإذا بها تصل إلى نحو ثمانين في المئة من الذين صوتوا، ما يعني انتصاراً حقيقياً للقيصر.

في مقدم التعديلات المطروحة، إعادة تعيين بوتين لفترتين رئاسيتين متتاليتين، وبعد بوتين يحكم أي فائز بمنصب الرئاسة لفترتين فقط، كل منهما 6 سنوات، وبعبارة أخرى، "سيأتي بوتين بعد بوتين".

أما التعديل الثاني المهم بدوره، فهو تعزيز سلطات رئيس الدولة، وبوتين بالفعل يمتلك الكثير منها، غير أنه الآن وبعد إقرار التعديلات فإن بوتين "رئيس الدولة" سيدير اجتماعات مجلس الوزراء  بدلاً من رئيس الحكومة، ولن يقوم الأخير بأي إشراف على مجلس الوزراء من دون أمر مباشر من رئيس الدولة.

أكثر من ذلك، تتوخى التعديلات المقترحة فرض قيود شاملة على مهام رئيس الحكومة، ليضحى أداة للتنفيذ في يد رئيس الدولة، والمتابعين لتصريحات بوتين عبر خطبه، يدرك كيف أنه حذر مرات عدة من فكرة "إزدواجية مرجعية القيادة الروسية"، وكأن هناك تقاسماً للسلطة بين رئيس البلاد، ورئيس الحكومة.

ضمن التعديلات كذلك، توسيع حدود حصانة رئيس الدولة، وزيادة الأعضاء المعينين من جانبه في المجلس الاتحادي، وفتح المجال أمامه ليصبح عضواً فى المجلس إذا رغب بعد انتهاء فترته الرئاسية.

التعديلات الرئاسية التي وافق عليها الروس، تقضي بإعادة توزيع الصلاحيات بين مؤسسة الرئاسة والحكومة، وبين حكام الأقاليم، عطفاً على منح البرلمان صلاحيات أوسع لاختيار رئيس الوزراء، والمصادقة على التشكيل الوزاري، فضلاً عن بنود حول ضمانات الدولة الاجتماعية للمواطنين، وحظر التفريط بالأراضي الفيدرالية، والدفاع عن اللغة الروسية، وحق روسيا في الامتناع عن تنفيذ القوانين الأجنبية على أراضيها، ما يعني إنهاء قبول أي قرارات لمحاكم أو مؤسسات قضائية أجنبية.

عودة جمهورية الرب

هل جاءت التعديلات الدستورية الأخيرة لتلفت ولو من طرف غير مباشر إلى كون روسيا جمهورية الرب، وفي تضاد واسع وشاسع لسنوات البلاشفة، أولئك الذين اعتبروا الدين مظهراً من مظاهر الرجعية، وممارساته نوعاً من أنواع الأفيون المخدر للشعوب، بحسب تعبير كارل ماركس؟

ربما قبل الجواب ينبغى الإشارة إلى أنه وعلى رغم سبعة عقود من الجفاف الروحي والاستبداد السياسي الشيوعي في مواجهة الممارسات الدينية في الداخل، إلا أن الكنيسة الأرثوذكسية الروسية ظلت حاضنة لروح روسيا القيصرية، التي تفاخر وتجاهر بجذورها الإيمانية عبر ألف عام.

في مؤلفه "الحضارات الروسية جبروت المكان والزمان"، يلفت البروفيسور سهيل فرح، عضو أكاديمية التعليم الروسية، إلى السجال الذي دار في أواسط تسعينيات القرن الماضي بين السلطة والكنيسة ومعها القوى الوطنية الروسية، وبين رمز النظام السياسي القائم حول قانون الأديان، وبعد سياسة شد الحبال بين الطرفين جرى في النهاية تعديل بسيط لا يمس جوهر القانون الذي تقدمت به الكنيسة ووافق عليه مجلس الدوما والقائل بأن "الأرثوذكسية هي جزء لا يتجزأ من الإرث التاريخي والروحي والثقافي الروسي".

فى الوقت نفسه، كان القانون يؤكد احترام الإسلام والبوذية واليهودية، ويشدد على أن أي دين أو مذهب يريد أن ينشر رسالته بحرية، عليه أن يثبت بأنه كان موجوداً على الأرض الروسية، منذ أكثر من 15 عاماً.

