بعد ثلاثة أسابيع على إقرار الحكومة اللبنانية خطة التعافي الاقتصادي والمالي التي دخلت عبرها في مفاوضات رسمية مع صندوق النقد الدولي، طلباً للدعم المالي الدولي، خرجت جمعية مصارف لبنان بما وصفته بورقة "مساهمة" في الخطة، تضعها في تصرف الحكومة والهيئات الاقتصادية المعنية، لتكون مساحة حوار ونقاش من أجل الخروج بحلول عملية لإنقاذ البلاد من ازمتها.
وتأتي ورقة الجمعية بعد محاولات حثيثة بذلها أركانها تجاه رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة من أجل المشاركة في اللجان المكلفة وضع الخطة الاقتصادية، للمساعدة في تقديم الاقتراحات الآيلة إلى المعالجة، انطلاقاً من المعطيات التي تملكها المصارف عن وضعياتها، والتي تتيح لها تقديم أفكار عملية وقابلة للتنفيذ.
لكن المصارف شكت في أكثر من مناسبة من عدم استجابة السلطات لطلبها، حتى صدرت الخطة، ولم تُستشر الجمعية بالمسودة لوضع ملاحظاتها عليها، على الرغم من أنها المعنية المباشرة بالتنفيذ.
وأكثر ما أثار استياء المصرفيين، أن الأرقام الواردة في الخطة حول موازنات المصارف وخسائرها لا تتطابق أبداً مع الواقع، كما هي الحال أيضاً بالنسبة إلى التقديرات المتصلة بخسائر المصرف المركزي.
وأثار هذا الأمر استياء الوفد المفاوض من صندوق النقد الدولي، الذي دعا الحكومة إلى توحيد أرقامها قبل الدخول في أي مسار تفاوضي حتى يصبح في الإمكان إجراء المقتضى.
تهميش
التهميش الذي لمسته المصارف، معطوفاً على استهداف ممنهج وواضح كان بدأ عبر الحملة على المصارف وتحميلها كل مسؤولية الخسائر من دون أي تقاسم لهذه المسؤولية مع الدولة، ما دفع الجمعية إلى طلب المساعدة من مؤسسات استشارية دولية، كانت تقدمت إلى استدراج العروض التي أجرتها الحكومة لإعداد خطتها، قبل أن يرسو القرار على شركة "لازارد" الفرنسية.
علماً أن العقد مع الأخيرة كان يهدف إلى مساعدة الدولة على التفاوض مع الدائنين.
وعلمت "اندبندنت عربية" أن الجمعية واجهت مصاعب حقيقية في اختيار أي مؤسسة، بعد الحملات التي استهدفتها وحملتها المسؤولية، إذ أبلغت هذه المؤسسات الجمعية أنها ليست في وارد الدخول في مواجهة مع الدولة، وأنها تفضل أن تحتفظ بعلاقات جيدة انطلاقاً من كونها السلطة الشرعية، فيما المصارف ليست إلا قطاعاً خاصاً.
وقد انتهت المفاوضات إلى التعاقد مع الاستشاري الفرنسي "GSA"، وكانت مهمته أقل صعوبة، لكونه كان بدأ العمل على الملف اللبناني، ولديه كل المعطيات والأرقام.
وقد تمكن من إنجاز ورقة عمل مفصلة تتضمن إجراءات وخطوات تنفيذية ضمن برنامج زمني محدد مع أهداف محددة في مهلة لا تتجاوز أسبوعين، فيما استغرقت الحكومة أكثر من ستة أسابيع لإنجاز خطتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"الخطة الحكومية ألزمتنا طرح البدائل"
في المقابل، يوضح نائب رئيس الجمعية نديم القصار لـ "اندبندنت عربية" أنها، وبعد كل محاولات إسماع صوتها للسلطات المعنية، وجدت نفسها في قفص الاتهام، بعدما أعلنت الدولة في خطتها إفلاس القطاع المالي. و"نحن كجمعية، تعنى بشؤون القطاع، كان من واجبنا التحرك من أجل تخفيف التداعيات الكارثية التي ستترتب عن تطبيق الخطة الحكومية إن على المصارف أو على الاقتصاد والمودعين".
ويقول "لسنا نحن من عمد إلى إعلان التخلف عن سداد الديون، ولا من حدد سعر صرف جديد للدولار، أو من طلب برنامجاً مع صندوق النقد الدولي. لكننا بتنا في مكان أصبحنا فيه ملزمين بتقديم المساعدة والمساهمة من أجل تخفيف حجم الأضرار، خصوصاً أن ثمة خيارات كثيرة يمكن اللجوء إليها من دون أن يتكبد المودعون أو القطاع المالي أو الاقتصاد الخسائر المقدرة في الخطة الحكومية".
ويؤكد القصار أن المصارف كانت أعلنت رفضها للخطة، ولكنها لم تلق أي آذان صاغية لها. "فتوجهنا يختلف عن التوجه الحكومي. صحيح أننا أقرضنا الدولة، واتهمنا بأننا لم نشترط عليها تنفيذ الإصلاحات في المقابل، ولكن هذه ليست مسؤوليتنا إذا كنا نثق بالتزامات الدولة الإصلاحية وبالبرامج التي وضعتها في هذا السياق، ولم نشك يوماً في إمكان تخلفها عنها".
استعادة الثقة والتوازن
في سياق متصل، كانت الجمعية قدمت ورقتها البديلة أمام اللجنة الفرعية للمال والموازنة النيابية في غياب وزيري المال غازي وزني والاقتصاد والتجارة راؤول نعمة.
وذكرت مصادر نيابية مشاركة في الاجتماع لـ "اندبندنت عربية"، أن ملاحظات النواب كانت ضد التوجه الحكومي في الخطة، كاشفة أن الخطة ستتعرض للطعن والتعديل لدى وصولها إلى البرلمان، نظراً إلى التناقضات الفاضحة التي تضمنتها والتي تضرب سمعة لبنان وصدقيته ودستوره ونظامه الاقتصادي الحر.
وانطلقت الجمعية في ورقتها من أنها تمثل ثلاثة ملايين مودع، وركزت على مجموعة من الثوابت أهمها:
- أهمية وجود رؤية اقتصادية تواكب الإجراءات المالية لإعادة الهيكلة.
- خلق نحو 350 ألف وظيفة في مختلف القطاعات الاقتصادية، ضمن تقديرات أن يصل الناتج المحلي الفردي إلى 15 ألف دولار عام 2030.
- احتواء الضرر الناتج من معالجة المالية العامة عبر شبكة أمان اجتماعي ممولة من الموازنة لتقديم المساعدة لما لا يقل عن 450 ألف مستفيد.
- دعم صندوق النقد الدولي ملح على الرغم من نجاح الإجراءات المطروحة، من أجل معالجة اختلاسات المالية العامة.
وتسعى خطة الحكومة إلى تحقيق التوازن المفترض من خلال التعثّر الداخلي، ما يحتّم مضاعفات كبيرة وخطيرة تغرق البلد في انكماش اقتصادي حادّ.
ولا تلحظ الخطّة التداعيات الأولية التي ستترتب عنها. فالركود الاقتصادي الحادّ المقترن بالتعثّر الداخلي يجعل أرقام الإيرادات المالية للحكومة غير واقعية. فالتخلّف عن السداد الداخلي سيؤدّي إلى انخفاض الناتج المحلّي الإجمالي بشكل أكثر حدّةً مما هو متوقَّع (25 في المئة بدلاً من 14 في المئة). كما أنها لم تستوعب أن العائدات الضريبيّة ستتدهور أكثر، لأنّ الامتثال الضريبي سيتراجع إلى حدّ كبير، وسيشعر المواطنون بانعدام المسؤولية في الشأن المالي، ما قد يؤدّي إلى إفلاس العديد من الأشخاص والشركات.
ركيزة جمعية المصارف
ترتكز مساهمة جمعية المصارف في تعافي لبنان المالي على نهج قائم على ركيزتين مقرونتين بجدول زمني واضح للتنفيذ على مراحل.
أما الركيزتان فهما استجابة فورية متوازنة وفعّالة تعالج حاجات التمويل الخارجي وتضع المسار المالي ومسار الدين في المدى المتوسط على أساس مستدام، مع تجنّب التخلّف عن سداد الديون الداخلية الذي ستكون له عواقب مدمّرة على الشعب اللبناني وعلى قدرة البلد على استعادة الثقة، وإطلاق إصلاحات هيكلية لتعزيز النمو المستدام.
على الصعيد المالي، تستهدف مقاربة الجمعية تحقيق فائض أولي واقعي بحدود 2.1 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي عام 2024، ما يضع الدين العام في سياق إيجابي.
وسيشتمل أداء المالية العامة على إنشاء شبكة أمان اجتماعي بقيمة غير مسبوقة نسبتها 4 في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي بحلول عام 2024.
ولا يمكن الحصول على هذه النتائج إلا إذا تخلّت الحكومة عن خيارها الخطر بإضافة التعثّر الداخلي المؤدي إلى التعثّر الخارجي.
فلا يمكن تحقيق الاستقرار المالي ولا النمو الاقتصادي في دولة تقرّر إسقاط ديونها من جانب واحد، وتصادر الممتلكات بشكل غير قانوني، وتتدخّل في العقود الخاصة. ولا جدال في أن سيادة القانون واحترام قدسيّة العقود شرطان لازمان للنمو الاقتصادي.
8 مليارات دولار
من جهة ثانية، ترتكز مقاربة الجمعية على تجنّب التخلّف عن السداد الداخلي، وتخفّض حاجات التمويل الخارجي إلى حوالى 8 مليارات دولار بدلاً من 28 ملياراً خلال الأفق الزمني ذاته لخطّة الحكومة.
وتشدّد المقاربة على الدور الرئيسي الذي تؤديه، قانونياً ونظامياً، السلطات النقدية والرقابية في لبنان لجهة إعادة هيكلة القطاع المالي اللبناني وإعادة هيكلة وجدولة الدين العام. لذلك نرى، كخطوة أولى، ضرورة تسوية ديون الحكومة لمصرف لبنان بشكل عادل.
صندوق حكومي لتخفيف الديون
كما تتوخّى المقاربة اتّباع آلية تسوية تتضمّن الخطوات الآتية:
- إنشاء صندوق حكومي لتخفيف الديون (GDDF).
- مساهمة الحكومة من خلال الأصول أو الممتلكات العامة بقيمة 40 مليار دولار في الصندوق المذكور مقابل الحصول على 100 في المئة من أسهم الصندوق، أي كامل الملكيّة.
- إصدار الصندوق أوراقاً مالية مضمونة طويلة الأجل بقيمة 40 مليار دولار، يحملها مصرف لبنان مقابل التسوية النهائية لدين الحكومة لمصلحة المصرف المركزي.
- يتنازل مصرف لبنان للصندوق عن كامل محفظة اليوروبوند وسندات الخزينة اللبنانية. في المقابل، يشطب الصندوق للحكومة كامل محفظة الديون المشار اليها أعلاه، مقابل الأصول التي ساهمت بها الحكومة في الصندوق. ويتمّ تحويل رصيد إيرادات الصندوق إلى الخزينة العامة بعد أن يسدّد الصندوق الفوائد المتوجّبة لمصرف لبنان.