Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

رحلة عقار "ريمدسيفير" من القعر إلى القمة

في مشهد سريالي: كورونا ينقذ الدواء الذي يعالج مرضاه من مستودعات الإهمال!

عقار "ريمدسيفير" الذي سيستخدم لعلاج مصابي كورونا (من موقع extra.ie(

كان أمراً محتماً أن ينضم "ريمديسيفير"، وهو دواء مضاد للفيروسات صُمم لعلاج كل من "التهاب الكبد" و"الفيروس التنفسي الشائع"، إلى لائحة آلاف الأدوية الفاشلة الأخرى التي ثبُت عدم جدواها في مواجهة أمراض صُممت لمواجهتها. فقد كُدّست عبواته التي أُنتجت ولم تجد طريقها إلى الاستخدام في مستودعات "غرف إعدام" المستحضرات الصيدلانية تمهيداً لإتلافها، بعدما استسلم الباحثون أمام محدودية نتائجه.

لكن الجمعة 2 مايو (أيار)، حدث ما لم يتوقعه أشد المتحمسين لهذا الدواء، إذ أصدرت "إدارة الغذاء والدواء" الأميركية موافقة طارئة على استخدام "ريمديسيفير" بوصفه علاجاً للمرضى الذين يصارعون فيروس كورونا المستجد. وتُظهر قصة إنقاذ "ريمديسيفير" الدور القوي الذي يمكن للتمويل الفيدرالي في الولايات المتحدة أن يلعبه لدفع البحوث الأساسية للعلماء والباحثين العاكفين في مختبراتهم. فقد اعتمد البحث المتعلّق بـ"ريمديسيفير"، بشكل شبه كامل، على المنح المالية الحكومية الأميركية.

يُعدُّ الدكتور مارك دينيسون، الباحث في جامعة فاندربيلت، واحداً من حفنة باحثين قليلين اكتشفوا إمكانات إعادة تصميم دواء "ريمديسيفير". فقد بدأ دراسة الفيروسات التاجية قبل ربع قرن من اليوم، في وقت كان عددٌ قليلٌ من الباحثين يعيرون اهتماماً بهذه الفيروسات، خصوصاً لجهة كيفية تسبّبها في إصابة البشر بالزكام ناهيك عن اكتشاف طريقة عملها. يقول دينيسون لصحيفة "نيويورك تايمز": "اهتمامنا بالفيروسات التاجية كان محصوراً آنذاك بعلم الأحياء. لم يكن أحد مهتماً بها من منظور علاجي"، إذ لم يخطر على بال دينيسون ولا عشرات العلماء الآخرين الدارسين لهذه الفيروسات أن أحد سلالاتها سيطلق العنان في المستقبل، لوباء يقتل أكثر من ربع مليون شخص في جميع أنحاء العالم.

موافقة طارئة

سارعت "إدارة الغذاء والدواء" إلى الموافقة على دواء "ريمديسيفير" بموجب تدبير "الاستخدام في حالة الطوارئ"، بعد أن أظهرت تجربة فيدرالية حدوث "تحسن متواضع" لدى المرضى المصابين بأعراض شديدة بفيروس كورونا المستجد إثر تناولهم الدواء. وشملت التجربة التي رعاها "المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية"، أكثر من 1000 مريض في المستشفيات، ووجدت أن المرضى الذين يتلقّون "ريمديسيفير" يتعافون بشكل أسرع من أولئك الذين تلقّوا علاجاً وهمياً: خلال 11 يوماً مقابل 15 يوماً، أي بنسبة انخفاض قدرها 31 في المئة. لكن الدواء لم يقلّل بشكل كبير من معدلات الوفيات. ويقول الدكتور أنتوني فاوتشي، مدير "المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية"، إنّ الدواء "سيصبح معياراً جديداً لرعاية المصابين بأعراض شديدة مماثلة لأولئك الذين خضعوا للتجربة"، لكنه شدّد على أن الدواء لا يمثل "ضربة قاضية" لفيروس كورونا.

تمت الموافقة على إعطاء "ريمديسيفير" للمرضى المصابين بأعراض كورونية شديدة فقط وبشكل مؤقت، أما الموافقة الرسمية النهائية، فستأتي لاحقاً. ومع ذلك، رحّب بعض الأطباء العاملين في وحدات العناية المركزة بالدواء بوصفه رفيق سلاح جديد في المعركة ضد فيروس يقتل مرضاه بلا رحمة. ويقول الدكتور روبرت فينبرغ، رئيس قسم الطب في جامعة ماساتشوستس "إنها خطوة أولى رائعة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يتحكم في الطفرات
تمتلك الفيروسات التاجية حمضاً نووياً ريبياً أكثر بكثير من الفيروسات الأخرى ومما كان يعتقده العلماء. يعتمد عددٌ كبيرٌ من الفيروسات التي تسبّب الأوبئة على هذا النوع من المواد الوراثية، كما أنها تتحوّر جميعها تقريباً باستمرار. لهذا السبب تتغير تركيبة فيروسات الإنفلونزا من عام إلى آخر.
 عام 2007، اكتشف الدكتور دينيسون أن الفيروسات التاجية تمتلك نظاماً فائقاً "للتدقيق". فلو حدث خطأ ما لـ"الحمض النووي الريبي" خلال استنساخ الفيروس التاجي لنفسه، فإنه يصحّح الخطأ من تلقاء نفسه. وأظهرت التجارب المعملية أن الفيروسات التاجية التي تحوّرت كانت أضعف، وغير قادرة على مجاراة دورة حياة النسخ التي لم تحدث لديها طفرات تحوّرية. تساءل دينيسون وخبراء آخرون عما إذا كان ممكناً خداع الفيروس باستخدام عقار يتحايل على "نظام التدقيق" ليحول دون نمو سلسلة "الحمض النووي الريبي" الخاصة به، ما يجعله يضمحلّ قبل أوانه.

خلال استعراضه هذه المشكلة مع عالم آخر، علم دينيسون أن شركة "جلعاد ساينسز" تمتلك عشرات العقاقير التي تتقن تنفيذ هذه الخدعة، وأنها مُهملة جميعاً لسبب أو لآخر. اكتشف دينيسون لاحقاً أن مهمة معظم هذه العقاقير، خلال الاختبارات المعملية التي أُجريت عليها، كانت إخماد الفيروسات التاجية وأن أداء بعضها كان أفضل من أداء الآخر. أما أفضلها، فكان العقار الذي يحمل التعريف المرمّز GS-5734، الذي أُطلق عليه لاحقاً اسم "ريمديسيفير". يقول دينيسون "لقد سمّيتُهُ: العقار المدمّر".

اكتشف دينيسون أن عقار "ريمديسيفير" هو ما كان يبحث عنه: دواء يتخطّى نظام حماية "الحمض النووي الريبي" القوي الخاص بالفيروسات وبمادتها الوراثية. تمكّن "ريمديسيفير" من تدمير سلاسل متزايدة من الحمض النووي الريبي الفيروسي قبل أوانها، ما أدى في نهاية المطاف إلى قتل الفيروس. أباد "ريمديسيفير" كل الفيروسات التاجية المعروفة في اختبارات الدكتور دينيسون، بما في ذلك تلك التي تسبّب نزلات البرد، وكذلك "سارس" و"ميرس" بل حتى فيروس تاجي لا يصيب إلّا الفئران.
 

فشل على أرض الواقع
لكن "ريمديسيفير" فشل في عدد من الاختبارات الواقعية، ليس فقط ضد مرض "التهاب الكبد" ولكن أيضاً ضد "إيبولا" في أفريقيا. وهكذا أُبعد الدواء من دائرة الضوء وقبع في الظل ضعيفاً مهملاً، ولم  يُعتمد رسمياً لأي استخدام طبي... إلى أن ظهر فيروس تاجي جديد أواخر عام 2019. وعندما تحوّل فيروس كورونا المستجد إلى جائحة، استدرك علماء كثيرون أن "ريمديسيفير" قد يكون أفضل حلّ في متناول اليد، فلقد سبق إخضاعه بالفعل لاختبارات السلامة الحيوانية والبشرية كافة.

بدأ الأطباء خلال الأسابيع القليلة الماضية باعتماد جرعات "ريمديسيفير" للمصابين بفيروس كورونا المستجد ضمن دراسات عشوائية لا تخضع لضوابط وحتى من دون دراسات. وقد حفَّزت الحكايات التي بدأت تتردد في الكواليس، حول قدرات الدواء العجيب، الطلب عليه. استجابت شركة "جلعاد" للطلب على العقار، وفتحت مستودعاتها للأطباء الذين عالجوا مئات المرضى تحت بند "الاستخدام الرحيم"، وهو إعفاء قانوني للأطباء من أي نتائج سيئة قد تترتّب جراء استعمال دواء غير معتمد لعلاج المرضى.

لكن هذه التجارب الفردية لم تكن لتؤدي إلى أي إثبات علمي راسخ بأن الدواء مفيد للمصابين بالفيروس. تطلّب الأمر القيام بتجربة فيدرالية تحت إشراف الحكومة الأميركية، ضمّت فئتين من المصابين؛ الأولى أُعطيت علاجاً وهمياً، والثانية عقار "ريمديسيفير". وقد تبيّن من التجربة أن للعقار تأثيراً متواضعاً في الفئة الثانية. يقول الدكتور أرنولد مونتو، عالم الأوبئة في جامعة ميشيغان، إن التأثير المتواضع للدواء في المصابين في المستشفيات كان مفاجئاً، إذ كان متوقعاً أن لا يستجيب أحد للعلاج خلال هذه التجربة. يضيف مونتو: "الحمد لله، لدينا دواء يعمل".

ما هو الثمن؟

على الرغم من كل ما سبق، لم يلقَ الإعلان عن نجاعة دواء "ريمديسيفير" صدى إيجابياً لدى أوساط عدّة. فقد وجدت دراسة صينية نُشرت الأسبوع الماضي في دورية "لانسيت" المرموقة، أن العقار لا يقدم أي فائدة إلى المرضى المصابين بأعراض خطيرة. وطلب عددٌ كبيرٌ من الباحثين الاطّلاع على بيانات "المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية" المتعلّقة بالتجربة.

وعلى الرغم من الضبابية التي تغلّف مكانة "ريمديسيفير"، إلّا أن "جلعاد" بدأت العمل على تكثيف إنتاجه. ويقول دانييل عوداي، الرئيس التنفيذي للشركة، إن 1.5 مليون قارورة "ريمديسيفير" موجودة في المستودعات وهو مقدار يكفي لعلاج 140 ألف مريض، سيتم توريدها للمرضى من دون أي تكلفة. لكنّه رفض في تصريح لـ"نيويورك تايمز" مناقشة الثمن الذي ستتقاضاه "جلعاد" على المدى الطويل عقب الموافقة الرسمية على استخدام العقار. ومن غير المرجح أن يكون "ريمديسيفير" رخيصاً، على الرغم من أن الأبحاث السريرية التي أُجريت عليه مموّلة من الحكومة الفيدرالية. ويقول عوداي "لقد اكتشفت جلعاد هذا الدواء وطوّرته. لقد أسهمنا فيه على طول الطريق".

ويقول الدكتور آرون كيسيلهايم، أستاذ الطب في جامعة هارفارد الذي يدرس تسعير الأدوية: "يجب أن يعكس سعر جلعاد أن الحكومة الفيدرالية لم تستثمر أموالاً كبيرة فحسب، بل غامرت في مراحل محفوفة بالمخاطر". ويضيف أنه إذا حصدت جلعاد جميع المكافآت "فهذا لن يكون عادلاً".

المزيد من متابعات