Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عصمت داوستاشي رسام متمرد يشكل أعماله من المهملات

معرض يقدم نماذج من أعماله وتجربته البصرية الجريئة والمختلفة

الرسام المصري عصمت داوستاشي في محترفه (موقع الرسام)

عُرف الفنان المصري عصمت داوستاشي بأعماله الفنية المُشكّلة من المهملات. يبدو الأمر هنا أشبه ما يكون باللعب، كأنه طقس طفولي، يمارسه الفنان بعفوية وافتتان، عفوية في انتقاء التفاصيل وافتتان بصوغ الأشكال وجمع الأشياء الصغيرة التي يعثر عليها ثم تحويلها إلى هياكل وصور وحكايات؛ حكايات تتجاوز هذه الأشكال وتتخطى اللحظة الراهنة إلى معان أخرى بعيدة وأكثر عمقاً. تُمثل أعمال داوستاشي التجميعية هذه جانباً هاماً في تجربته البصرية؛ هذه التجربة التي تحتفي بها قاعة مشربية حالياً في القاهرة بعرض نماذج مختلفة منها.

بين هذه الأعمال يبرز تكويناً مستطيل الشكل في داخله لُعبة "عروسة" من البلاستيك على هيئة فتاة، وهي نموذج متداول ومنتشر بين الأطفال يُجلب عادة من دول آسيا. تبدو اللعبة ممزقة الأوصال، عليها أثر ترميم سريع ومحاولة إصلاح غير مكتملة. وضع داوستاشي هذه اللعبة في وسط إطار مُزخرف ومُدعّم من الجانبين بزوج من خراطيم "الشيشة. يظهر الحس الشعبي هنا واضحاً في صوغ الأشكال والزخارف وتماثلها على جانبي هذا التشكيل. تبدو اللعبة في منتصف المساحة ككائن خرافي غرئبي التكوين. قد يُسعدك الشكل ويملأك بالبهجة حين تتطلع إليه، أو قد يُدخل في نفسك الجزع، أو ربما يلقي بشباك مسكونة بالأفكار والأخيلة من حولك؛ أفكار تتماهي مع تاريخ هذه الأشكال والعناصر ورحلتها الطويلة حتى استقرارها أخيراً كأيقونات داخل هذا الإطار.

يمكن القول إن عصمت داوستاشي يصنع من "الفسيخ شربات" وهو مثل مصري يصف من يجيد تحويل ما هو قبيح إلى شىء جميل. ولزيادة التأكيد أتى المثل بعنصرين متناقضين تماماً، أحدهما طعام شديد الملوحة، والآخر شراب بالغ الحلاوة. يفعل داوستاشي الشىء نفسه، هو يحول الأشياء المهملة إلى نسق مُنظّم وله معنى. مُعظم العناصر التي تحتويها تلك الأعمال كان يمكن أن ألا يكون لها أثر، فلا موضع لها سوى النفايات إن لم تُوظف على هذا النحو الذي بث فيها الروح من جديد كي تنطق بالحكمة وتشي بالرمز.

لم يخل معرض من معارض داوستاشي السابقة من هذه الأشكال، يضعها إلى جوارأعماله التصويرية الشديدة الخصوصية هي الأخرى. يعود تعلق الفنان بالأمر إلى ستينيات القرن الماضي كما يقول حين كان في زيارة إلى مولد السيد البدوي، واشترى من هناك نموذجاً لعروسة المولد الشعبية. يقول داوستاشي: "عندما عدت إلى مرسمي في مدينة الإسكندرية وجدت نفسي أضع النصف العلوي من هذه اللُعبة في صندوق وأرشق فيه سكيناً ليلامس رأسها. لم يكن أحد في مصر حينها ينفذ أعمالاً فنية بهذه الكيفية، ولم تكن مصطلحات مثل العمل الفني المركب والتشكيل في الفراغ متداولة وقتها". منذ ذلك التاريخ بدأ تعلق داوستاشي بتشكيل هذه الأعمال كما يقول، لكنه لم يعرض تجاربه تلك سوى في عام 1978 ضمن أحد معارضه الشخصية.

فنان مُتمرد

يرتبط الفنان المصري عصمت داوستاشى بصلة قرابة مع إحدى الفرق الصوفية التي اختار أفرادها الانعزال والابتعاد بأنفسهم خارج نطاق المدينة، هؤلاء الذين طالما تأمل أحوالهم في شبابه متسائلاً عن إمكانية عودتهم إلى الحياة الطبيعية والاختلاط بالناس. من هنا تولدت لديه فكرة "المستنير دادا"، ذلك الرمز البصري الذي كان عنواناً لسلسلة من أعماله في تسعينيات القرن الماضي. والمستنير هنا، وبعيداً عن تلك الأسباب المباشرة لوجوده في أعمال داوستاشي ليس مجرد رمز أو محض فكرة تحمل ما تحمل من أيقونات الشكل واللون. فقد مثل حالة من الوجد الصوفي تلبست الفنان السكندري لسنوات، حالة من الكشف أسكنت ذلك الفراغ الممتد ما بين رسامي المنمنمات العظام وفناني اليوم بسيل من العناصر والمفردات والدلالات والرموز.

أبرز ما يميز تجربة داوستاشي هو تمردها على الأشكال والصياغات التقليدية، هذا التمرد الذي لازمه منذ كان طالباً، فقد رفض الاستمرار مثلاً في مرسم الفنان الراحل سيف وانلى قبل أن يلتحق بمعهد الفنون الجميلة لشعوره بسطوة ذلك الفنان وقدرته على التأثير في تلاميذه ما يجعلهم نسخاً مكررة منه. وهو لم يرد أن يكون نسخة من أحد، حتى لو كان سيف وانلي ذلك الفنان الذائع الصيت. وحين التحق داوستاشي بالفنون الجميلة كان يمزق أعماله بعد إنهائها وتقييم الأساتذة لها، لأنها فى نظره لم تكن أعمالاً نابعة من داخله، بل كانت تؤدى بتكليف وليس إفرزاً حراً لقريحته. لكن داوستاشي حين يفكر في هذا الأمر الآن، وبعد مرور هذه السنوات يرى أنه لم يكن دائماً على صواب كما يقول، غير أنها فورة الشباب وشعوره وقتها بأنه فنان مكتمل التكوين، لذا كان يشعر بسذاجة مايقدم اليه ويُطلب منه إنجازه.

إنعكس هذا التمرد فيما بعد على أدوات التعبير التي لجأ إليها داوستاشي مع استقرار تجربته، وسلوكه في إعلان مواقفه. قبل سنوات أصدر داوستاشي كتاباً له تحت عنوان "إبداعات في لون أسود" والذي تلقاه متابعوه حينها ببالغ الدهشة، إذ فوجىء الجميع بأن صفحات الكتاب لا تحمل أياً من لوحات الفنان أو كتاباته، إذ لم تكن تحمل سوى السواد. فقد ترك الفنان كل صفحات الكتاب فارغة إلا من اللون الأسود الذي خيم حتى على تقديمه له على الغلاف الخلفي. أعلن داوستاشي حينها أن ذلك ليس سوى تعبير عن استشعاره للكارثة، وهو يرى صعود العديد من الأفكار والرؤى المريضة وتحكمها فى مقدرات العالم، إضافة إلى أجواء السلبية التي باتت تُخيم على المجتمع والحياة الفنية والنقدية في مصر. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يفاجىء فيها داوستاشي جمهوره بمشاعر الرفض وعلامات الإحباط ، فقبلها تعمد عرض أعماله "مقلوبة" في أحد معارضه الشخصية كتعبير عن شعوره بقسوة الواقع كما يقول. لم يتوقف داوستاشي منذ تخرجه في الفنون الجميلة عام 1960 عن إثارة الدهشة، ولا يسأم البحث حتى اليوم عن مسارات جديدة لتجربته الثرية بالأشكال والحكايات.

المزيد من ثقافة