Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بنجامن مايرز يطارد قاتلا غامضا في شمال بريطانيا

رواية "هذه الأيام المعتمة" تفضح زيف الإعلام والمظاهر الخادعة

الروائي البريطاني بنجامن مايرز (دار النشر)

نعرف البريطاني بنجامن مايرز شاعراً حداثياً وضع حتى اليوم ستة دواوين مهمة. لكن ما يجهله معظمنا هو ممارسته أيضاً كتابة الروايات البوليسية، بين ديوانٍ وآخر، وتمكّنه من توسيع نطاق هذا النوع الأدبي باستكشافه وتحليله الجرائم ذات الطابع الفولكلوري، كما في "منعطف الكآبة" (2016) التي تدور أحداثها في لندن وتوقّع سرديتها المشوِّقة جرائم ترتكبها شخصيةٍ سيكوباتية شديدة الدهاء والتعقيد.

في روايته الجديدة، "هذه الأيام المعتمة"، التي صدرت ترجمتها حديثاً عن دار "سوي" الباريسية، يغادر مايرز لندن ويحطّ بنا في بلدة صغيرة تقع شمال إنكلترا ويقطنها، إلى جانب أبنائها الأصليين الذين تتسلّط على حياتهم عادات وأسرار وأساطير محلّية، شبّان وشابات هيبّيون أتوا من مختلف أنحاء بريطانيا لمعانقة نمط حياةٍ بديل والتقرّب من الطبيعة. بلدة كئيبة يغسلها المطر بلا انقطاع وتطاول البطالة معظم قاطنيها، وهو ما يفسّر تمضيتهم معظم وقتهم في الحانات بهدف تلطيف مللهم ونسيان همومهم في الشرب.

شخصيات الرواية الرئيسة ثلاث نعرف اثنتين منها لتأديتهما دوراً مركزياً في "منعطف الكآبة": الصحافي رودي مايس الذي نراه على طول النص يجتّر طموحاته الماضية ويفكّر في النكسة المهنية التي اختبرها في لندن ودفعته إلى الاستقرار في البلدة المذكورة وتقبّل العمل في صحيفتها المحلية "أصداء الوادي"، ومحقِّق الشرطة جايمس بريندِل الذي كان يعمل في فرقة "الغرفة الباردة" المرصودة لحلّ قضايا الجرائم البشعة، قبل أن يُجبَر على أخذ "عطلة" طويلة من عمله بسبب فشله في تحقيقه الأخير والفضيحة المدوية التي خلّفها هذا الفشل في وسائل الإعلام. ولذلك، نجده في مطلع الرواية مكتئباً يتسلّط عليه سلوكه الاستحواذي.

القاتل والمتهم

الشخصية المركزية الثالثة هي توني غاردنر، كبش محرقة أبناء البلدة، الذي تعرّض في طفولته لحادث ترك آثاراً سلبية على شخصيته وحياته، أبرزها بلادة ذهنية وارتجاف في اليدين. شخصية مؤثّرة تخضع باستمرار لسخرية الآخرين وتجاهد للبقاء على قيد الحياة عن طريق ممارسة الصيد الممنوع في الغابات المحيطة بالبلدة وبيع ثماره لأحد الجزّارين. وخلال عودته من رحلة صيد ليلية، يرى غاردنر في أحد الصباحات الباكرة امرأة ممدَّدة بطريقة غريبة في إحدى الزوايا. وحين يقترب منها، يتبيّن له أنها تعرّضت لعملية ذبح مخيفة ونزفت الجزء الأكبر من دمها، لكنها ما تزال على قيد الحياة. ولتجنّب أي مشكلة مع الشرطة، يقرر غاردنر مغادرة المكان، لكن ليس قبل أن يرمي السكين الذي شاهده قرب هذه المرأة في فتحة أحد المجارير بسبب التقاطه إياه عفوياً. أما الضحية فهي جوزفين جينكس، نجمة سابقة لأفلام إباحية رخيصة لا يلبث ماضيها المثير أن يلهب فضول وسائل الإعلام المحلية والوطنية بهذه القضية.

ومع أن أحداً لم ير غاردنر قرب الضحية، تتوجّه أصابع الاتهام بسرعة إليه بسبب جُنَحٍ تتّسم بالعنف اقترفها خلال سن المراهقة. لكن لحسن حظّه، لا تلبث جرائم أخرى مشابهة أن تقع في البلدة أثناء اعتقاله. إذ تُطعن بسكين الموظّفة آن نوكس في وضح النهار قرب مركز الشرطة، لكنها تبقى على قيد الحياة، بخلاف كاي ثورنبي التي يُعثَر عليها جثة هامدة في المزرعة التي تعيش فيها مع زوجها، بعد نحرها، ثم يُذبح شرّيد في وضح النهار أيضاً وينقذه المحقق بريندل الذي حضر إلى البلدة للتحقيق في هذه الجرائم من دون توكيل رسمي. جرائم تشيع بسرعة حالة هستيريا جماعية تؤدّي بدورها إلى أعمال عنفٍ ضد "الأجانب"...

الصحافي مايس يشكّك فوراً في مسؤولية غاردنر عن هذه الجرائم ويرى في اتّهامه سهولة لا ترضي حدسه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى بريندل المقتنع بأن الأمر لا يتعلّق بجرائم عادية وبأن هوية مرتكبها ليست كما يظن الجميع. وحتى منتصف الرواية، يقود كلّ منهما تحقيقه الخاص، قبل أن يوحّدا جهودهما وخبراتهما لحلّ هذه القضية وكشف هوية الفاعل. وكي لا نفسد على القارئ متعة قراءة الرواية، لن نكشف مآل هذا التحقيق، لكن ما يمكننا قوله هو أن الحقيقة التي يصل مايس وبريندل إليها بعد جهدٍ جهيد لا يتوقّعها أحد، بما في ذلك القارئ، وأن لا عراك بالسكاكين بين الخير والشرّ في النهاية، فالأمر أكثر تعقيداً بكثير في هذا العمل المعتِم الذي يرتكز على أحداث واقعية حصلت في مقاطعة "وِسْت يوركشير" في الثلاثينيات، ونجح مايرز في إسقاطها داخل زمننا الراهن، مانحاً إيانا قصة أسِرة تدور أحداثها داخل أجواء في حالة توتّر دائم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حياة بديلة

تجدر الإشارة أيضاً إلى أن التحقيق، على أهميته، ليس مركزياً في هذه الرواية التي يخصّص كاتبها الجزء الأكبر منها لوصف حياة البؤساء والمهمّشين في تلك البلدة الصغيرة، الرمادية، التي تعاني من ارتفاع مستمر في معدّل البطالة ولا تملك الإمكانيات للتعامل مع المهاجرين الكثر الوافدين إليها بحثاً عن حياةٍ بديلة. ومن حينٍ إلى آخر، يتجاوز هذا الوصف البلدة المذكورة ويتناول منطقة "دايلز" التي تقع فيها وتتألف من سلسلة وديان متتالية هجرتها الحداثة ويتوزّع سكّانها القليلون على مزارع وبلدات صغيرة منطوية على نفسها وعاداتها وأساطيرها. وصفٌ يتمكّن مايرز بفضله من تجسيد تلك الكآبة التي تتسلّط على بلدات شمال إنكلترا الريفية ومن محاصرة مميزات قاطنيها، بلدات توقّف الزمن فيها في الثمانينيات وبات النجاح الاجتماعي مجرّد حلمٍ عذب، ولذلك نرى زبائن حاناتها الثابتون جاهزين دوماً لإحقاق "العدالة" بأنفسهم بعد اجتراع الكأس الثالثة أو الرابعة. وصفٌ بأسلوب شعري أخّاذ يحوّل الرواية البوليسية إلى عملٍ أدبي بامتياز، خصوصاً حين يتناول الطبيعة المحيطة بالبلدة ومناظرها، تحوّلات مناخها وضبابها، إذ يمسك بالقارئ ويسقطه داخل بُعدٍ واقعي وغنائي في آنٍ واحد، مثيراً مخيّلته وممارساً عليه شكلاً من الافتتان الذي لا يقاوَم.

لكن قيمة الرواية لا تقتصر على ذلك، بل تكمن أيضاً في تناولها بدقّة وحساسية مؤثِّرة القدر الحزين لأولئك المعزولين داخل محيطهم نظراً إلى اختلافهم، مثل غاردنر ومايس وبريندل على حد سواء، وفي تحليلها ظواهر اجتماعية مبلبِلة وتلك الانفعالات القادرة على توحيد الجموع ودفعها إلى ارتكاب الشر. تكمن أخيراً ــ وليس آخراً ــ في تصويرها ببصيرة زمننا المريض الذي باتت وسائل الإعلام فيه غير معنية بالحقيقة، بل بتقديم أخبار فانتيزية غايتها جذب أكبر عدد من القرّاء أو المستمعين أو المشاهدين؛ زمناً يفقد الصحافي الذي يؤدّي واجبه بأمانة فيه وظيفته لأن الحقيقة التي يسعى خلفها تتطلّب وقتاً لم يعد متوافراً. وفي ذلك، تشكّل الرواية مرافعة شرسة ضد الإعلام التشويقي يغتنمها الكاتب لانتقاد أيضاً الأشخاص المستعدين لفعل أي شيء من أجل الحصول على دقيقة واحدة من الشهرة، ومجتمعاتتا التي صارت المظاهر أو الفرجة القيمة والهدف الوحيدين فيها.

باختصار، رواية سوداء ناجحة تسمح لمايرز بتأكيد مهاراته السردية مرةً أخرى وقدرته على فرض رؤية فجّة لا مهادنة فيها لعالمنا المادّي والسديمي، ولإنجلترا الضواحي والأرياف التي لم تجد بعد سبيلاً للخروج من بؤسها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة