Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"عودة الحياة" في مصر: جدّ وهزل وفرحة وتوجس

الفتح النسبي للمقاهي والمطاعم يفرض على الرواد نمطاً جديداً ويجعلهم مسؤولين عن أنفسهم

مواطن مصري يشاهد البث التلفزيوني لخطاب رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي في مقهى شبه فارغ  (رويترز)

تبدو الأجواء في مصر أبعد ما تكون عن هلع كورونا ورعب الفيروس ووجل الوباء، رغم أن الهواء والبشر والحكومة والشارع والمزاج العام جميعها ينضح بكمامات ومطهرات ولافتات تشير إلى أن الدخول بأولوية الحجز والسلام من بُعد و"يا بخت من زار وخفف".

استعدادات وخفة ظل

خفة ظل واضحة تغلف العديد من الاستعدادات الدائرة رحاها بكل همة ونشاط حيث اليوم السبت موعد عودة الحياة إلى طبيعتها "الجديدة". خفة الظل خليط من فرحة حقيقية بإعادة فتح بيوت أغلقها الحظر، وتنشيط حركة بيع وشراء ركدت بفعل الإغلاق الجزئي والخوف الكلي الذي دفع الملايين إلى الاكتفاء بشراء الأساسيات، وأدرينالين الإثارة الناجمة عن بدء حياة، يعلم الجميع أنها لن تكون كتلك التي ودعوها منتصف مارس (آذار) الماضي.

يعود تاريخ اللافتة الورقية الملصقة على واجهة المقهى الشعبي بمنطقة "ميدان الجامع" في مصر الجديدة (شرق القاهرة) إلى مارس (آذار) الماضي. ويبدو هذا واضحاً من لونها الذي تحول إلى البني وأطرافها المهلهلة. لكنها لم تصمد أمام همّة ونشاط خمسة شباب، هم قوة العمل الضاربة في المقهى، الذين تم استدعاؤهم على عجل لتجهيزه لليوم الموعود.

قبل عودة الحياة

اليوم السابق لعودة الحياة، هو المسمى الذي اعتنقه عموم المصريين للإجراءات الحكومية المعلنة لعودة النشاط التدريجي بعد أسابيع الإغلاق والحظر الجزئيين، حوّل شوارع مصر وحاراتها إلى خلايا نحل. المقاهي والمطاعم التي تمثل عصب الحياة بملايين البيوت المصرية، ومصدر البهجة والسعادة في أخرى هي قبلة الأنظار في اليوم الأول لعودة الحياة.

يقول سامر سعيد، 38 عاماً، مهندس، "إن من يتابع ما يحدث في الشارع وعلى أثير مواقع التواصل الاجتماعي يشعر أن قرار عودة الحياة يعني بالنسبة إلى ملايين المصريين عودة المطاعم والمقاهي للعمل، وكأنها هي الحياة".

لكن ما يجري ليس مجرد شعور، بل واقع يشير إلى أن العمالة الموسمية في مصر غير محددة العدد أو النسبة. أرقام وزارة القوى العاملة تشير إلى نحو عشرة ملايين عامل موسمي.   

دراسة للبنك الدولي عن العمالة وسوق العمل في مصر رصدت أن العمالة المصرية في القطاع الخاص موزعة بين مؤسسات عمل غير رسمية (49 في المئة من مجموع المؤسسات الخاصة) ومؤسسات عمل رسمية (51 في المئة من مجموع المؤسسات الخاصة)، ويمثل العاملون في المطاعم والمقاهي بأنواعها نسبة معتبرة (وإن كانت غير محددة رسمياً) من العمالة الموقتة أو الموسمية، لكنها تقدر ببضعة ملايين.

 

 

ملايين دون دخل

القطاع الأكبر من هذه الملايين وجد نفسه دون مصدر دخل بين وباء وضحاه. أغلقت المقاهي أبوابها وكذلك المطاعم، وأبقى البعض على خدمة توصيل الطلبات للمنازل، فاستيقظت ملايين البيوت على كابوس الخراب.

سيف محمود، 28 عاماً، نادل في مطعم فول وفلافل، تحول إلى مجال توصيل طلبات المتاجر (السوبر ماركت) في زمن كورونا. يقول، "الميزة الكبرى أنني أمتلك دراجة نارية. وحين أغلق المطعم أبوابه وجدت نفسي في الشارع. ولأنني متزوج ولدي طفل فقد وجدت في توصيل الطلبات ملجأ لي من الجوع، لا سيما أن أغلبنا (النادلين) يعمل دون تعاقد رسمي، ومن ثمّ لا مجال للحديث عن حقوق إلا ما يتصدق به صاحب العمل".

أصحاب العمل من مطاعم ومقاهٍ تضرروا، شأنهم شأن العاملين لديهم، ولكن كلاً بدرجة متفاوتة عن غيره. ولذلك كانت المكالمات الهاتفية التي أجراها أصحاب المطاعم والمقاهي بالعاملين لاستدعاء بعضهم استعداداً للفتح بمثابة "قبلة الحياة".

لكن سيف محمود لم يستقبل مكالمة، بل بادر بالاتصال بصاحب المطعم الذي أبلغه أن القرار الحكومي ينص على استقبال 25 في المئة فقط من سعة المطعم، وهو ما دفعه للاكتفاء بـ25 في المئة فقط من العاملين لحين عودة العمل بطاقة مئة في المئة. ويستمر محمود في عمله البديل كعامل "ديليفري" ضمن الجيش الجرار لعمال التوصيل، الذي انتعش وتوسع وتشعبت مهامه بفضل كورونا.

كنف كورونا

"عودة الحياة" في كنف كورونا تصول وتجول في فلك المقاهي وما خلفها. التحام الأسر في المنازل، واضطرار الرجال التزام البيوت دون مهرب أو ملجأ أو مخرج طيلة الأشهر الثلاثة الماضية أدت إلى تفجر كمّ هائل من الجد المختلط بالهزل حول أثر المقاهي في حياة الرجال، وكيف أن حرمانهم منها مضافاً إليه وقوفهم وجهاً لوجه للمرة الأولى في حياتهم أمام مسؤوليات البيت والأبناء وتفاصيل الحياة الأسرية الدقيقة والكبيرة، التي يقع أغلبها على كاهل الزوجة كادت تدفع البعض منهم إلى الجنون.

جنون السخرية على أثير مواقع التواصل الاجتماعي تفجر مئات النكات المصورة والأفكار المتبلورة حول عودة الرجال إلى المقاهي. فمنهم من هتف "تحياة القهوة (المقهى) ولمة الشباب وتسقط الستات الطاغية"، ومنهم من تنبأ بأن يقوم "المعلم" صاحب المقهى بعمل "إنترفيو" شخصي لكل زبون حتى يتمكن من اختيار الـ25 في المئة الموعودة بالعودة إلى المقهى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

العودة للمقاهي درجات

لكن العودة إلى المقهى درجات وفئات. ففي "ميدان الجامع" هذه المنطقة التجارية والسكنية يجري العمل على قدم وساق لإعادة فتح المقاهي الشعبية ملجأ الباعة والمشترين والسائقين والحمالين على حد سواء. هناك لا يحمل كثيرون هم الـ25 في المئة. فالمقاهي تتمدد وتتشعب وتتوغل حتى وإن اقتصرت أرجاؤها على هذه النسبة.

يقول سيد محمد، 42 عاماً، عامل المقهى العائد بعد الحظر، والمنهمك بكل همّة ونشاط وبهجة في غسل الرصيف المتاخم لمكان عمله، "25 في المئة 20 في المئة 10 في المئة، النسبة لا تهم. المهم أن باب المقهى سيفتح مجدداً. اللهم أدمها نعمة. وسنذهب نحن بالشاي والقهوة والسحلب والقرفة إلى الـ75 في المئة المتبقية"، مشيراً إلى طبيعة المنطقة حيث أمام كل محل تجاري مقهى صغير يجلس فيه صاحب المحل وزبائنه وما تيسر من مارة من رجال ونساء.

الأكل طلباً للراحة

المثير هو أن النساء ينافسن الرجال في ترقب عودة المقاهي، وهو ما يعني عودة الخروج مع الصديقات ولقاء القريبات والتقاط الأنفاس من المسؤوليات. لكن هذا يعني أيضاً إعادة فتح خزانة الملابس واكتشاف ما فعله الحظر وملله، التي بات من الصعب حشرهن في ملابس ما قبل الإغلاق بسبب الإفراط في تناول الطعام بحثاً عن الراحة.

راحة من نوع آخر تعتري فئة عريضة من المصريين مع إعادة فتح دور العبادة للصلوات اليومية وليس الأسبوعية بعد إغلاق يعد الأول في تاريخ مصر الحديث والقديم.

وعلى الرغم من أن أغلب دول العالم أغلقت دور العبادة ضمن إجراءات مواجهة الوباء، فإن كثيرين اعتبروا الإغلاق حرباً ضد الإسلام والمسلمين. وقد انعكس هذا الشعور فرحة غامرة وبهجة عارمة دعت البعض إلى التوجه إلى المساجد يوم الجمعة، أي قبل فتحها بيوم، لعرض المساعدة في إجراءات التعقيم والتطهير.

 

 

تعقيم وتطهير

إجراءات التعقيم والتطهير في مكان آخر ألا وهو الفنادق والمنتجعات السياحية التي عانى العاملون فيها الأمرّين طيلة الأشهر الماضية جرت بشكل فريد. عدد من الفيديوهات تم تحميله على "يوتيوب" تم تصويره لطواقم العمل الفندقي من موظفي وموظفات استقبال وعمال نظافة ونادلي مطاعم ومدربي تنس وسباحة وهم يستعدون لاستقبال النزلاء بطاقة 50 في المئة والجميع يرقص فرحاً وابتهاجاً.

فرحة العودة وبهجتها اقتصادية نفسية خالصة. تقول نرمين الشريف، 34 عاماً، موظفة استقبال في فندق، إنها وزملاءها وزميلاتها ينتظرون هذا اليوم بفارغ الصبر. تقول، "أعلم أن ما أقوله ليس منطقياً لكنه حقيقة واقعة. غاية المنى والأمل لملايين من المصريين أصبحت عودة الحياة لطبيعتها حتى وإن كان ذلك في وجود الوباء. ويبدو أن الناس أيقنت أن الفيروس ما زال مجهول المعالم، ما يعني أن الأسهل تعليق الأماني على عودة الحياة وفتح المنشآت المغلقة وليس انتظار الأمصال والعلاجات لأنها في علم الغيب. العودة الآن ألقت الكرة بملعب الناس والرهان على وعيهم".

الرهان على الوعي

معرفة أن عودة الحياة إلى طبيعتها "الجديدة" لا يعني انتهاء الفيروس بل التعايش معه وتجنب الخروج لمن يستطيع إلى ذلك سبيلاً يبدو واضحاً في الهاشتاغ الذي أصبح ترند على "تويتر" باسم "هتعمل إيه يوم السبت" أي أول يوم من أيام العودة. وبينما تتواتر نوايا المرابطة على باب المقهى من الصباح الباكر على أمل اللحاق بالـ25 في المئة المحظوظة بدخول المقهى، ومحاولات العثور على ملابس مناسبة لأن الخزانة لا تزال متخمة بملابس الشتاء منذ الإغلاق، ومخططات التردد على أكبر عدد ممكن من المطاعم لتعويض ما فات، تتواتر كذلك تحذيرات ظاهرها هزل وباطنها جد.

يشير البعض أن يوم السبت وما يليه من أيام سيخصص لرقصة "حاملي النعش" أو "النعش الراقص"، التي اشتهرت بها فرقة من غانا تقوم بخدمة حمل النعوش والرقص بها. ويشير الآخر إلى أنه سيتوجه فوراً إلى المسجد لصلاة الجنازة اختصاراً للطريق والوقت. وقال آخرون إن يوم السبت وما بعده فرصة لنجاح ما أخفقت فيه الحكومات المتتالية على مدى عقود ألا وهو تقليل عدد السكان وتحديد النسل.

ولأن خير التغريدات ما قل ودل فقد غردت إحداهن قائلة، " هاعمل إيه يوم السبت؟ قرار الحكومة بالفتح وعودة الحياة غير ملزم للفيروس. الفيروس سيعمل عادي وأنا سألتزم البيت عادي أيضاً". وغرد آخر، "هاعمل إيه يوم السبت؟ سأنتظر بخوف إلى أن تصدر وزارة الصحة حصيلة الإصابات والوفيات ثم أخلد إلى النوم".

وسواء دارت عودة الحياة حول تعويض ما فات من إغلاق المقاهي أو الإفراط في التردد على المطاعم أو الاستمرار في الخضوع للعزل والتزام البيت، فإن عودة الحياة الطبيعية "الجديدة" في مصر تفترض أن غسل الأيدي أصبح أسلوب حياة، وتكشف كيف أن المقهى غالٍ ونفيس، وترفع عن الملايين الشعور الضاغط بأنهم ليسوا أحراراً ثم تتركهم لوعيهم دون غرامة خرق حظر أو مخالفة قواعد إغلاق.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات