Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف ظهرت الشرطة عبر التاريخ؟

منذ تكرّس "العقد الاجتماعي" كان لا بد من أدوات تساعد السلطات على تطبيق القوانين

الشرطة البريطانية في العاصمة لندن (أ ف ب)

تحتاج القوانين والأنظمة التي تضعها الدول لتسيير حياة مواطنيها، إلى من يقوم بفرض تنفيذ هذه القوانين وملاحقة من يخالفها، وهؤلاء هم رجال الشرطة. فمنذ تكرّس "العقد الاجتماعي" بين الجماعات البشرية التي تعيش في مجتمعات واسعة ومتشابكة كالمدن، وفي ظل حماية سلطات "احتكرت لنفسها ممارسة العنف" في ظل القوانين المرعية الإجراء، كان لا بد من أدوات لهذه السلطات تساعدها في حسن سير هذه القوانين، فكانت المؤسسات الأمنية والعسكرية والقضائية أهم هذه المؤسسات التي تعبّر بواسطتها السلطات عن سيطرتها وسطوتها "لحماية المواطنين". وهذا يندرج في إطار تعريف الدولة التقليدي أي: أرض وشعب وسلطة.

لكن ما تم الاتفاق على تسميتهم برجال الأمن أو رجال الشرطة لم ينّوجدوا في المجتمعات البشرية دفعة واحدة أو بشكل مفاجئ، بل تطوروا عبر الأزمان والعصور وبأشكال مختلفة من بلد إلى آخر ومن مجتمع وثقافة إلى آخر. وتحوّلهم إلى مؤسسة رسمية وجزء من المنظومة السلطوية تطوّر بدوره مع تطوّر هذه السلطة، لتأخذ في النهاية شكل الدولة التي نعرفها الآن.

ولطالما كان همّ حماية البشر من بعضهم البعض خلال تطوّرهم الثقافي والاجتماعي والاقتصادي أحد هموم الحكّام وأصحاب السلطة، فالبشر المنتقلون من حياة "الصراع من أجل البقاء" إلى الحياة المشتركة بحاجة إلى رادع يمنعهم من "تخريب" التوافق الاجتماعي لبناء مجتمعات موحدة ومتكاتفة تتمكّن من العيش في وئام وسلام وأمن وطمأنينة.

لذا كان على السلطات الحاكمة أن تنشئ جهازاً يقوم أولاً بحمايتها وفرض سلطتها وسطوتها، ومن ثم يقوم بفرض تنفيذ القوانين التي تسنّها هذه السلطة الحاكمة على المواطنين. وتاريخياً، لم يكن بالضرورة هذا الجهاز المجهّز والمنظّم والمموّل من قبل السلطة الحاكمة، عادلاً. فهو أحياناً يعمل لجمع الضرائب والمحاصيل، أو لإجبار المواطنين على التجنيد الإجباري أو لقمع المعترضين على تسلّط الحكّام، وهذا الأمر ليس بالضرورة حدث فقط في المجتمعات التقليدية القديمة، فكم من دولة حديثة نطلق عليها تسمية "الدولة البوليسية"، حيث تندمج السلطة وأجهزتها في وحدة متكاملة موجّهة ضد الشعب بهدف تكتيله عقائدياً أو أيديولوجياً أو بهدف قمعه في الحد الأدنى.

الشرطة في التاريخ

في الصين مع توسع الإمبراطورية وتقسيمها إلى ولايات ومحافظة، أنيط أمر تنفيذ القوانين الإمبراطورية إلى الولاة ومنهم إلى المحافظين الذين بدورهم شكّلوا مجموعات خاصة غير مرتبطة بالجيش الرسمي الذي كان دوره يقتصر على حماية حدود البلاد، لكي يسهروا على تطبيق القانون في المنطقة. وكان لا بد من اتباع هذه الطريقة اللامركزية بسبب ترامي أطراف الصين وبُعد العاصمة المركزية عن المناطق. وكان نظام الولايات الخاضعة لسلطة المركز ذو دور فعّال في تماسك الإمبراطورية، وفي الحفاظ على سلطة الإمبراطور ضمن هذه الهرمية التسلسلية التي يقبع في أسفلها "رجال الشرطة".

أما في مصر القديمة فقد تم اكتشاف سجلات لمكتب معروف باسم "القاضي قائد الشرطة" يعود تاريخه إلى الأسرة الرابعة، وجاء فيه أنه تم تكليف الضباط المسلحين بالعصي الخشبية بحراسة الأماكن العامة، مثل الأسواق والمعابد والحدائق العامة والقبض على المجرمين. ومن المعروف أنهم استفادوا من القرود المدربة والبابون والكلاب في واجبات الحراسة واصطياد المجرمين. وتم تكليف وحدات الشرطة الأخرى بحراسة القوافل، وحراسة المعابر الحدودية، وحماية المقابر الملكية، وحراسة العبيد في العمل أو أثناء النقل، والقيام بدوريات في نهر النيل وحراسة المباني الإدارية. لم تقم الشرطة بحراسة المجتمعات الريفية، التي كانت تهتم في كثير من الأحيان بمشكلاتها القضائية الخاصة من خلال مناشدة شيوخ القرى.

الشرطة في الإسلام

في عهود الخلافة الإسلامية الأولى نشأت المجموعات التي تفرض تطبيق القوانين وأوامر الخليفة كمجموعات متطوّعة أو ملتزمة بسلطة وطاعة الخليفة، حتى خلافة عثمان بن عفّان الذي جعلها مجموعة رسمية ذات قيادة محددة وتخضع للمحاسبة. في العصر الأموي توسَّع معاوية بن أبي سفيان في اتخاذ الشرطة، وتطويرها، فأضاف إليها شرطة الحرس الشخصي، وكان أول من اتخذ الحرس في الحضارة الإسلامية بسبب الاغتيالات الكثيرة التي طاولت قادة كثراً في مرحلة الانقسامات السياسية والتشريعية. ولهذا تعاظمت رتبة صاحب الشرطة حتى تولاها بعض الأمراء والولاة، ففي عام 110 هجري عُيِّن خالد بن عبدالله على ولاية البصرة، وجمع معها منصب الشرطة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في العصر العباسي ومع الاتساع المطرد للدولة الإسلامية، ارتفع عديد رجال الشرطة وتشكّلوا في تنظيمات رسمية وبتسلسل هرمي طويل ينتهي في يد الخليفة. وأدى تفعيل دور الشرطة المتعاظم والحاجة الدائمة إلى فرض الأمن وقمع الثورات وتوحيد البلاد من العاملين على تشتيتها إلى ظهور السجون. فأنفقت الدولة على بناء السجون من بيت المال وأنفقت على المساجين أيضاً. فقد اقترح القاضي أبو يوسف على هارون الرشيد، تزويد المساجين، بحُلَّة قطنية صيفاً وأخرى صوفية شتاءً، والاهتمام بهم صحياً من أجل العمل على إصلاحهم وإعادة إدماجهم في المجتمع، وكانت هذه واحدة من الظواهر التقدمية الكبرى في التنظيم الاجتماعي للدول في تلك الفترة. وحرصت الخلافة العباسية على تعيين أصحاب الشرطة الموسومين بالعلم والتقوى والفقه، والذين لا تأخذهم في إقامة الحدود لومة لائم. وذكر ابن أبي الربيع صاحب كتاب "سلوك المالك في تدبير الممالك" ما ينبغي أن يكون عليه صاحب الشرطة من خصال فقال: أما صاحب الشرطة فينبغي أن يكون حليماً مهيباً، دائم الصمت، طويل الفكر، بعيد الغور.

ومع تقدّم العلوم والنظم الاجتماعية في الإمبراطورية الإسلامية الواسعة وسطوع نجم ما يسمى "الحضارة الإسلامية" أو عصور الأنوار، ربط جهاز الشرطة بالنظام القضائي لتخضع للقضاة وتساعدهم في تنفيذ الأحكام الشرعيّة وإقامة الحدود، وكان يطلق على صاحب الشرطة: صاحب الليل، وصاحب المدينة، لأنّه يقوم بحفظ النظام، ويساعد الوالي على استتباب الأمن في المدينة، ويقبض على الجناة وأصحاب الفساد والشر لتقديمهم إلى القضاء.

قال ابن خلدون في مقدمته: وكان أصل وضعها في الدولة العباسيّة لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدادها أوّلاً ثم الحدود بعد استيفائها، فإنّ التهم التي تعرض في الجرائم لا نظير للشرع إلاّ في استيفاء حدودها وللسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن لما توجبه المصلحة العامّة في ذلك، فكان الذي يقوم بهذا الاستبداد وباستيفاء الحدود إذا تنزّه عنه القاضي يسمى صاحب الشرطة، وربّما جعلوا إليه النظر في الحدود والدماء بإطلاق، وأفردوها من نظر القاضي.

الشرطة الحديثة المبكرة

تم إنشاء أول قوة شرطة منظمة مركزياً من قبل حكومة الملك لويس الرابع عشر في عام 1667 لمراقبة مدينة باريس، أكبر مدينة في أوروبا. وبعد الثورة الفرنسية، أعاد نابليون الأول تنظيم الشرطة في باريس ومدن أخرى. وفي عام 1829، أنشأ مرسوم حكومي أول شرطة نظامية في فرنسا، عرفت باسم "رقباء المدينة"، والتي يزعم موقع مقاطعة باريس للشرطة أنها كانت تضم أول رجال شرطة يرتدون الزي الرسمي في العالم.

أما لندن فقد اتسعت بحجم غير مسبوق في تاريخ العالم في بداية الثورة الصناعية، فبات النظام الذي كان سائداً محلياً من رجال الشرطة المتطوعين و"الحراس" غير فعال، سواء في الكشف عن الجريمة أو في منع وقوعها. لذا تم تعيين لجنة برلمانية للتحقيق في نظام الشرطة في لندن وتم تعيين السير روبرت بيل وزيراً للداخلية عام 1822. تأثر بيل الذي يعتبر والد الشرطة الحديثة، بالفلسفة الاجتماعية والقانونية لجيريمي بينثام، الذي دعا إلى إقامة وحدات من الشرطة قوية ومركزية على أن تكون محايدة سياسياً للحفاظ على النظام الاجتماعي وحماية الناس من الجريمة. وقرر بيل توحيد قوة الشرطة وجعلها مهنة رسمية مدفوعة الأجر، وقام بتنظيمها بطريقة مدنية غير عسكرية كي لا يختلط عملها الداخلي بعمل الجيش الخارجي، وباتت مسؤولة كمؤسسة منظّمة أمام السلطات العليا والقضاء والجمهور في الوقت عينه.

ولإبعاد قوة الشرطة الجديدة عن النظرة العامة الأولية على أنها أداة جديدة للقمع الحكومي، نشر بيل مجموعة المبادئ التوجيهية الأساسية للشرطة الأخلاقية، ومنها أنه يجب أن يصدر لكل ضابط شرطة بطاقة مذكرة برقم تعريف فريد لضمان المساءلة عن أفعاله. وبأن الشرطة الفعّالة لا تقاس بعدد الاعتقالات التي تقوم بها، بل بعدد الجرائم التي تمنع وقوعها.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات