Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نحو رؤية مغايرة لصورة الوجه الأسود مقابل الأبيض

أمادو الفادني فنان سوداني يحفر في الذاكرة الأفريقية المطموسة

الرسام السوداني أمادو الفادني (اندبندنت عربية)

تُظهر الأعمال الكلاسيكية الغربية المنتمية إلى عصر النهضة صورة الرجل الأبيض على نحو أقرب إلى الكمال، بنسب تشريح وجسد مثالي، كما تُبرز صورة المرأة البيضاء كرمز، أوحد للجمال والفتنة، بل وتحيطهما أحياناً بهالة من القداسة والروحانية. في مقابل تلك الصورة المثالية للرجل الأبيض نجد تهميشاً متعمداً لصورة الرجل، والمرأة الأفارقة في الأعمال الكلاسيكية. هذا الحضور الشحيح للرجل الأفريقي في تلك الأعمال غالباً ما يكون هامشياً، وفي هيئة مستكينة وتابعة. تخضع هيكلية الصورة هنا إلى العديد من العوامل، كالنظرة إلى الآخر، وانحياز أصحاب الثقافة إلى العناصر، والرموز التي تخصُهُم. وهو أمر يتكررعبر التاريخ في مُعظم الثقافات، مدعوماً بالأفكار والعقائد الدينية، بل والنظريات العلمية المتطرفة أحياناً. فيما يخص تفوق العرق الأبيض لعبت الهيمنة الاستعمارية، والتفوق المرحلي للغرب دوراً رئيساً في تصدير هذه الصورة المثالية للرجل الأبيض إلى ثقافات الآخرين.

أمادو الفادني هو فنان سوداني يعيش في القاهرة، ويعتمد في أعماله على مفردات الثقافة الأفريقية، مركزاً البحث في تجاربه الأخيرة حول عدد من القضايا الإشكالية ذات الجذور التاريخية كالعنصرية، والاسترقاق، مروراً  بالتاريخ المسكوت عنه للمجازر التي ارتكبها الأوربيون في حق الأفارقة في حقبة الاستعمار، وكذلك عمليات التهجير، وغيرها من القضايا الأخرى. في تجربته الأخيرة "ماهُنجُو" يعود الفادني مرة أخرى إلى ذات المنطقة التي انطلقت منها أعماله السابقة، كاشفاً الغطاء عن تلك المساحات الشائكة التي مازالت تحكم العلاقة بين الثقافتين الغربية والأفريقية، التي تستند في الغالب إلى الكثير من المغالطات التاريخية والثقافية، وهي مغالطات تجد لها صدىً إلى اليوم عند كثير من الناس، بل حتى لدى الأفارقة أنفسهم. يرى الفادني أن تلك النظرة النمطية التي تتمتع بها صورة الرجل الغربي في أفريقيا تختلف من مكان لآخر حسب طبيعة التأثر، وقابلية الناس لها. قد نجدها واضحة مثلاً في غرب أفريقيا، لكنها تتخذ أشكالاً أقل حدة في شرق القارة. ينعكس هذا الحضور النمطي لأصحاب البشرة البيضاء على العديد من المفاهيم، والتفاصيل الحياتية للأفراد والشعوب، كما ينعكس على الرموز الدينية أيضاً، كصورة المسيح مثلاً.

تصورات أفريقية

في أعماله يلتفت أمادو الفادني إلى تلك الصورة المثالية للرجل الأبيض كما صورها فنانو عصر النهضة الأوروبي، كأحد أهم الوسائط المؤصلة لتلك المُغالطات. يتخذ الفنان هنا مساراً مُعاكساً في بحثه البصري، اعتماداً على العناصر، والرموز النابعة من الثقافة الأفريقية القديمة، خاصة هذه التي تُمثل مُقابلاً بصرياً للرموز الغربية. ماهُنجو، هو لفظ يُطلق على الإنسان الأول، أو أبو البشر حسب المعتقدات الدينية التي كانت سائدة في غرب أفريقيا قبل الاستعمار الأوروبي. في هذه التجربة ينطلق الفادني من تلك الثيمة الأفريقية، ليقدم لنا تصوراته المتمردة على هذه الصورة المثالية التي رسختها تلك الأعمال في الأذهان.

يعيد الفادني صوغ هذه الأعمال الكلاسيكية، وغيرها من جديد، لكنه يستبدل الرجل الأبيض الذي يحتل صدارة المشهد بآخر أفريقي. لا يكتفي الفنان بالمحاكاة المغايرة فقط لتلك الأعمال، بل يتجاوز ما تضمنته من صور، وعناصر مستلهمة من الأساطير الغربية، معتمداً على المخزون الثقافي، والحضاري للأفارقة، وأساطيرهم المتعلقة بنشأة الحياة. يطالعنا هنا ماهُنجو في صورته المثالية كما رسمتها تلك الأساطير في هيئته الأفريقية، مُزيحاً الصورة التقليدية للرجل الأبيض في أعمال عصر النهضة في واحدة من اللوحات التي يحاكي فيها الفادني لوحة الخلق لمايكل أنجلو على سبيل المثال. لا يكتفي باستبدال العنصرين الرئيسين في المشهد، بل يتعداهما إلى التفاصيل الأخرى المرتبطة بهما كإخفائه لليدين والذراعين الممدودتين، واستبداله الوجه بقناع يمثل هيئة الإله "خنوم"، وهو رب الخلق في الحضارة المصرية القديمة، وحضارات النوبة، وكان يُصور على هيئة كبش أو رجل له وجه كبش. خنوم هنا هو المُقابل للإله في لوحة الخلق التي أبدعها مايكل أنجلو.

في هذه التجربة يتجاوز الفادني تلك الصورة النمطية المترسخة في الثقافة الغربية وينشىء بدلاً منها صورة مغايرة، لكنها مستوحاة من الأعمال الكلاسيكة نفسها. في هذه اللوحات نرى الرجل الأفريقي قد احتل مكان الصدارة في المشهد، بينما تتراجع صورة الرجل الأبيض في الخلفية، مع استخدام لبعض عناصر الثقافة الأفريقية كالوجوه، والأقنعة، والعلامات، والرموز مستنداً فى رؤيته البصرية إلى مزيج من التاريخ، والأساطير، والخيال.

ولد أمادو الفادني في القاهرة حيث يعيش ويعمل حالياً. تميزت طفولته بمزيج بين بيئتين حيث محيطه القاهري، والبيت السوداني. العلاقة والتوتر بين الاثنين، كانا من العوامل المؤثرة بقوة على رؤيته وتكوينه الفني. احتياج الفادني للتعبير عن هذا المنظور المزدوج كان السبب الأساسي لانطلاقه نحو الفن في البداية، ومنبع أفكاره حتى الآن. تحمل أعماله مزيجاً بين القديم، والحديث كما تتضمن إشارات واضحة مستلهمة من حياة المدينة بتوظيفه للزخارف، والعناصر المُهملة، وصور الإعلانات.

المزيد من ثقافة