Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الكرة تكتسح ملعب النساء في فيلم "أوفسايد الخرطوم"

المخرجة السودانية مروى زين تجسد الشغف الانثوي ب"الساحرة المُستديرة" رغم التشدد

مشهد من فيلم "أوفسايد الخرطوم" (موقع الفيلم)

لن يفارق ذهننا هذا التنويه الذي نقرأه على الشاشة قبل أن يبدأ الفيلم: "تحت الحُكم العسكري الحالي في السودان، لم يكن مسموحاً للنساء بلعب كرة القدم ولم يكن مسموحاً لنا بالتصوير أيضاً ولكن...". فهو يحدّد لنا الزمن الذي صُوَّر الفيلم خلاله، أربعة أعوام قبل قيام ثورة ديسمبر(كانون الأول)، كما يُذكرنا بحدث الثورة نفسها التي قامت بعدما انتهى العمل على الفيلم، وبأن رمز هذا الحُكم المُشار إليه، عُمر البشير، لحُسن الحظ، قد سقط، نستعيد مشاهد الميادين الثائرة، وتلك السيدة التي وقفت تخطب وسط الجَمْع، فأصبحت صورتها، وصار جسدها أيقونة.

خمس شخصيات نسائية هُنّ: سارة جبارة، نضال فضل الله، هالة زكريا، فاطمة جدال، وإلهام بلطون؛ تناضل كل واحدة منهنّ يومياً على طريقتها كي تمهد الطريق لنفسها وللأخريات من السودانيات المأخوذات بلعب كرة القدم. تسافر سارة من دولة الجنوب المستقلة حالياً إلى الشمال كي تلتقي زميلاتها. تشتغل هندة، في جمع الإيجار من السكان، وتمارس أيضاً أعمال النظافة الفندقية، بهذا المال تساعد رفيقاتها في استئجار ملعب، للعب مباراة، للتمرُّن في سبيل الغاية الأكبر، وهي تدشين فريق كرة قدم نسوي سوداني.

يتتبع "أوفسايد الخرطوم" هذه الرحلة لتحقيق الهدف، وهو في زمنه المكثف جداً، لا يتجاوز الساعة وربع الساعة، يجعلنا نتطلّع إلى معرفة تفاصيل هذه الرحلة، نستمتع بالصحبة، نُعجب بقوة سعي أولئك المناضلات، أكثر مما ننتظر النهاية التي سيُسفر عنها. الفيلم من إخراج المخرجة السودانية الشابة مروى زين، وهو إنتاج مشترك بين السودان والنرويج والدنمارك وفرنسا. عُرض الفيلم للمرة الأولى ضمن برليناله العام 2019 وحصل على جوائز منها: جائزة "أحسن عمل أول" مُقدمة من قناة "تي في 5 موند" ضمن مهرجان قرطاج 2019، وجائزة أفضل فيلم تسجيلي من مهرجان السينما الإفريقية 2019. كما عُرض ضمن فعاليات الدورة الماضية من مهرجان القاهرة السينمائي.

النساء وكرة القدم

تمزح الفتيات بعضهنّ مع بعض، يذهبن إلى الملاهي، يقُدن سيارات التصادم. تروي سارة الواصلة من الجنوب، حكاية الطاحونة التي كان يملكها جدها "إرنست جبّارة"، في الماضي البعيد قبل أن تصير هذه الطاحونة باراً. يشيع هذا الخيال اللطيف الضحك بين الفتيات. يُحررهنّ من متاهة الإجراءات القانونية التي عليهنّ الدوران فيها، ما بين الحصول على الأوراق الرسمية المطلوبة لإنشاء الفريق، والحركة بين الولايات في سودان منقسم، إضافة إلى تلصص السلطة عليهنّ، وتعليقاتها المُثبّطة. مع ذلك، لا يكون هذا التحرير، بالخيال والضحك عابراً أبداً، يجعلنا الفيلم نحس بأن أولئك السيدات أحرار في ما بينهن، أحرار في الفكر وفي الحركة، وخلال الأوقات حيث لا تمارسن كرة القدم، نشاهدهنّ يستمعن إلى الموسيقى السودانية، يرددن كلمات الأغنيات، يتلامسن وهنّ يتمايلن على وقعها. تتولى مروى زين المخرجة وكاتبة السيناريو تصوير الفيلم بنفسها، هي فتاة ولا يجرح حضورها هذه الألفة التي تعيش في رحابها الفتيات. في الواقع أحد مواطن جمال "أوفسايد الخرطوم" هو قدرته على التسلل إلى عالم النساء، الصديقات في ما بينهنّ، ونقله ببساطة إلى الشاشة.

هناك أيضاً، مشاهد ننتظرها لمجموعتنا المتحمسة، عندما يذهبن لتناول الغداء معاً في أحد المطاعم، أمامهنّ شاشة كبيرة مُعلَّقة على الجدار، يتابعن من خلالها أحداث إحدى المباريات الدولية، تتسع عيونهنّ، يحدقن، يصحن، ثم يفْزِزن من أماكنهنّ لحظة إحراز الهدف، يصرخن لكن الصراخ يبقى تحت السيطرة، وتضم إحداهنّ الأخرى في المكان العام.

شغف الفتيات ب"الساحرة المُستديرة" كما يُقال عنها لا يمكن تفسيره، بالضبط كما لا يمكن تفسير شغف الرجال بها، أما الغريب حقاً فهو تعنّت السلطة السياسية إزاء ممارسة النساء هذه اللعبة البسيطة والشعبية. فالفتاوى التي تصدر عن المرجعية الدينية في السودان، تشترط على النساء ممارسة الرياضة التي لا تضر ب"أنوثتهنّ"، أي تلك الرياضة التي لا تساويهنّ بالرجال. يُعطينا هذا فكرة عن ذعر السلطة من مجرد كرة تجري بين أرجل الفتيات؛ لكن التأمل المستمر للجسد، أو للأجساد الأنثوية في الفيلم، قد يأخذنا خطوة أبعد في الفهم.

الجسد الأنثوي

على الرغم من نسوية الموقف الذي تتخذه الفتيات، في إصرارهنّ على ممارسة رياضة تسعى الدولة رسمياً إلى منعهنّ من ممارستها، وفي غياب المردودين المعنوي والمادي ما يساعد عادة على التمسك بالشغف، وفي حالة صعوبة التمرُّن نفسه، وفي تكريس أنفسهنّ شبه التام لتحقيق هذه الغاية، وفي دعمهنّ إحداهنّ للأخرى، ليس فقط داخل اللعبة ولكن عموماً في الحياة، على الرغم من كل ذلك، لا تودّ عضوات الفريق النسوي المُرتقب منع الرجال من الانضمام إليهنّ، ولا يسعين إلى إقصائهن من المشهد، كل المراد هو الالتحاق باللعبة الحلوة والحقيقية. وعلى طريقتهنّ، يحلمن بالمساواة.

يمثّل التتابع الذي تطوف فيه الكاميرا حول أجساد النساء في البيوت، وهي تكاد تحتجب وراء الستائر مرة، وخلف نور الشمس مرات أخرى، يمثل لحظة الذروة في التعبير السينمائي، وهنا ندرك أن "أوفسايد الخرطوم" ليس فقط عن فرقة نساء مناضلات يحاولن ممارسة رياضة يحببنها في بلد يمنع ذلك، لكنه أيضاَ عن توق الجسد إلى التحرّر، أن يؤتي من الحركات كيف يشاء، أن يعترف بتكوينه كما هو، أن يحتفي بتفرّده، بمسامه السمراء.

في هذا الاستعراض الجريء الذي تصاحبه موسيقى مميزة من توندي جيجيدي، وفي مشاهد المباريات نفسها وفي لحظات التمرين، نتطلع إلى أجساد تتمايز في ما بينها، أجساد مشدودة مثل الرماح، أخرى رقيقة، أجساد منتصبة وغيرها عنيدة، أجساد فاتنة لأنها تقدم تنوعاً مبهراً، مُحطمةً التصوّر الأحادي عن جسد المرأة. هذا التعدّد هو ما يخيف السلطة، هذه الاحتمالات المفتوحة، العفوية هي التي تغذي الثورات.

تأثيرات جميلة

يتقاطع "أوفسايد الخرطوم" مع فيلم تسجيلي سوداني آخر صدر أخيراً هو "الحديث عن الأشجار" للمخرج صهيب قاسم الباري. تشترك مروى زين مع صهيب الباري في تتبعهما رحلة سعي إلى استعادة شيء من الماضي، وإعادته إلى الحياة، وبينما يركّز "الحديث عن الأشجار" على تاريخ السينما وصناعها المفقود في السودان زمن الحكم العسكري، تتبع مروى زين، ريادة النساء في مجالات عديدة منها كرة القدم، وشجاعتهنّ الملفتة.

بهذه المحبة للناس وللحياة في الفيلم، تذكّرنا المخرجة الواعدة مروى زين بمخرجات مؤثرات كعطيات الأبنودي من مصر، والمخرجة الفرنسية آنييس فيردا، ولا سيما عند فيردا اهتمامها الكبير بالجسد.

يعود التنويه في بداية الفيلم كثيراً إلى أذهاننا، وتلفت انتباهنا "لكن" الاستدراكية، إلى ما كانت تحمله من إمكانات غير محدودة للمقاومة في الماضي، وما صارت تحمله من أملٍ للمستقبل. بأسلوبه الخاص، يبحث "أوفسايد الخرطوم" عن البهجة، عن الحلم، ويروي لنا بشكل غير مقصود، عن بدايات الثورة، التي تتشكل داخلياً في البداية، قبل أن تنطلق لتغيير العالم بعزيمة وتصميم.

المزيد من سينما