Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

عودة إلى الحوار السياسي أم للمربع صفر في الأزمة الليبية؟

يدل المشهد على أن المجتمع الدولي سيواصل ممارسة دور فاعل بالصراع

يأمل الرئيس المصري إنهاء الأزمة الليبية بالتوافق الداخلي لا التدخل الخارجي (الصفحة الرسمية للرئاسة المصرية)

يستمر السجال العسكري في ليبيا دائراً بين الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، وقوات حكومة الوفاق بقيادة فائز السراج. ويبدو أنّ خلال الأيام العشرة الأخيرة كانت قوات حكومة الوفاق هي الأوفر حظاً في صدامات الكر والفر العسكري حول محور العاصمة طرابلس، إذ أعلن الجيش الوطني الليبي خلال هذه الفترة "الانسحاب التكتيكي" مرتين، حتى تقهقرت قواته أخيراً إلى حدود مدينة ترهونة جنوب شرقي العاصمة، وهو ما قدّمته حكومة الوفاق نصراً عسكرياً لها.

وفي الوقت نفسه، برر الجيش الوطني الليبي من خلال المتحدث الرسمي، أن هذا التقهقر كان "قراراً استراتيجياً" لجأت إليه القوات، لتفادي الاشتباك العسكري والإضرار بأمن وسلامة الشعب الليبي.

وفي خضم تلك التطورات العسكرية، تذكّر المجتمع الدولي خلال الأسبوع الماضي الملف الليبي، وعادت اللقاءات تعقد، والمباحثات تتزايد بشأن ليبيا. واستقبلت روسيا وفداً رفيع المستوى من حكومة الوفاق، للتحاور حول مستقبل ليبيا، كما تحاور السفير الأميركي في طرابلس مع وزير خارجية حكومة الوفاق، وجرت اتصالات هاتفية بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وكل من الرئيسين القبرصي والفرنسي، كما تحاورت مصر مع روسيا بشأن الملف.

لكن، الحدث الأكبر خلال الأسبوع الماضي كان ذهاب خليفة حفتر إلى القاهرة للقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وذهاب فائز السراج في اليوم نفسه إلى أنقرة للقاء الرئيس التركي أردوغان.

وفي المجمل يدل المشهد على أن هناك عودة من قِبل المجتمع الدولي للاهتمام بالملف الليبي وممارسة دور فاعل في الأزمة، خصوصاً بعد التفاقم المستمر للمواجهات العسكرية بين الطرفين. وتشير مخرجات هذه الاجتماعات والاتصالات إلى اقتراب ليبيا من العودة مرة أخرى إلى طاولة مفاوضات تحت مظلة عملية سياسية، لإنهاء الأزمة برعاية إقليمية ودولية.

لكن، التساؤل الأهم يظل قائماً: ماذا سيختلف هذه المرة عن المرات التي سبقتها من محاولات التوصل إلى تسوية سياسية؟ وأيضاً، هل الوضع في الداخل الليبي على استعداد للدخول في مرحلة جديدة من التفاوض السياسي، أم أن الأولوية لديه في الوقت الحالي هي تحقيق الإنجازات العسكرية، التي سوف تنعكس بالضرورة على صلابة موقف كل طرف عند بدء عملية سياسية؟

عودة المجتمع الدولي

الفترة التي غاب فيها المجتمع الدولي عن ممارسة دور فاعل في ليبيا زادت من التوغل التركي في الغرب الليبي من خلال عقد الاتفاقات مع السراج وحكومة الوفاق، وهو ما جعل قوات عملية بركان الغضب تستعيد مواقع استراتيجية كانت تحت سيطرة الجيش الوطني الليبي.

الوجود التركي السياسي والعسكري في غربي ليبيا جعل مصر قلقة على مصالحها في ليبيا، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالأمن القومي المصري، وعلى الرغم من كون مصر أحد الفاعلين المهتمين بالملف الليبي من اليوم الأول، فإنها لم تمارس تدخلات عسكرية مباشرة لدعم الجيش الوطني الليبي كما تفعل تركيا مع قوات حكومة الوفاق. وهنا يجب ملاحظة أن عودة الاهتمام من قِبل المجتمع الدولي في ليبيا هذه المرة جاء من خلال كل من مصر وتركيا، وإن كان هناك كثير من الاختلاف بين الرؤية التي طرحها كل من الطرفين.

إعلان القاهرة

التقى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المشير خليفة حفتر، الخميس الرابع من يونيو (حزيران)، وهو اليوم نفسه الذي التقى فيه أردوغان فائز السراج في أنقرة كما ذكرنا من قبل، لكن اجتماع الرابع من يونيو انتهى من دون صدور بيانات رسمية سوى أنباء عن أن الرئيس تناول كل الأوضاع في ليبيا مع القائد العام للجيش الوطني الليبي. وبعد هذا اللقاء بأقل من 48 ساعة، جرى الإعلان صباح السبت السادس من يونيو عن اجتماع ثلاثي يقام خلال ساعات بين الرئيس المصري والمشير خليفة حفتر والمستشار عقيلة صالح رئيس مجلس النواب. كان هذا اللقاء غير المعلن عنه مسبقاً بمثابة مفاجأة لكل متابعي الشأن الليبي، إذ اعتادت مصر أن تعلن اجتماعاتها مع القيادات الليبية، خصوصاً لو كان رئيس الجمهورية طرفاً في هذه الاجتماعات، وهو ما لم يحدث هذه المرة سوى قبل الاجتماع بساعات قليلة. وخلال هذا الاجتماع قدّمت مصر رؤيتها عن عملية للتسوية السياسية في ليبيا تحت اسم "إعلان القاهرة"، وهو ما يمكن أن نطلق عليه مبادرة مصرية لحل الأزمة الليبية.

في ما يتعلق بمحتوى هذه المبادرة، يوجد عدد من المبادئ التي طالما اتبعتها مصر في تعاملها مع الأزمة الليبية، التي ما زالت تصر عليها، وعلى رأسها أن يكون الحل (ليبي - ليبي)، وهو ما وصف به الرئيس المصري إعلان القاهرة، وأن يُجرى احترام جميع الاتفاقات والمبادرات الدولية في سياق تسوية الصراع، وآخرها مُخرجات مؤتمر برلين. وربما يكون هناك ثمة تناقض في وصف المبادرة بأنها تسعى لإرساء حل (ليبي - ليبي)، في حين أن الاجتماعات التي صدرت عنها المبادرة كانت مع طرف واحد فقط من أطراف الصراع، وهو الشرق الليبي. وذلك يشير إلى أن مفهوم مصر عن حل سياسي (ليبي - ليبي) يتلخص في ضرورة وقف أي تدخلات أجنبية في صناعة الحل، وقد كان موقف مصر ثابتاً خلال السنوات الماضية برفض التدخلات الأجنبية بكل الأشكال، وهي رؤية تدعم مما لا شك فيه استقرار ليبيا الذي يهتز بشدة مع كل تدخل أجنبي.

لكن، في الوقت ذاته، الحل (الليبي - الليبي) يجب أيضاً أن ينبع من مختلف الأطراف في الداخل الليبي من دون تهميش أو إقصاء، وعدم اعتراف الأطراف الليبية بشرعية بعضها بعضاً يعد عائقاً أمام تحقيق تلك الرؤية.

 

كما جاء في إعلان القاهرة دعوة كل الأطراف الليبية لوقف إطلاق النار بدءاً من الاثنين الثامن من يونيو، وهي النقطة التي تعد الأكثر أهمية في الوقت الراهن. فمبدئياً، من غير الممكن أن تكون طاولات المفاوضات السياسية ذات نفع في ظل استمرار حالة من الكر والفر العسكري، فمن لديه النية للاعتماد على إطار سياسي لإنهاء الأزمة لا يحتاج إلى الاستمرار في الهجوم العسكري، وهو ما كان سبباً في فشل تطبيق وتفعيل كثير من المبادرات الدولية المعنية بالشأن الليبي خلال السنوات الماضية، خصوصاً في ظل ضعف حلقة التواصل بين الكيانات السياسية والأذرع العسكرية لها في ليبيا.

لكن، ضيق الحيز الزمني المتاح بين صدور إعلان القاهرة، وتوقيت تطبيق حالة وقف إطلاق النار قد يمنع الفكرة من النجاح، خصوصاً في ظل الموقف التركي، وانتشار المرتزقة الأجانب في ليبيا أخيراً.

لكن، إذا ما جرى الاتفاق بين الأطراف المتصارعة في الداخل الليبي على وقف إطلاق النار في التاريخ المحدد، سوف يكون ذلك بمثابة إشارة لاحتمالات نجاح المبادرة المصرية، ونجاح أيضاً السياسة الخارجية في المنطقة. كما تضمّنت المبادرة المصرية نقطتين إضافيتين، التزام إعلان دستوري ليبي، وإخراج المرتزقة الأجانب، وتفكيك الميليشيات وتسليمها سلاحها.

ومما لا شك فيه تعد هذه نقاط مهمة ومنطقية، بل وضرورية لأي عملية تسوية سياسية ناجحة، لكنها للأسف تصطدم بالواقع الليبي الذي يحتاج إلى سياق خاص، لتطبيق مثل هذه النقاط على أرض الواقع. وقد وردت هذه النقاط بالشكل نفسه في أكثر من مبادرة دولية، لكن من دون تفصيل كافٍ أو دراية بالأبعاد المختلفة للصراع، ولذلك لم تتمكّن كل المبادرات الدولية من التعامل مع الخلاف على شرعية التشريع الدستوري بين الشرق والغرب، وعلى كيفية التعامل مع الكيانات العسكرية غير المؤسسية أو بمعنى آخر الميليشيات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وجود إعلان دستوري يتبعه كل الليبيين يعد ضرورة مما لا شك فيه، لكن إجراءات صياغة بنود هذا الإعلان، واحتمالات التوصل إلى إجماع أو حتى توافق بالأغلبية على بنوده بين الشرق والغرب يُعد شبه مستحيل. سواء مجلس النواب في شرق ليبيا، أو مجلس الدولة في الغرب، اللذين ما زالا يتصارعان على من تكون له اليد العليا والكلمة الأخيرة في صدور أي تشريع دستوري. ويرجع ذلك في الأساس إلى غياب آلية واضحة للتعامل بين المجلسين، واعتماد كل من المجلسين على ذراعه العسكرية للاستقواء بها وتحقيق سقف أعلى من المكاسب السياسية، وهو ما يُعطل عملية صناعة القرار داخل كل مجلس من ناحية، ويُبقي الوضع على ما هو عليه تحت مظلة من الخلافات على الشرعية من ناحية أخرى.

أمّا مسألة تفكيك الميليشيات فهي باتت ضرورة في كل المبادرات الدولية المعنية بليبيا، حتى اقتربت إلى نوع من الديباجة السياسية لاتفاقات رأب الصدع في ليبيا. مصر كانت على صواب حينما ربط السيسي بين المرتزقة الأجانب، وتفكيك الميليشيات، وتسليم السلاح، فالقضايا الثلاث تشكّل تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري، وتقف عائقاً أمام محاولات التسوية السياسية.

لكن، الرؤية لا يجب أن تنتهي عند المطالبة بتفكيك الميليشيات، فالكيانات العسكرية غير الشرعية في ليبيا تحوّلت إلى مشكلة لها أبعاد سياسية واجتماعية، وباتت ظاهرة راسخة في المجتمع الليبي من غير الممكن التخلص منها من دون استراتيجية توفّر بدائل لأعضاء الميليشيات الذين يتمتعون بكم من المميزات غير متوفر لفئات متعددة من المجتمع الليبي. بالتالي، هذه النقطة تحتاج إلى مزيد من الرعاية من مصر حتى تتوصل إلى استراتيجية ليس فقط لتفكيك الميليشيات، لكن لإعادة دمج أعضائها من أبناء الشعب الليبي في مؤسسات الدولة.

على عكس كثير من الدول الغربية، مصر تملك ما يكفي من معلومات عن الدولة والمجتمع في ليبيا، ما يجعلها مرشحة، إذا ما واصلت العمل، للتوصل إلى حلول لمشكلة محورية كمشكلة الميليشيات في ليبيا.

مؤتمر أردوغان - السراج

من غير الممكن تحليل المشهد الكلي في ليبيا من دون النظر إلى الجانب الآخر، فإعلان القاهرة كان حاضراً فيه قيادات الشرق الليبي السياسية والعسكرية، أمّا قيادات الغرب الليبي فكانت في أنقرة، إذ أقام أردوغان مؤتمراً صحافياً مشتركاً مع فائز السراج بعد اجتماعهما في الخميس الرابع من يونيو. وفي ذلك المؤتمر، أعرب كل من أردوغان والسراج عن رؤيتهما للمستقبل، وتقييمهما الصراع في ليبيا في الفترة الحالية.

تحدّث الرئيس التركي عن دوافع تركيا للوجود في ليبيا، ولخصها في دعم النظام والحفاظ على الشرعية في ليبيا، وأكد أن الدعم الذي قدّمته تركيا إلى ليبيا كان مرتبطاً بمواجهة فيروس كورونا، وصدّ الهجمات المعتدية الغاشمة لقوات خليفة حفتر. والحديث عن أن هناك جهة شرعية واحدة من دون غيرها في ليبيا هو في الحقيقة حديث منحاز سياسياً أو politicized، إذ إن الشارع الليبي نفسه منقسمٌ بين بعضه بعضاً في الإجابة عن سؤال الشرعية العسكرية والسياسية. وأكد أردوغان خلال خطابه أن تركيا تتطلع إلى مرحلة جديدة من المفاوضات السياسية، تكون تحت رعاية الأمم المتحدة وبها "جهات ضامنة"، تتمثل في عدد من الدول. ووجود تركيا بين هذه "الجهات الضامنة" يعد مكسباً سياسياً من جراء التدخل التركي في ليبيا، فهو دور تركي جديد في شمال أفريقيا.

لكن، أردوغان أكد أيضاً أن المشير خليفة حفتر مجرم حرب، وأنه من غير الممكن الجلوس على طاولة حوار واحدة مع "الانقلابي" خليفة حفتر، أو مع الدول التي تدعمه. وهذا الكلام أكده فائز السراج حينما قال إن حفتر مهووس بالسلطة، وإن الحكومة الشرعية في ليبيا سوف تلاحقه قضائياً.

واختتم أردوغان بتأكيد استمرار تركيا تقديم الدعم لحكومة الوفاق في ليبيا، كونها الممثل الشرعي للدولة وفقاً للمواثيق الدولية، لكن في ذات الوقت أوضح أن تركيا تدعم المبادرات الدولية.

الجدير بالذكر أن هذا المؤتمر كان بعد ساعات قليلة من تقدّم ميداني لقوات حكومة الوفاق في مدينة ترهونة جنوب شرقي العاصمة، وهو ما يؤكد أن المواقف السياسية تتغير وفقاً للتقدم العسكري الميداني. ويبدو من تصريحات أردوغان أنه يريد أن يكون خليفة حفتر خارج الصورة، وهو ما قاله السراج أيضاً، وفي هذه الحالة من الممكن البدء في مرحلة سياسية جديدة، وهو بالطبع ما يرفضه المعسكر الآخر بشدة.

لذا، ما يمكن فهمه من كلام أردوغان هو ضرورة وجود تركيا في المشهد الليبي خلال المرحلة المقبلة، سواء باستمرار الدعم العسكري ومواجهة خليفة حفتر الذي لا تعترف تركيا بشرعيته، أو من خلال التحوّل إلى أحد الدول الضامنة أي اتفاق سياسي تحت مظلة الأمم المتحدة.

ملاحظات ختامية

من المهم جداً ملاحظة التوقيت بين مؤتمر أردوغان والسراج وإعلان القاهرة، إذ كانت الفترة الزمنية أقل من 48 ساعة، وهو ما يطرح التساؤل: هل ما نشاهده هو محاولات إيجاد مبادرات دولية للخروج من الأزمة الليبية بأقل عدد من الخسائر، أم هو صراع نفوذ خفيّ، أو حالة من التهديدdeterrence  بين مصر وتركيا؟

إعلان القاهرة حركة استراتيجية مهمة قامت بها مصر في توقيت حرج للرد على التوغل التركي المستمر في ليبيا، لكن فرص نجاح المبادرة المصرية تعتمد على قدرة مصر على التوصّل إلى أكبر قدر من التفاصيل للعمل على حل عددٍ من الملفات مثل المرتزقة الأجانب والميليشيات.

بعد ما جرى على أرض الواقع عسكرياً في ليبيا خلال الأسابيع الماضية، بات من الصعب إقصاء تركيا من أي عملية سياسية برعاية دولية تتعلق بليبيا.

الداخل الليبي وصراعاته ما زال هو العامل الأول في إرساء وقف إطلاق النار، أو الدخول في مرحلة جديدة من التفاوض، أو استكمال السجال العسكري، فالقرار دائماً ما يأتي من داخل ليبيا، أو ممن يستطيع التواصل معه.

اقرأ المزيد

المزيد من الشرق الأوسط