Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمود درويش ليس الشاعر فحسب!

"يتحول معبود الجماهير إلى أيقونة تقي من العين وتحمي النفس والجسد"

محمود درويش (مواقع التواصل)

لا بُد أن نفصل بين المبدع والنص في النقد الأدبي، لكن ذلك في علم الاجتماع والسيكولوجيا غير صائب، ففي كثير من معالجات هذه المجالات، الفصل غير ممكن، وتحديداً حين يكون المبدع سياسياً أو مسؤولاً إدراياً، أي شخصية عامة في مجال آخر، مثلما غاندي الداعية إلى فلسفة اللاعنف، وصِنوه الأميركي مارتن لوثر كينغ. ويحضرني في هذا السياق عادةً، شخصية "ونستون تشرشل" الممنوح جائزة نوبل للآداب، أو"سان جون بيرس" و بابلو نيرودا" اللذان كانا سفيرين لبلادهما. كما أننا لا نتمكن أيضاً من الفصل في العلاقات الشخصية، التي تكون متداخلة بين شخصين يعملان في مجال واحد، حين يكون أحدهما مسؤولاً والآخر يعمل لديه، فهنا ثمة اشتباك بين الخاص والعام، فيكونان في حال كهذا كجسدَي توأمين غير منفصلَين.


معبود الجماهير

أما لما نرنو إلى الأسماء النماذج التي ذُكرت، فثمة تداخل في التجربة الإنسانية، بين النجومية والأسطرة، ما يجعل النظرة العامة طُهرانية ومقاربة للمقدس، وفي حلول تأليهي دامغ، يجعل الشخصية متعالية ومفارِقة. الشخصية التي عاشت حياتها وسيطاً لقطيع، عند مماتها تُنحّى جانباً لا تُمسّ، ومَن يمسّها يموت!
معبودة الجماهير هذه لا مجازاً بل واقعاً سافراً، شهرتها تكون في محل التحصين، الذي كان يقوم به الساحر في المجتمعات القديمة.
مع الأخذ في الاعتبار، أن النظرة الموضوعية ترى أن هذا ليس عاماً مطلقاً، فلكل قاعدة استثناء. فالعام في المجتمعات المتديّنة، التي يكون الدين عندها أيديولوجيا مصمِتة، تستعيد روح المجتمعات التقليدية التي بالنسبة إليها: الله وتد البيت، ولله عنده أولياء مثل أعمدة على الأرض تستمد قوتها من الوتد. للأعمدة ضرورة كما للفن ضرورة: تقنية الوهم/السحر - كما في تعريف جورج طومسون- تبثّ روح المقدس، فمعبود الجماهير ضروري لمواجهة العجز فمكابدات الحياة.
يشرح طومسون مصطلحه: التقنية الوهمية، بنموذج من غينيا الإستوئية: حيث البطاطا لا تُزرع ولا تنمو ولا تحصد من دون رقصة، كنيتها "رقصة البطاطا". وهذا حَدَثٌ يَحدثُ فعلاً وواقعاً وقد رصد دليلاً على أن الحقل المزروع، من دون الرقصة لا حصاد له، فالرقصة حافز العناية والمتابعة، فالصبر والإصرار، وتأسيساً على ذلك، يكون سحر "معبود الجماهير" كما "التقنية الوهمية"، ضرورة.

يتحول معبود الجماهير إلى أيقونة تقي من العين، وتحمي النفس والجسد، أيقونة تقي العاجز من عجزه، أو ملهمة كما عند المراهقين، الذين من الممكن أن ينتحروا ساعة موت نجمهم الساطع. وهذا قد يفسر جزءاً من ولع الجموع بـ"الزعيم"، مَن تكون شخصيته عكازاً تتكئ عليه لاجتياز الوعر، والزعيم بفطرته وحنكته الماكرة، يحوط نفسه بكهنة وطقوس وشعارات، تروّج وتشعل ذلك الولع. وكما هو واضح أن هذه العملية لاعقلانية، وعلى ذلك فكل نقد للمعبود هو مساس بمعتقد، الذي يُعتبر "حقيقة مطلقة" ومسلّمة غير قابلة للنقاش.


محمود درويش

أثيرت زوبعة خلال الفترة الفائتة، حول الشاعر محمود درويش، حيث ذكر الشاعر سليم بركات أن درويش أودعه سراً مفاده أن له ابنة من امرأة متزوجة، لكن لأنه لا يعتدّ بالأبوة فلم يعترف بهذه البنوة. وتذكّر تلك القصة بقصة مماثلة، للشاعر التشيلي الحائز جائزة نوبل للآداب بابلو نيرودا، حيث ذُكر بعد وفاته أن له ابنة معاقة، وأنه لم يعترف بها أيضاً. وتم تناول هذه المسألة في الصحافة، كما كتبت روائية هولندية رواية، في إطار الدفاع عن هذه الإبنة المعاقة، المنكورة من قبل شاعر يتغنى بالإنسانية والقيم الأخلاقية الحقوقية.
قصة "سرّ محمود درويش" كما هو واضح، ليست الأولى ولا الأخيرة، وأما المساس بالجانب الشخصي للشاعر، فإن ذلك اعتيادي في تاريخ الآداب العربية، حتى أن الشاعر العلَم أبا نواس، تحول إلى مثال مُستهجن، في التراث العربي والشعبي منه، وأُلحقت بسيرته تأليفات بلغت حد اللامعقول. كما حصل أمر مماثل مع شاعر العربية، وهو بالمناسبة نموذج لمحمود درويش، هو المتنبي الذي حمل كنيته، ولم يعد يُذكر اسمه الحقيقي، إلا في الكتب المتخصّصة، وهو علمٌ من أعلام الثقافة العربية وحتى العالمية، حيث تصبح سيَر الأعلام جزءاً مما يؤرَّخ ويُبحث فيه، وتكون ممارساتهم الشخصية، تحت مجهر الباحثين واهتمام القراء.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إذاً مسألة التداخل بين المبدع وشخصه شبه عادية، حيث يعمل عادةً المبدعون على أن يكونوا نجوماً أي مشاهير. وفي هكذا حال يصبح اسم المبدع كما "أيقونة"، يعمل الناشرون مثلاً على استخدامها للترويج والكسب. وفي هذا العصر تكون سيرة الأعلام بضاعة تُستثمر، كأن تُكتَب وتُرسَم وتُصوَر، أو تُحوَل إلى عمل مسرحي أو فيلم، وممكن مسلسل تلفزيوني، لذلك يعمل أغلبية المبدعين على الفوز في السبق، بنيل الجوائز وما شابه.

لكن الأمر الأكثر تعقيداً، هو التداخل بين المثقف والسلطة (السلطان والشاعر)، مثلما عُرف لدى المتنبي من شغف بنيل ولاية ما، أو حين يكون المثقف سياسياً أيضاً، مثل بابلو نيرودا الذي كان عضواً بارزاً في الحزب الشيوعي في بلاده. وكذلك بدأ محمود درويش حياته، بالانتماء إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي، ثم ختمها عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية والمسؤول الثقافي فيها، وكان كما هو شائع مقرباً من الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات. وتمكّن من خلال تلك العلاقة من إصدار مجلة ثقافية مهمة ومكلفة، كمجلة "الكرمل" التي كان رئيس تحريرها، وعمل معه كسكرتير تحرير سليم بركات.

ولا يفوتني بالمناسبة أن أذكر ما كان يثيره محمود درويش كشاعر، حول أسره في قصيدة مثل "سجّل أنا عربي"، أو في اعتباره شاعر القضية الفلسطينية فحسب، مما كان في تقديره يأسر شعريته المتدفقة. ومع هذا كله فإن محمود درويش الذي لم يكتب سيرته، قابل للحفر في سيرته الشخصية التي تُقدم رؤى متباينة ومسرودات مختلفة، كما شعره الذي يقدم مع تقدم الزمن، تأويلات متعددة ممكنة.    

إذاً ليس محمود درويش شاعراً فحسب، ولا الشاعر سليم بركات الصديق وكفى. وفي هذه المقالة ما مسست، هو مجرد لمحة عن الشخصيتين.
ما يمسّ العلاقات الشائكة بين المبدع والجمهور، وبين المبدع ونتاجه، ومن يقوم بتسويقه، وعلاقة المبدع/المثقف والسلطة، واضح أنها مسائل متداخلة، تم البحث فيها ويتم على مستويات عدة، وبطرق عدة، بخاصة أن هذه العلاقة شائكة أكثر في المجتمعات المحكومة بالتقليدية.     

المزيد من آراء