العُزلة الأولى.
عندما أُودعت السجن، حُشرت كما العادة في زنزانة انفرادية، أعدُّ الزمن بانعكاس الشمس من كوة، على أمل أن أخرج، من انفراد الذئب المحاصر في وحدته، أو أن لا أكون البعير الأجرب، حلم اليقظة، أن أكون في صخب جماعة، صبحاً مساء، مساء صبحاً، تستنزف الذاكرة المثقوبة، حين كنتُ أغرق في يمّ الكل.
يوم تم قلع جسدي من الزنزانة الانفرادية، كان يوم فرح، ثم لما التقيتُ الأصدقاء الزملاء، انتابني إحساس أن هذا اليوم يوم قيامتي، كنتُ أداري محنتي من وجع وضيق وقلّة حيلة، كنّا 20 في مربوعة، مساحة من أربعة أمتار في أربعة وباب من صلب موصد وحرس يذيقوننا المُرّ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في سجن "بورتا بينتو" في طرابلس الغرب، كُتابُ سرد وشعر ونقد وصحافة في أول العشرية الثانية من العمر، كانوا 20 في زنزانة جماعية، أتنفسُ ما ينفث زميلي من ثاني أوكسيد الكربون، ويتنفسني، والأجساد المعجونة من لحم مهروس، من مسام نضاحة، تنفث عرقاً لزجاً ممزوجاً، برطوبة يعبق بها المكان، في علبة السردين الكلّ لا أحد، في ذلك المسلخ، كنّا نقضي يومنا بساعاته الـ 100 أو أكثر، ولم تكن الكوّة كافية لإخراج نفاياتنا، لكن الحرس القساة يترصّدوننا، تذمّر ما أو توجّع، أو حتى لو صح، وإن اتّخذنا الغناء متراساً، فإنّ العقاب جاهز بعد توبيخ ولكز بمؤخرة البندقية، يجرجر الواحد منّا إلى الزنزانة الانفرادية .
كنتُ غائباً عن الوعي، وفي سريرة نفسي وجدتُها، عزلة القمر، أن تنفرد، في زنزانة انفرادية مساحتها متر ونصف المتر، لهذا نتذكر من قال:
يا زهرة الياسمين فكرتينا ببسمته وأيام من ماضينا
"طاخ، طربق"، فُتحت أقفال الزنزانة الجماعية، اندلف "الكليزة" كما كنّينا الحارس، جرّني من رقبتي، وبعقب البندقية دفعني، حتى كدتُ أقع، سحبني حتى الزنزانة الانفرادية، وهناك "طاخ، طربق"، قفل الباب وتربس القفل، في عزلة القمر، تنفّستُ الحرية.
بعد وقت، عاودني الكرّ، شدّني الحنين للخروج من المعزل، الشمس ميقاتي، في الزنزانة الانفرادية قالت إن العزلة المشروطة واحدة.
العزلة الثانية
زمن السجن عاودني وزارني في زمن كورونا، ما أقطع العزلة فيه، بالخروج للتزوّد بالزاد، من دواء السكري والأكل، وما شُبّه لي من حاجة، كلما خرجتُ، تراودني حالة السجن، فما أشبه الليلة بالبارحة.
اعتدتُ شراء خضاري من عجوز، تطرح على كيس خيش، القليل مما تستطيع إليه سبيلاً، من جرجير وخس وربطات قليلة من فجل. ومثل ذلك، تغيب العجوز يوماً، وتحضر في آخر، وحيناً تلبس كمامة نفسها وتدثر يدها، وفي حين آخر، تتمرّد على فعل ذلك. قيل، حين سألتُ مرة عن غيابها أن العجوز التي في العقد الثامن، تعاني من مرض في الصدر، لمّا تخاف كورونا تحجر جسدها، في قبوها حيث تعيش، ولما تخاف الجوع، تخرج من القبو القبر، وأنها في حيرة تداهمها كل الوقت وأن خيارها وحيد، هو أن لا خيار، قيل في الهمّ ما تختار، لكن همّ العجوز لا خيار فيه، طفح الكيل، فالعزلة كما فكّ عزلة، فالخطر شقاء يطاردها، حيثما حلّت وما فعلت.
حال عجوزي هذه حالي، وإن لم يطاردني الجوع، طاردني الخوف، ما يقلقني، فيتسرّب كفيروس في مسام النفس، فيكون توجّس مرض العزلة، الدافع المستميت لكسر عزلة، أخرج مسرعاً عجولاً، هارباً من هواجسي، وكما سائق عجول، تواجه النفس الهلوع، مقولة، في العجلة الندامة، أعود القهقرى والعود أحمد.
في صحن البيت الحصن، علبة العصر، البلورة السحرية، ناقلة الخبر الصحيح منه والكذوب الأكثر، أتّخذ هذه الشاشة الصغيرة متراساً، أتسقط الخيط الأبيض من الأسود، وفي النشرات المنهمرة، تتساقط الأخبار، ما فيها من الشكوك يكسر كل يقين.
لكن الأغرب أن الساكن هذه العلبة، المذيع الرئيس، رجل الأعمال، العجل الذهبي، كل مساء فصبح، أجده يتصدّر الشاشة، هلوعاً يصدر البيان اليقين، فالبيان المتشكك، كما غراب البين يتلعثم، حاملاً أسفاره، ينوي فكّ العزلة من معزله، لكنّ فيروساً، يغلق في وجهه كل الأبواب في خلفية الشاشة التي يتصدّر، توابيت تنطح التوابيت، فمدينته الكبرى جبانة، وفي الزاوية الحرجة من الشاشة، طوابير غافلة، خائفة من جائحة الجوع، حاملة يافطة مكتوبها، "لا يصيبنا إلّا ما كُتب علينا".
الرئيس العجوز وجماهيره الغفيرة، حالها هذه حالي، كورونا كشط الفوارق، فتبيّن أن المصير واحد كما الموت، ما جعل الرئيس العجوز كعاشق مراهق، يمسك بيده زهرة الموت، يقطف فتلة من الزهرة قائلاً، العزلة، ثم الثانية، قائلاً، فكّ عزلة، وكأنما كورونا استعادة للرومانسية، للوهلة الأولى، للحيرة الكبرى.