تجيء التعديلات الدستورية الأخيرة التى تم التصويت عليها، لتقر وضع اسم "الرب" للمرة الأولى في الدستور الروسي، مع الأخذ في الاعتبار أن دستور 1993 كان يؤكد أن الدين منفصل عن الدولة.

الإشارة هنا عميقة وتحتاج إلى مقال قائم بذاته حول مسألة الهوية الدينية في إطار السياقات الروحية الروسية المعاصرة، لا سيما أن الإشارة إلى اسم "الرب" كأحد القيم التقليدية لروسيا، تعني أموراً كثيرة، غالباً ما توقف عندها بوتين في كتاباته وخطاباته، وفي مقدمها حتمية استرجاع القيم الأسرية التقليدية التي كادت أن تذوب وسط طوفان "التغريب"، ومحاكاة الغرب، والتي أضرت كثيراً جداً بمؤسسة الزواج والأسرة والأطفال، التي هي عماد المجتمع الروسي.

ولعله ليس من قبيل المصادفة القدرية أو الموضوعية، أن يتفقد بوتين، كاتدرائية الجيش الروسي، بالقرب من العاصمة موسكو خلال أسبوع الاستفتاء، والتي أقيمت في حديقة "باتريوت" بمناسبة حلول الذكرى السنوية الخامسة والسبعين للنصر في الحرب الوطنية العظمى، ما يشير إلى تجذر فكرة الإيمان والأديان في مستقبل روسيا بعد جملة شيوعية اعتراضية.

معارضة للتعديلات الدستورية

هل اختفت المعارضة الروسية لتعديلات بوتين المقترحة؟ بالقطع لا، فالمعارضة في كل زمان ومكان مظهر من مظاهر الحياة السياسية العامة ودورة الحياة التقليدية، وعليه فقد كان هناك تنديد واضح وواسع من المعارضين الروس للتعديلات الروسية منذ بدء الاستفتاء، واعتبر البعض منهم أن في الأمر مهزلة.

المثير أن الانتقادات جاءت من الجانبين الليبرالي والشيوعي، وإن فشلا في إنشاء جبهة موحدة ضد بوتين، فهل المعارضة الروسية لا تثق في نفسها ولا تؤمن بجدواها؟ هذا ما يشير إليه بالفعل الباحث والمستشار السياسي الروسي فيتالي شكلياروف، الذي أشار إلى أن "نقص الموارد والوجوه الجديدة والحماسة، كما الإلهام والإيمان، كلها تشكل مصادر رئيسة لضعف المعارضة الروسية".

ولعل صحة أقوال شكلياروف تتمثل في عدم إظهار المعارض الرئيسي للكرملين أليكس نافالني، الذي نظم تظاهرات واسعة الصيف الماضي في موسكو من أجل انتخابات حرة، اهتماماً كبيراً أيضاً في التصدي للمشروع.

ومن الواضح أن جبهة الذين مع بوتين أقوى وأشد من مناوئيه، لا سيما أن الانقسامات العميقة في أوساطهم ومناورات الكرملين، منعت أي معركة جديدة ضد خطط بوتين الطموحة.

مهما يكن من أمر، فقد بان جلياً أن القيصر تحول من دب ثقيل الحركة في زمن خلافة الاتحاد السوفياتي، إلى ثعلب صغير رشيق الحركة مع أوان روسيا الجديدة... كيف حدث ذلك؟

عند ناتيانا ستانوفايان مؤسسة مركز "أربوليتيك" للتحليل، أن الكرملين جرد المعارضة الروسية من أسلحتها عبر طرح التصويت على الدستور بكليته وليس فقط على كل تعديل على حدة، وبذلك لم يعد باستطاعة المعارضة الوقوف بوجه تدابير تحظى بشعبية يتضمنها الدستور، مثل تحسين نظام التفاعل وتحديد الحد الأدنى للأجور، وفي هذا الوضع لم تعد المعارضة تعرف ما عليها فعله.

وعلى الرغم من أن المعارض الروسي الشهيرأليكس نافالني، قد ندد بالتعديلات الدستورية، واعتبر الأمر "انقلاباً دستورياً"، إلا أنه لم يفعل الكثير لمناهضته، وبالنسبة له فإن الوقوف بوجه الاستفتاء أمر عديم الفائدة، لأن التعديلات قد أقرت أصلاً في البرلمان، والتصويت في تقديره سيكون مزوراً.

صعود بوتين وخديعة الغرب

هل جاءت نتيجة الاستفتاء الأخير لتوجه لطمة للغرب الذي لا يزال يعتقد في أن بوتين يمارس نوعاً من الخديعة تجاه دوائره التقليدية؟

أخيراً نشرت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية عرضاً لكتاب جديد يتناول تفاصيل بروز بوتين، وسيطرته على روسيا، وكيف قدر له أن يخدع الغرب.

العرض قدمه الصحافي والمحلل الأميركي هاوارد آموس، والكتاب من تأليف الصحافية الأميركية كاثرين بيلتون، ولعل أفضل عبارة في الكتاب يصف بها أحد المنشقين السوفيات السابقين بوتين، هي أنه: "رجل لا يمكن أن ينحني ولكن يمكن كسره"... هل تكشف هذه العبارة عن مكنونات صدر الغرب ناحية بوتين؟

ليس سراً أن الغرب عموماً، وأوروبا خصوصاً لم يبديا أبداً أي ارتياح لاختيار بوتين طوال عقدين من الزمن، بحجة أنه الرجل الذي فوت على روسيا فرصة تأسيس نظام ديمقراطي يكون فيه التداول على السلطة بشكل دوري، ولعل أفضل من ترجم هذا التصور في عبارات واضحة بعينها، السفير الأميركي السابق لدى روسيا مايكل ماكفول في قوله: "لو كان يلتسين اختار بوريس نيمنتسوف لخلافته، لكانت الديمقراطية الروسية قد استمرت، ولربما استمر تعاون روسيا مع الغرب".

أميركا بحسب ماكفول "ترى في بوتين الرجل الذي يرفض صراحة الليبرالية والتعددية، ويتبنى عوضاً عنها قيم الأفكار المحافظة والأرثوذكسية والقومية".

كاترين بيلتون في مؤلفها، الذي هو أقرب ما يكون إلى بث أشواق قلبية وتطلعات عقلانية جهة بوتين، كانت تتوقع أن يكون تفشي وباء "كوفيد ـ 19" في الداخل الروسي، والصعوبات الاقتصادية التي تسبب فيها، سبباً في عدم اليقين تجاه بوتين ومستقبله، بالتالي رفض رؤاه وخططه لتعديلات دستورية، لكن حساب الاستفتاء جاء مغايراً، بل مجاف ومناف لمخططات الغرب التي أخفقت عبر عقد من العقوبات، لا سيما بعد ضمه شبه جزيرة القرم، وقد وجد الأوروبيون أنفسهم في حاجة إلى القيصر عندما أدلهم الخطب في زمن كورونا، وفي تصريحه في هذا الشأن كان بوتين يشير إلى أن بلاده لم تساعد أوروبا لأسباب سياسية كما زعم بعضهم، بل "لأنهم كانوا يواجهون أوضاعاً صعبة وهم الذين طلبوا ذلك".

يحاجج الغرب بأن أخطر إرث تركه بوتين عبر بصمة واضحة طوال سنواته المنصرمة في قيادة روسيا هو أن "الشباب الروس الذين نشأوا في عهده لا يعرفون ماهية النقاش الحر أو ما تعنيه الديمقراطية". غير أن واقع الاستفتاء الأخير يضعنا أمام فهم جديد لأولويات الروس، حرية وديمقراطية زائفة تقود إلى انهيار روسيا بعد أن قدر لها أن تستيقظ كما الفينيق من الرماد على يد بوتين، وفى الخلفية الفكرية والتاريخية عند بوتين أن أكبر مأساة جرت بها المقادير في القرن العشرين هي انهيار وتفكيك الاتحاد السوفياتي على يد أميركا وأوروبا، وأن التعديلات الدستورية تصون مستقبل النسيج الاجتماعي الروسي، حتى وإن اعتبرها الغرب بمثابة تضييق على الحريات، أو تجميع للسلطات في يد رجل لا ينحني، فيما يسعى الآخرون جاهدين عبثاً لكسره.

بوتين... المخلص الروسي

حكماً هناك من يتعامى من الغرب عن النظر إليه فى قصة ضابط الـ "كي جي بي"، الذي اعتبر ولا يزال بمثابة المخلص للروس من ظلامية الأوليغارشية التي خلفها سلفه يلتسين كإرث سيء السمعة.

لم يكن بوتين رجل سياسة يوماً ما، بل رجل استخبارات عتيد، وهذا ما أضفى على شخصه الكثير من الغموض المثير والملفات، وكذلك الكثير من العزم والتعتيم في الوقت نفسه للثأر من المعسكر الغربي.

احتاج بوتين عشر سنوات كى تنهض روسيا من سباتها، وعشر سنوات أخرى لكي تصبح لاعباً رئيساً في رسم الأدوار الدولية، وملء فراغات النفوذ والقوة التي فرغتها سياسات التردد الأميركي في زمن باراك أوباما، ومن بعده دونالد ترامب.

خلّص بوتين الروس من فخاخ الصيادين، ومن الشباك المنصوبة لهم عبر المال والإعلام بداية، لا سيما مع رجال من نوعية فلاديمير جوسينسكي، صاحب أكبر إمبراطورية إعلامية في روسيا.

كان الرجل أداة لطواغيت المال "الأوليغارشيين"، الذين طالما نجحوا في الاستئثار بمقاليد الحكم في البلاد سواء بشكل مباشر من خلال مواقعهم في السلطة التنفيذية والتشريعية، أو من وراء ستار.

نجح القيصر كذلك في معركته مع الحركات الانفصالية، أو بالأحرى ضدها، ففي خلال أشهر معدودات أخمد الحركات الانفصالية في الشيشان وشمال القوقاز.

ولعل الذين ذهبوا للاستفتاء على تعديلات بوتين الدستورية، قد وقر لديهم أن "الثعلب" الاستخباراتي وخلال عقدين من الزمن عرف كيف يشد أزر القوة العسكرية الروسية لبلاده، ويجعل الآخرين يتحسبون لأى تلاعب بمقدرات روسيا ذات الصواريخ الجهنمية مثل "سارامات"، والفوق الصوتية التي تحمل الموت المجنح، والغواصات المرعبة من نوعية بوسيدون، فقد آمن بوتين بأن الأخلاق والمبادئ الإنسانية الفوقية لا مكان لها في عالم السياسة، ورأى مبكراً أن الناتو لا ينفك يقترب من حدود روسيا الغربية بصواريخه النووية، الأمر الذي يشكل خطراً جاثماً وجسيماً على البلاد والعباد في الداخل الروسي.

لم يكن للغرب أن يسر أو يبتهج من نتائج الاستفتاء الأخير، ذلك أنهم وعبر عقدين من الزمن قد واجهوا بوتين الذي استعادت روسيا في عهده الكثير من قوتها الجيوسياسية كوريث شرعي للاتحاد السوفياتي، ما أثار انزعاج معظم دول حلف الناتو البالغ عددهم 29 دولة، وقد وطد الرجل علاقات روسيا مع التنين الصيني، وضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا، وغيّر مسار الحرب في سوريا، وباع منظومات الدفاع الجوي لتركيا، العضو في الأطلسي، واستطاع أن يبرم صفقات أسلحة مليارية مع دول حليفة لواشنطن، ووصل به النفوذ إلى الوصول والرسو على شواطئ أميركا اللاتينية، كما الحال مع فنزويلا على سبيل المثال.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الروس ونظام عالمي جديد

أحد الأسئلة الجوهرية في هذه القراءة يتعلق بمستقبل النظام العالمي في ظل الدعم الكبير الذى لاقاه الاستفتاء على الدستور الروسي وتعديلاته وما يسمح به لروسيا في الشراكات الدولية.

لقد أضحت شرعية بوتين مرة جديدة مؤكدة ومعمقة، فهو قائد قادر على استقطاب الروس إلى دائرته الفكرية وتوجهاته الأممية، ولهذا حكماً سيختلف المشهد الأممي قبل وبعد التعديلات.

ما يجعل اليوم من القيصر سداً روسياً حصيناً، هو أن الجميع في الداخل والخارج التزم بنتيجة الاستفتاء المذهلة، ولم تسمع أصوات التشكيك التقليدية، فى تزييف إرادة الناخبين الروس، وتقبل الجميع المشهد بنحو طبيعي ومن غير أي تحفظات.

هنا تبدو الدلالات واضحة، فالتأييد الشعبي لبوتين في الاستفتاء الأخير يفيد برسالتين، الأولى هي أن فلاديمير بوتين هو رجل الساعة، لا سيما في عالم يموج بتغيرات جيوسياسية غير واضحة الملامح أو المعالم ولهذا فهو الأقدر والأجدر بقيادة روسيا المعاصرة، الأمر الثاني هو أن روسيا قد عادت ومن جديد لتكون قاسماً أعظم مشتركاً في القيادة العالمية، وقد رسم بوتين في خطاب الأزمة الأخير ملامح ومعالم لنظام عالمى جديد... ماذا عن ذلك؟

باختصار، يتحدث بوتين عن العقود المقبلة التي ستشهد لا شك تغيراً في هيكلة النظام الدولي، وبخاصة بعد انتهاء جائحة كورونا، وإعادة وضع النقاط على مفاصل التطورات وربما التدهورات الدولية، وإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية العالمية من خلال تضافر جهود أقطاب مختلفة، ما يعني أن النظام العالمي المنفرد القطبية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، والذي أشار إليه جورج بوش الأب في أوائل تسعينيات القرن الماضي، وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

بوتين المرخص له الآن وبقوة تمثيل بلاده، هو الذي ينادي بـ"يالطا جديدة"، لا لتقسيم العالم قسمة الغرماء، كما حدث بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن من أجل عدالة معولمة تصون السلم والأمن الدوليين.

النظام العالمي الجديد الذي ترتئيه روسيا - بوتين، يهدف إلى ضمان وتوفر الأمن المأمول والمتساوي لكل عضو من أعضاء المجتمع الدولي في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والمعلوماتية، وفي السياق نفسه ترى أن هناك حاجة لمؤسسة أممية دولية أو على الأقل إعادة النظر في آليات الأمم المتحدة بوضعها الحالي، وبخاصة بعد أن باتت مطية لرؤى الولايات المتحدة وليس أكثر.

ولعل من أهم الخطوط العريضة التي توليها روسيا - بوتين في نظرتها المغايرة للعالم، تحقيق إدارة ثابتة ومستدامة للتنمية العالمية، الأمر الذي  يتطلب قيادة جماعية من الدول الرائدة في العالم، والتي يجب أن تكون ممثلة بحسب التناسب الجغرافي والحضاري، وأن تتم في إطار الاحترام الكامل للدور التنسيقي المركزي للأمم المتحدة.

لم يخسر بوتين حتى الساعة رهاناً بعينه على رغم كثرة العصي التي وضعت في دواليب إدارته طوال العقدين الماضيين، وقد برع في أن يجنب بلاده مغامرات لا طائل من ورائها، وقد وعى دروس التاريخ السوفياتي جيداً، فى حين كان منافسه الرئيسي، الولايات المتحدة الأميركية، تكاد تتحول قدماه من النحاس إلى الفخار، وتتحطم في حقول وسهول، وكذا جبال ومغائر العراق وأفغانستان.

هل بوتين رجل لا يستغنى عنه في الداخل الروسي؟

يمكن القطع بأن الثقة الكبرى التي أولاها له الشعب الروسي تقول بذلك، وهي في الوقت ذاته بمثابة تفويض لأن يكمل المسيرة، إنه اختيار للأفضل الذي جعلهم آمنين في سربهم، وفخورين بإنجازات وطنهم، واثقين من مقدرات الغد، الأمر الذي يجعل من اتهامات الغرب التقليدية من نوعية الديكتاتورية، والوصف بها، واحتكار السلطة والتمترس عند هذا المفهوم، وخطر الاستبدال وزيف المعنى والمبنى، عبارات إنشائية لا فائدة منها ولا طائل من ورائها.

الخلاصة... الدب لا يقيّد والثعلب الروسي له مستقبل مفتوح على جميع المحاور الاستراتيجية العالمية.

المزيد من دوليات