Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الإمبراطور الأخير" بو– يي ومصيره الغريب الهادئ

من مذكرات موظف أرشيف إلى فيلم يملأ شاشات العالم

"الإمبراطور الأخير" في طفولته (من موقع الفيلم)

ترى لو أن العجوز الصيني بو - يي عاش سنوات أخرى بدلاً من رحيله في خريف عام 1967، وقُيّض له بـ"معجزة ما" أن يشاهد واحداً من أضخم الأفلام التي حُققت في تاريخ السينما... الأوروبية وهو "الإمبراطور الأخير" للإيطالي برناردو برتولوتشي، ما الذي كان يمكن لرأيه في الفيلم أن يكون؟ في خلفية هذا السؤال واقع تاريخي واضح: فالعجوز بو – يي الذي يرينا آخر مشاهد الفيلم موته فقيراً بائساً يعمل في صمت ومن دون أن تحمل ملامح وجهه أية علامات أو مشاعر خاصة، بعدما "دجّنته" ثورة ماو تسي تونغ الثقافية، ليس في حقيقة أمره سوى بو – يي نفسه الذي كان آخر أباطرة الصين لسنوات طويلة من عمره والذي، قبل أن يصوّر لنا برتولوتشي نهايته على تلك الشاكلة في الفيلم الذي حققه عام 1987 وصورّه بين المواقع الإيطالية والمواقع الصينية التي كان معظمها حقيقياً، أي شهدت سنوات مجد ثم فترات اندحار ذلك الإمبراطور الذي كان كثر من الصينيين يبجلونه خلال سنوات ازدهاره لكن أحداً بالكاد تعرّف عليه في النهاية حين صار موظف أرشيف بسيطاً مطواعاً ودوداً في النهاية. فهل يمكن أحداً بعد كل هذا أن يطرح سؤالاً طرحه كثر على أنفسهم حين أعلن برناردو برتولوتشي ذات يوم أنه سيحقق ذلك الفيلم: ما الذي اجتذب اهتمام مخرج مبدع من كبار سينمائيي النصف الثاني من القرن العشرين، حتى ينكبّ طوال ما لا يقلّ عن خمسة أعوام على نقل حياة شخص مثل إمبراطور الصين الأخير إلى الشاشة؟ تاريخ الصين نفسه؟ "الدور" الذي لعبه ذلك الإمبراطور الأخير في تاريخ بلده؟ علاقة الإمبراطور بأحداث عصره أكانت تلك العلاقة سلبية أم إيجابية، أم أنه المصير الشخصي لرجل استثنائي؟ أم بكل بساطة تلك النهاية نفسها التي لم تشبهها أية نهاية أخرى؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تنوعّت الأسباب والبؤس واحد!

ربما يكون الجواب المنطقي خليطاً من كل تلك الأسباب مجتمعة. ولكن من المؤكد أن الدقائق الأخيرة من الفيلم أتت في النهاية لتبرّر كل ذلك المجهود، أو لنقل: أتت كافية وحدها لتبريره. أما المتبقي كله فسينما ضخمة استعراضية رائعة، ومزج للسياسة والتاريخ بالفن السابع وألعاب بصرية أدائية بعضها للإبهار وبعضها استثنانيّ بالتأكيد.

ولنعد هنا إلى تلك الأيام التي أعلن فيها السينمائي الإيطالي برناردو برتولوتشي الراحل قبل فترة عن عالمنا، أواسط سنوات الثمانينيات من القرن الفائت أنه في صدد تحقيق فيلم ضخم عن حياة إمبراطور الصين الأخير، فغر المعجبون بسينما صاحب "الممتثل" و"إستراتيجية العنكبوت" وغيرهما من روائع سينمائية، أفواههم، أولاً، لأنهم كانوا مثل معظم البشر بمن فيهم الصينيون أنفسهم، نسوا تماماً وجود ذلك الإمبراطور كما بالكاد عرفوا شيئاً عن موته، وثانياً لأنهم لم يدركوا وجود أية علاقة بين المخرج الذي قدم في فيلمه "نوفتشنتو- القرن العشرون"، أروع عمل سينمائي عن تاريخ بلد، هو في نهاية الأمر بلده: إيطاليا، وبين حياة إمبراطور نسيه التاريخ تماماً.

مصير استثنائيّ لفرد

ولكن، بالنسبة إلى برتولوتشي كان ثمة ما يغريه في حكاية ذلك الإمبراطور المدهش: تحديداً كونه توفي مجهولاً، بائساً، ناسياً ماضيه وتاريخه في إبان الثورة الثقافية في الصين. وكما أشرنا، قبل فيلم برتولوتشي، كان الناس جميعاً نسوا ذلك الإمبراطور تماماً. وهو حين مات في معمعان ظروف عالمية وصينية بالكاد تترك مجالاً للتفكير فيه، مكتهلاً عن عمر يناهز الحادية والستين كان أضحى مجهولاً تماماً، ومجرد فكرة، لا يتعرف عليه حتى جيرانه في الحي البائس الذي يقطنه. ومن هنا أتى الفيلم ليرسم صورة لمصير إنساني استثنائي، ويضع ذلك الإمبراطور في واجهة الأحداث، وإن لفترة من الزمن يسيرة رافقت عرض الفيلم، ثم انتهت إلى إعادة بو - يي إلى مهب النسيان.

فموت بو - يي، لم يكن في نهاية المطاف أكثر من مجرد موت موظف أرشيف صغير في مدينته بكين، موظف أرشيف كانت جهود كبيرة مكنته من الحصول على تلك الوظيفة، بعد أن خرج من السجن الذي أودعه فيه الشيوعيون، و"اشتغلوا" فيه إلى "إعادة تربيته" و"تأهيله"، كعامل حدائق متميز. لكن عمله في الحدائق أتعبه هو الذي كانت الحياة قاسية، دائماً، عليه، حين كان صاحب أكبر إمبراطورية في تاريخ ذلك الزمن، فكشف عن مواهبه كموظف أرشيف لمسؤوليه، الذين اقتنعوا أخيراً بتلك المواهب وأسندوا إليه وظيفة أراحته خلال آخر أيام حياته.

ترى، كيف كان ذلك الموظف ينظر إلى العالم خلال تلك السنوات الصاخبة؟ يقترح علينا فيلم برتولوتشي أن نظرته كانت محايدة، وأنه قبِل مصيره الأخير مستسلماً، تماماً مثلما كان قد قبِل كل مصائره السابقة، وهذا هو، على أي حال، الدرس الأساسي الذي يمكننا أن نستخلصه من فيلم يروي حياة بو - يي. ولكن كيف كانت تلك الحياة؟

تعايش مع المحتلّين والثوار

بكل بساطة، وكما يروي لنا الفيلم على أية حال، كانت حياة لعبت فيها الأقدار الدور الرئيسي، وبدا خلالها صاحبها وحتى في أزهى أيام عزه، وكأنه مجرد متفرج على ما يحدث له، لا أكثر. فبو - يي، وكان اسمه الأصلي عند ولادته في عام 1906، هسوان - تونغ ، كان الوريث الذكر الأخير للسلالة المنشورية الحاكمة في بكين، وهو وصل إلى العرش وكان لا يزال في الثانية من عمره. وذلك في نوفمبر (تشرين الثاني) 1908، لكنه سرعان ما طرد عن العرش وكان، بعد، في السادسة، في فبراير (شباط) 1912 حين انتصرت ثورة صن - يات - صن. وهو ظل حينها بعيداً من الحكم سنوات يلهو ويعيش كما يحلو له، حتى أعاد اليابانيون "اكتشافه" في العام 1943 حين تمكنوا من احتلال منشوريا كلها وحوّلوها إلى دولة تابعة لهم، ولم يجدوا أكثر منه طواعية ليحكمها باسمهم، فجعلوه إمبراطوراً عليها، مانحينه هذه المرة اسماً جديداً هو كانغ - تيه.

وبقي بو - يي على عرش منشوريا يحكمها صورياً، بينما كان اليابانيون، هم الحكام الحقيقيون، حتى انتصرت ثورة ماوتسي تونغ الشيوعية. وحينها إذ لم يتمكن بو - يي من الهرب استسلم للسلطات الشيوعية الجديدة التي لم تجد أمامها إلا أن تودعه السجن مستنكفة عن الفتك به، هي التي تعرف أنه،  في نهاية الأمر، لم يقم بأي دور سياسي على الإطلاق سواء كان ذلك الدور سلبياً أم إيجابياً. وبقي بو - يي في السجن سنوات طويلة يدرس تعاليم ماو، ويقرأ ويحس بالراحة المطلقة حتى أتقن مهنة زراعة الحدائق، فأُلحق بواحدة من حدائق بكين العامة قبل أن يتحول إلى موظف إرشيف، ثم يموت خلال الثورة الصينية الثقافية من دون أن يتنبه إلى وجوده أو إلى موته أحد.

أما بالنسبة إلى الفيلم فإن برتولوتشي ذكر أنه قرأ بالمصادفة في عام 1982 مذكرات بو – يي فافتُتن بتلك الصفحات التي حكى فيها الإمبراطور الأخير وقائع محاكمته تحت الحكم الشيوعي وتحويله من سيّد لبلاد لا تغيب عنها الشمس إلى "بستانيّ" بسيط فإلى موظف أرشيف. ومع هذا لا شك في أن الفصول والمشاهد التي تبقى في البال بعد مشاهدة الفيلم، ليست في الحقيقة تلك التي "فتنت" برتولوتشي في البداية، كما يقول، ولكن مشاهد السنوات السابقة حين كان الرجل إمبراطوراً تهب عليه الأحداث هبوب العواصف لكنه وبكل هدوء يتكيّف معها، ومع تقلبات الزمن والمحتلين والمسيطرين على البلاد ويحب ويتزوج غارفاً من ملذات العيش فيما هو يتجادل مع أستاذه الإنجليزي ويبدو، حتى من دون "تدجين"، راضياً عن كل ما يحصل له، متآلفاً مع كل من يسيطر على الحكم وعلى البلاد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة