Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الحيوانات الممسوخة" لفيركور: مَن الإنسان؟

عندما كتب صاحب "صمت البحر" أعمالاً أخرى

الأديب الفرنسي فيركور "جان مارسيل بولير" (اندبندنت عربية)

هو واحدٌ من أولئك الكتاب بل المبدعون الكثر بشكل عام الذين لا نعرفهم إلا من خلال عمل واحد يُشتهر لهم لسبب أو آخر، وغالباً لأسباب قد لا يكون لها علاقة بالإبداع. اسمه الحقيقي لا يعرفه كثر من الناس اليوم، ولا حتى في فرنسا وطنه الذي عاش فيه وكتب عنه، وصار بفضل رواية واحدة له أيقونة أساسية من أيقوناته. أمّا الاسم الذي اشتهر به وتحمله كتبه الأساسية، إضافة طبعاً إلى "صمت البحر"، فهو فيركور الذي إن بحثت عنه في القواميس ستجده اسماً لواحدة من أجمل المناطق الريفية الفرنسية.

نعرف أن رواية "صمت البحر" لفيركور هي واحدة من الروايات الفرنسية الأكثر شعبية، وتحديداً لارتباطها بالاحتلال الألماني النازي لفرنسا، وبالمقاومة البطولية لجزء من الشعب الفرنسي أسهمت مساهمة أساسية في دحر ذلك الاحتلال من دون أن تحمل ولو عبارة حقد واحدة. فهي في نهاية الأمر تبحث عن الإنسان وكرامته وسط صخب الكوارث والأحزان.

ونعرف أن الفيلم الذي حققه عنها جان بيار ملفيل بعنوانها نفسه يعتبر دائماً من أقوى وأنجح الأفلام الفرنسية. لكن مرة أخرى سيكون من الظلم لفيركور أن نقصر وجوده وحياته وأدبه على تلك الرواية، حتى وإن كان قد وقع له ما يقع لكل أديب أو فنان يكون ضحية لعمله، وبكل بساطة، حين ينال عمل واحد من أعماله شهرة تفوق شهرة كل أعماله الباقية، فلا يُذكر إلا بذلك العمل فيصبح العمل عبئاً عليه ووسيلة لمحوه معنوياً من الوجود بالعلاقة مع أعماله الأخرى. فإذا أضفنا إلى هذا أن المبدع ذاته يكون قد ارتكب هو نفسه خطأ استراتيجياً حين يتخذ اسماً غير اسمه يعرف به، فيرتبط الاسم الجديد بالعمل الواحد، ويعيش المبدع عشرات السنين بعد ذلك محاولاً أن يتلمّس لنفسه طريقاً، يؤكد مكانته الشخصية وحضور أعماله فلا يجد، لأن المحدودية السابقة التي كان قد اختارها لنفسه باتت طاغية عليه.

البحث عن الإنسان

كتب فيركور إذن، قبل تلك الرواية وكتب بعدها أعمالاً كثيرة، بيد أن روايته "الحيوانات الممسوخة" التي صدرت عام 1952 يرى النقاد فيها أنشودة للأخوة والإنسانية، وتنتمي هذه الرواية بشكل ما إلى عالم خاص من عوالم الخيال العلمي، لكنها في الوقت نفسه رواية أسئلة فلسفية، بل سياسية وإنسانية عميقة.

فهي تنطلق من مغامرة علمية، يقوم بها جماعة من علماء الأنثروبولوجيا بحثاً عمّا يسمّى "الحلقة المفقودة"، أي ذلك الكائن الذي تبعاً للنظرية الداروينية قد يشكّل حلقة الوصل التطورية بين القرد والإنسان البدائي. والذي يحدث هو أن أولئك العلماء الذين كانوا يتوقعون الوصول إلى أحفورات تؤكد نظريتهم، يكتشفون في الحقيقة قوماً بأكملهم من كائنات حية تمثل في مجموعها تلك الحلقة المفقودة. فيطلقون عليها اسم بارانتروبوس غريمسانسيس، ويعرّفونها اختصاراً بـ"تروبي".

هنا يتدخل رأس المال في الحكاية على صورة رجل الأعمال فانكرويزن الذي يريد أن ينتهز الفرصة، محوِّلاً تلك الكائنات إلى قوى عاملة بالمجان، كون أفرادها ليسوا في عرف القانون بشراً، بالتالي لا تشملهم قوانين العمل. وتسكت السلطات عن ممارساته تحديداً، بسبب غياب القوانين التي تضبط الوضع، وكذلك بسبب عجز العلماء الرسميين عن الإجابة عن السؤال الأساسي: هل التروبي بشرٌ؟

 

وفي غياب أي جواب قاطع يواصل الرأسماليّ عمله رغم محاولات الأنثروبولوجيين التصدي له، وفي وضع يتمظهر فيه أساساً واقع أن ما من قانون أو شرع تمكّن أصلاً من تحديد ما الإنسان قبل تحديد ما إذا كان التروبي بشراً. لكن الأدهى من ذلك فشل "النجاح" الذي حققته المحاولة التي يقوم بها الأنثروبولوجيون لإقامة مرحلتين من التخصيب الصناعي بين البشر والتروبي من جهة، وبين هؤلاء والقردة من جهة ثانية، وذلك لأن كلتا المحاولتين تنجح، ما يُبقي السؤال الأساس معلقاً.

لكن، أحداث الرواية سوف تواصل تطوّرها من خلال شخصية المتبرع دوغلاس تمبلمور الذي يكون سائله هو الذي أخصب التوربي الأنثى، فكان الأب البيولوجي للطفل الذي تلده، ثم يسجله في دائرة النفوس، فيصبح أباه الشرعي. بالتالي يصبح الطفل مدار السؤال الذي ستعاند السلطات ومن ورائها أصحاب الأعمال في إنكار إنسانية الوليد حتى اللحظة التي يقتل فيها دوغلاس الطفل فقط، لإجبار السلطات على حسم الأمر.

أسئلة أتت أبكر مما يجب
من الواضح أن هذه الرواية القاسية التي اقتبسها فيركور بنفسه للمسرح لتقدّم للمرة الأولى عام 1963، تتجاوز كونها رواية خيال علمي كما أشرنا، لتطرح وباكراً جداً بالنسبة إلى كل تلك القضايا المتعلقة بالمهاجرين والتراتبية الاجتماعية واستغلال العمال، وما إلى ذلك، وتطرح عديداً من المسائل السياسية بشكل بالغ المكر، ما جعلها تعتبر عملاً فكرياً نضالياً أكثر من كونها مجرد رواية. غير أن المشكلة كمنت في أن كثيراً من الإشكالات الإنسانية الشائكة التي طرحتها أتت أبكر مما يسمح بالتعمّق في مدلولاتها، ناهيك بأن اقتباس هوليوود لها في فيلم من إخراج غوردون دوغلاس في عام 1970، نحّى معظم أسئلتها العميقة ليُبقي على أحداثها، ما حوّلها إلى عمل خيال علمي من النوع العادي، وفوّت على مؤلفها فرصة الظهور كاتباً متأملاً في القضايا الإنسانية مكتفياً له بدوره أديب مقاومة وطنية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يبقى أن نذكر أن فيركور، واسمه الأصلي جان مارسيل برولر، ولد عام 1902 في باريس، وتخرج أول الأمر مهندساً كهربائياً. لكنه سرعان ما وجد نفسه منجذباً ناحية الفن، فدرس الرسم ليتّجه نحو الرسم الهزلي - الفلسفي، ويبدأ نشر رسومه في مجموعات، حملت عناوين قاتمة بعض الشيء، مثل "21 وصفة للموت العنيف" (1926)، و"رجل مقطّع" (1929)، و"ضروب الصمت" (1937)، و"رقصة الأحياء" (1938).

حين اندلعت الحرب العالمية الثانية انضم فيركور إلى صفوف المقاومة ضد المحتل النازي، وعاش في منطقة فيركور، التي استعار اسمها ليعرف به منذ ذلك الحين، وهناك خاض عديداً من المغامرات الوطنية والمعارك التي يصفها بشكل شديد الحيوية في كتاب له صدر عام 1967 بعنوان "معركة الصمت". وفي خضم ذلك الصراع المقاوم الذي كان يخوضه، أسس فيركور في 1941 منشورات "مينوي" (التي لا تزال قائمة حتى اليوم وتنشر أعمال صمويل بيكيت، كما نشرت "مجلة الدراسات الفلسطينية" بالفرنسية بين أشياء أخرى)، وعنها أصدر في العام التالي روايته الكبرى "صمت البحر".

وعلى الرغم من أن كثيراً من الناس يعتقد كما أشرنا أن "صمت البحر" هي رواية فيركور الوحيدة، فإنّ الواقع يقول لنا إنه كتب روايات عديدة غيرها، بعضها لا يقل عنها أهمية مثل "المسيرة إلى النجوم" (1943)، و"رمل الزمن" (1945)، و"أسلحة الليل" (1948)، و"العيون والنور" (1948) و"قوة النهار" (1951)، وفي معظم تلك الروايات يخرج فيركور عن إطار موضوع المقاومة ليتوقف عند مظاهر الشرط الإنساني الممزّق بفعل صعوبات الوجود.

في أعمال فيركور التالية لـ"صمت البحر" بشكل عام ثمة محاولة دائبة للبحث عن سر الوجود الإنساني، والتساؤل عمّا إذا كنا نعرف الإنسان حقاً. ولقد عبر فيركور عن هذا الأمر خير تعبير كما رأينا في "الحيوانات الممسوخة" (1952)، حيث يتساءل الكاتب عن ماهية الإنسان وقد أضحى إنساناً، وعن ماهيته وهو الذي لا تزال لديه بقايا من حيوانيته البدئية. هذا التساؤل عاد إليه فيركور بعد سنوات في مسرحية كتبها بعنوان "القاتل الخيري" (1963)، لكن كذلك في عديد من النصوص الفلسفية، خصوصاً في كتاب عنوانه "ما أؤمن به" أصدره في 1975، وفيه عبّر عن قلق وجودي، لكن أيضاً عن مفهوم يرى في الالتزام وفي العمل الفعّال ضرورة تسمح للكائن البشري بأن يتخلّص من سيطرة الموتى عليه، كما من الظلمات التي يحاول الشرط الإنساني أن يبقيه فيها.

وإضافة إلى كونه كاتباً، كان فيركور رحّالة كبيراً، فهو زار أميركا وأوروبا وآسيا وأفريقيا الشمالية، وألقى كثيراً من المحاضرات بشكل بدا معه دائماً وكأنّ همه الأساسي أن يثبت للعالم كله أنه كاتب خصب ومتنوّع، وليس فقط مؤلف رواية "صمت البحر" مهما كان جمال هذه الرواية وفرادتها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة