Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لا قضية واحدة ولا خطر وحيدا

التركيز على الأخطار الإسرائيلية والإيرانية والتركية يجب ألا يجعلنا ننسى ما تفعله الولايات المتحدة وروسيا في لعبة التنافس

"لا حققنا الوحدة ولا حررنا فلسطين ولا حصلنا على تسوية" (أ ف ب)

دروس التاريخ ناطقة بكل اللغات لمن يريد أن يتعلم. أقدم هذه الدروس هو النهايات التراجيدية البائسة للطموحات الكبيرة. وأكثرها تكراراً هو التجارب الفاشلة للتركيز على حل أيديولوجي وحيد، فلسفي أو ديني، لكل أزمات الكون ومشاكل الإنسان. هيغل اعتبر أن الحرب هي "القوة المحركة للفكر والمجتمع". ماركس رأى أن وصول البروليتاريا إلى السلطة ينهي صراع الطبقات والنظام الرأسمالي ويقيم الشيوعية.

هتلر راهن على "التفوق الجرماني" فقاد العالم إلى حرب عالمية. ماوتسي تونغ قال في خطاب عام 1957 إنه إذا حدثت حرب نووية و"مات نصف سكان العالم، فإن النصف الآخر سيبقى والإمبريالية ستسوى بالأرض والعالم كله يصبح اشتراكياً". جماعات الإسلام السياسي الإرهابية لا ترى سوى القتل وسيلة لممارسة أشنع ديكتاتورية باسم "الحكم الإلهي". أما الفيلسوف أشعيا برلين، فإنه اختصر الدروس والتجارب لمن يهرب منها بالقول: "أكبر وهم هو الأحادية والاعتقاد أن هناك حلاً واحداً ونهائياً وحقيقة مطلقة تؤالف كل القيم وتعادل كل التضحيات من أجل مستقبل مجهول".

وليس قليلاً ما عانيناه نحن كعرب من أحاديات تتحكم بالتعدية. فالازدهار مستمر في سوق الأوهام منذ الانحدار التاريخي من قمة التفاعل مع الفلسفة والطب ومجمل الثقافة الإغريقية وتطويرها ونقلها إلى أوروبا الغارقة في ظلام العصور الوسطى قبل "عصر الأنوار" إلى هاوية الانغلاق والحرب على ما سمي "الغزو الثقافي". والحلول الأحادية أخذتنا إلى اختصار كل القضايا بقضية واحدة وكل الأخطار بخطر وحيد. قضينا عقوداً من الدوران حول الوحدة العربية وقضية فلسطين. مشينا وراء من قال إن تحقيق الوحدة هو الطريق الصحيح لتحرير فلسطين من الاحتلال الإسرائيلي. ومشينا وراء من قال تحرير فلسطين هو المحطة الإجبارية على طريق الوحدة. مارسنا الحل العسكري الكلاسيكي والحل العسكري بالمقاومة. وذهبنا إلى التفاوض على تسوية سلمية للصراع العربي- الإسرائيلي. والنتيجة: لا حققنا الوحدة، لا حررنا فلسطين، ولا حصلنا على تسوية. تحمّلنا أنظمة انقلابات عسكرية تحت عنوان التحرير، ووضعنا على الرف قضايا أساسية مهمة هي الديمقراطية والتنمية الإنسانية ونوعية التعليم والعدالة الاجتماعية. وكانت هذه من الخطايا المميتة، لأن مواجهة الخطر الإسرائيلي بالجهل والأمية وغياب الحريات شيء والمواجهة بالعلم والمجتمعات المتقدمة والتكنولوجيا شيء آخر.

ولا نزال في المعمعة. تكاثرت علينا الأخطار قبل أن نتعلم باللحم الحي أن لا خطر يلغي خطراً. وتزاحمت القضايا التي تحتاج إلى حلول واقعية من دون أن تختفي نظريات الحل الوحيد الإيديولوجي: فما العمل؟ شرط أي عمل جدي يقود إلى حل هو الخروج من الأوهام. أوهام الذين يريدون تطبيق معادلة: كن ضد الإمبريالية وإسرائيل في "محور الممانعة" وافعل أي شيء لشعبك في الداخل، من قمع وإفقار وتحكم في الاقتصاد والمال على طريقة المافيات. أوهام الذين لا يزالون يصرّون على ضرورة نسيان كل القضايا والأخطار للتركيز على قضية واحدة وخطر وحيد. وإذا كان جيلنا قضى معظم العمر في مواجهة الخطر الإسرائيلي، فإنه صار يواجه أيضاً الخطر الإيراني والخطر التركي. وإذا كانت الأولوية لقضية الأمن القومي، فإن ما أصبح من الأولويات إلى جانبها هو القضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والحق في الحياة الكريمة.

ذلك أن التركيز على الخطر الإسرائيلي يجب أن لا يعني تجاهل خطر التغلغل الإيراني في الأرض العربية والنسيج الاجتماعي العربي، وخطر الأحلام السلطانية التركية التي يجسدها الرئيس رجب طيب أردوغان بالتدخل العسكري في سوريا والعراق وليبيا. والتركيز على الأخطار الإسرائيلية والإيرانية والتركية يجب أن لا يجعلنا ننسى ما تفعله الولايات المتحدة وروسيا في لعبة التنافس والتفاهم والعودة إلى إقامة القواعد العسكرية التي احتفل العرب بالتخلص منها بعد منتصف القرن العشرين. ثم ماذا عن أخطار داعش والقاعدة وكل التنظيمات التكفيرية الإرهابية؟ ماذا عن المشاريع التي سلاحها الفتنة المذهبية والطائفية؟ وماذا عن مشروع الإخوان المسلمين الذي تموله قطر وتديره تركيا؟

أيام الحرب الباردة وصراع الجبارين الأميركي والسوفياتي كانت الصين تمارس سياسة عنوانها مثل صيني يقول: "استخدم البرابرة ضد البرابرة". وليس لدينا نحن ترف استخدام أخطار ضد أخطار. أقصى ما نستطيعه هو الحؤول دون أن يستخدمنا أصحاب الأخطار.

المزيد من آراء