Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الجائحة التي تعيد صياغة عالمنا

نحن أمام "فيروس فلسفي" أعاد غرسنا في الأرض وذكرنا بأننا جزء من الطبيعة

مشهد من فيلم "أطفال الرجال": ما المصير بعد الأوبئة والحروب؟ (الصورة تخضع لحقوق الملكية الفكرية - صفحة الفيلم على إنستغرام)

التفكير في ما بعد الجائحة شبيه بما يسمى في مجال الآداب والسينما ما بعد القيامة post-apocalyptic أو ما بعد نهاية العالم. والمقصود كل هذه الأعمال التي تصور كيف ستقوم الحياة من بين الأنقاض، بعد الدمار الذي يصيب الكرة الأرضية بفعل الاصطدام بنيزك أو الاجتياح الهائل لوباء، أو حتى بعد احتراق نووي مفاجئ. كلنا تابعنا هذا الأمر عبر الخيال العلمي، الذي على الرغم مما كان يوفره لنا من متعة فنية، إلا أننا كنا ننظر إليه باعتباره خيالاً جامحاً يستحيل وقوعه. والآن بعد أن فاجأنا هذا الفيروس القميء، أصبح الواقع نفسه أعتى مما يمكن أن يصل إليه الخيال مهما كان مسرفاً. هل كنا في حاجة لمن يضربنا على رأسنا حتى نستفيق!؟. كما لو أن هذه الجائحة أعادت طرح كل الأسئلة التي ظلت مكبوتة ومغيبة لحد الآن. أسئلة البيئة والفوارق الاجتماعية، والمنظومة الأساسية للقيم الإنسانية، ومصير الأرض والحضارة البشرية. إنه بمثابة دعوة للقيام بمسح جذري للطاولة. إذن فالفيروس في حد ذاته ليس سوى القمة الظاهرة من جبل الجليد، بينما الكارثة الكبرى المتوقعة هي ما بعد الجائحة، أي كيف سيكون عليه العالم عشية القضاء على الوحش اللامرئي؟

استراتيجية الصدمة

 أغلب الأنظار تتجه عموماً إلى ما يمكن أن يحدث في الجانب الاقتصادي والاجتماعي. من المؤكد أن ثمة أموراً ستتغير في هذا الجانب ـ مع العلم أن التغيرات ستطال جوانب أخرى كما يسعى هذا المقال إلى إثباته ـ أكبر النظريات التي اعتنت بتوصيف ما يمكن أن يصبح عليه العالم بعد وقوع الأزمات الاقتصادية، هي نظرية عالمة الاقتصاد الكندية نعومي كلاين في كتابها: "عقيدة الصدمة صعود رأسمالية الكوارث". تصف الكاتبة عالماً مخيفاً تتنبأ فيه بنهاية الدولة الراعية، وتخليها عن الخدمات الاجتماعية الأساسية. في نظرها "رأسمالية الكوارث" هي منهجية عملية تعود جذورها إلى الاقتصادي الكبير الحائز جائزة نوبل ميلتون فريدمان، هذه الرأسمالية التي تنتظر وقوع كوارث وأزمات كبيرة في المجتمع، كيفما كانت طبيعة هذه الأزمات اقتصادية أو سياسية أو طبيعية، كي تقوم بالتدخل من أجل استغلال مآسي الناس أبشع استغلال اقتصادي ممكن. بينما يكون أغلب المواطنين لا يزالون تحت تأثير الصدمة، غير قادرين على فهم ما يحدث حولهم، همهم الوحيد هو إنقاذ ما تبقى لهم. هنا بالضبط تسارع الشركات الكبرى من أجل خصخصة القطاعات الاجتماعية الحيوية، أو تخفيض النفقات العمومية، أو من أجل الاستيلاء على أراضٍ شاسعة وتحويلها إلى منتجعات سياحية.

الأمثلة التي تقدمها الكاتبة عديدة، لقد حدث هذا في نيوأورليانز عقب إعصار كاترينا وحدث في سيريلانكا بعد كارثة تسونامي. وفي التشيلي بعد انقلاب بينوشيه. أو حتى في العراق بعد الحرب الأولى أو الثانية تحت مسمى إعادة الإعمار. تقول نعومي كلاين: "هكذا يعمل مذهب الصدمة، تضع الكارثة الأصلية ـ سواء كانت انقلاباً أم هجوماً إرهابياً، أم انهياراً للسوق أم حرباً، أم تسونامي أم إعصاراً، جميع السكان في حالة من الصدمة الجماعية. وتخدم القنابل المتساقطة والعنف المتفجر والرياح العاتية كلها لتطويع مجمل المجتمعات... وعلى غرار السجناء المرعوبين الذين يكشفون عن أسماء رفاقهم ويتنكرون لدينهم ومعتقداتهم، كذلك تقوم المجتمعات المصدومة بالتنازل عن أمور لكانت دافعت عنها بشراسة في أوضاع مغايرة". 

أغلب المحللين الاقتصاديين رأوا أن العالم بعد جائحة كورونا، سيكون مقبلاً على ركود اقتصادي كبير أسوأ من أزمة 2008 بل أسوأ حتى من الكساد العظيم لعام 1929. في اعتقادنا قد يجد هذا العالم الذي تصفه نعومي كلاين، مرتعه الخصب في ما بعد الجائحة. فهذه الكوارث والأزمات التي ظل دهاقنة الرأسمالية الحرة يصلّون من أجل حدوثها، كي يبرروا تدخلهم المجحف في حق الشعوب المروعة من الصدمة، تأتي الآن على طبق من ذهب. والأمر لا يتعلق بقطر واحد من دون غيره، بل إن الأرض برمتها ـ مع استثناءات قليلة جداً ـ ستصبح مجالاً لتطبيق سياسة الكوارث هذه. ستتخلى الدولة عن آخر ما تبقى لها من برقع الرعاية والحماية الاجتماعية. فالوقت ليس وقت رخاء وحقوق اجتماعية. ومن يعترض على ذلك سيتهم بانعدام الحس الوطني المسؤول وبعدم التضامن.

حالة الاستثناء ونتائجها

كل هذا معناه أنه سيتم تشديد التضييق على المعارضة وتعزيز مجتمع الرقابة، إذ باسم العودة الارتدادية للفيروس، والحفاظ على الصحة العامة، سيخضع الجميع للعين السحرية التي ترى كل شيء. الأمر سيكون شبيهاً كذلك بما يسميه الفيلسوف الإيطالي جورجيو أغامبين "حالة الاستثناء"، حيث يتم تعليق العمل بالقوانين باسم الظروف الخاصة التي يمر بها البلد. وإذا كانت: "حالة الاستثناء قد بلغت اليوم أقصى انتشار لها على مستوى العالم". كما يرى أغامبين فإن الوضع الآن بعد الجائحة، سيكون أكثر ملاءمة لفرض هذه الحالة، بل ولجعل العديد من الشرائح الاجتماعية مستباحة على جميع المستويات.

لقد تابعنا جميعاً كيف أن النموذج الليبرالي الجديد، لم يستطع توفير الحماية الاجتماعية الكافية للمواطنين، غير أن البديل من المحتمل جداً ألا يكون نظاماً آخر، يولي العناية المطلوبة للاقتصاد الاجتماعي. بل المزيد من الإمعان في الليبرالية المفرطة، والمغالاة في حرية السوق. بعد الجائحة من المنتظر أن تزداد حدة المنافسة على الأسواق، وتتسع دائرة التوترات. وهكذا بدل الانكفاء من أجل الاهتمام ببناء الاقتصادات المحلية، ستصل العولمة إلى أقصى مظاهرها وحشية، بينما ستعجز الحكومات عن مواكبة هذا العالم المفتوح على مصراعيه، كي تتخلى تدريجاً عن طابعها السيادي وتتحول إلى مجرد هيكل إداري فارغ. وبدل أن تعمل على حل الأزمات، سيكون كل همها وضع الإجراءات الصارمة الكفيلة بتدبيرها.  

بدأت الإشارات إلى هذا الأمر منذ الآن، فقد تحدث العديد من القادة السياسيين عما أطلقوا عليه "اقتصاد الحرب" والبعض الآخر سماها "الحرب العالمية الثالثة". هذا معناه أنه تم النظر إلى الفيروس كما لو أنه عدو عسكري، وإذن مثل هذا الاقتصاد ستتضرر منه الشرائح الاجتماعية الواسعة من خلال خفض مستوى المعيشة، والزيادة في معدلات الضرائب، وتقليص النفقات العمومية. إن كل هذا وغيره يدلان على أن مستقبل الديمقراطية قد لا يكون ساطعاً. 

ما بعد الوباء

خلال الأربعينية وقفنا جميعاً على ما تعنيه بحق هشاشة الوجود البشري. لم يستطع كل هذا الوعاء التقني الذي كنا نحيط به أنفسنا، والذي كنا نعتبره مفخرة حضارتنا أن يقوم بحمايتنا. فهل سنتعلم الدرس الأساسي لما بعد الجائحة!؟ هل سنعي جيداً أنه لا يوجد ملاذ آمن آخر لنا سوى أمنا الأرض، وأنه من الضروري تحقيق التوازن، مهما كان صعباً بين الأيكولوجيا والتكنولوجيا. على الرغم من كل الأخطار التي تعيشها الكرة الأرضية إلا أنه لا يبدو أننا سنسير باتجاه كبح الاستهلاك المحموم الذي تنجرف فيه المجتمعات المعاصرة منذ عقود.

كتب الشاعر العظيم توماس إليوت أبياتاً خالدة في رباعياته:

إن المرض هو وحده صحتنا

إذا ما أطعنا الممرضة المحتضرة

التي ليس في عنايتها الدائمة ما يرضي

ولكنها تذكرنا

بأنه لكي نشفى يجب أن يزداد مرضنا سوءاً

قد يكون هذا الوباء الذي عشناه هو وحده ـ بحسب البلاغة الشعرية لإليوت ـ من بإمكانه أن يعلمنا ما معنى الصحة. لكن لا أحد يعرف على وجه اليقين، هل ستتغلب رجاحة العقل والفضيلة، من أجل تغيير الحضارة نحو الغايات الإنسانية النبيلة، أم أن المحنة التي عشناها غير كافية وأنه: "كان يجب أن يزداد مرضنا سوءاً" حتى نستوعب الدرس جيداً.

على الرغم من الوضع الحضاري الحرج سيطالب مفترسو الاقتصاد والسياسة بعد الجائحة، بضرورة استدراك ما فات، عن طريق الرفع من وتيرة الإنتاج وإعادة تدوير عجلة الاقتصاد. وهكذا فالعالم لا يزال في حاجة إلى دروس كثيرة حتى يعمل على إيجاد بدائل سياسية واقتصادية أكثر ملاءمة للبيئة والمجتمع. مع ذلك ـ وعلى الرغم من كل التضييق الذي سنعاني منه ـ ستتسع في المقابل دائرة الأصوات، المنادية بضرورة التمسك بقيم الارتباط والتعاون والتضامن.

لقد رأينا فضائل الاعتدال الاقتصادي والصناعي خلال فترة الحجر الصحي: سماء زرقاء خالية من التلوث، مياه صافية وهواء نقي، بل حتى الحيوانات والطيور وجدت سكينتها، فنزلت تمرح وتختال حرة في شوارعنا. هل سنتمكن حقاً من الحفاظ على كل هذه الفضائل!؟

خلال هذه المحنة عشنا السقوط المدوي للشعار الأنواري/ الديكارتي: الإنسان سيد ومالك للطبيعة. ها هي ذي هباءة لا تكاد ترى تصبح سيدة على العالم. وإذن لقد جاء هذا الفيروس لكي يعيد غرسنا في الأرض، ويذكرنا بأننا جزء من الطبيعة، وربما لهذا السبب اعتبر الفيلسوف الفرنسي المعاصر فنسان سيسبيد. أننا أمام فيروس فلسفي، لأنه يدفعنا إلى طرح الأسئلة الأساسية المتعلقة بطبيعتنا البشرية، وهوية حضارتنا التقنية. الحلم الروسوي بالعودة إلى الطبيعة لا يزال بعيد المنال؟!

 لقد وضعتنا هذه الجائحة في مواجهة مباشرة مع ما كنا نعتقد أننا تركناه وراءنا. نحن الذين بقينا غارقين في الاستهلاك والتبضع حتى النخاع، غير عابئين لا بمحدودية الموارد الأولية للأرض، ولا بتناهي الوضع البشري، لدرجة أننا اعتقدنا أن التكنولوجيا ستخلصنا من فكرة الموت الذي بات بإمكاننا هزيمته بحسب البشائر التي رفعها اتجاه ما بعد الإنسانية.

ضد كل هذا رمت الجائحة بحقيقة الموت في وجوهنا، حتى أنه لم نعد قادرين على إحصاء الجثث ولا مواراتها التراب. تسربت العديد من الأخبار سواء من الصين أو إيطاليا أو أميركا، أن الجثث يتم تكيسها بالمئات وحرقها جماعة. منذ فجر التاريخ عندما وارى قابيل هابيل التراب. يعاين البشر للمرة الأولى هذه الحقيقة المرة. الموتى يذهبون وحدهم إلى السماء. لقد حرمنا من الحق الإنساني في الحداد، وهذا أمر ستكون له انعكاسات كبيرة على صحتنا النفسية، وعلى سلامتنا العقلية خلال مرحلة ما بعد الوباء. 

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ميلاد العمل الافتراضي

إذا كانت السياسة والاقتصاد هما من سيصنعان عالم الغد، فثمة عنصر ثالث لا يقل أهمية عنهما، وهو الثورة المعلوماتية التي نعيشها حالياً. خذ على سبيل المثال نشاطاً مارسناه خلال فترة الجائحة، غير أنه من الممكن أن يصبح ميزة متوطنة في سلوكنا الاجتماعي. نتحدث عن العمل الافتراضي أو العمل عن بعد. من دون شك هذا النوع من العمل الجديد له مزايا عدة، تهم توفير الوقت واقتصاد الجهد وتقليص تكاليف التنقل وغيرها. لقد لامسنا هذه الميزات في الكثير من المجالات، كعقد المؤتمرات والتسوق وإلقاء المحاضرات وإجراء المقابلات التلفزيونية وغيرها. كما تطال نتائج هذا العمل الجديد ميادين أخرى تشمل الحد من توسع المدن، والحاجة إلى المكاتب والازدحام الطرقي وتخفيض التلوث وغيرها، هذا من دون أن ننسى أن ذوي الحاجات الخاصة سيتمكنون من متابعه أعمالهم من منازلهم.

لكن في الآن ذاته ينطوي العمل عن بعد على سلبيات أخرى، منها أنه يعزز العزلة والفردانية، ويقضي على الروابط الاجتماعية. من المفارقة هنا أن نتأمل كيف تدعم وسائل التواصل انتشار اللاتواصل. إضافة إلى المضار الجسدية التي يمكن أن تصيب العامل نتيجة تراجع المجهود البدني، مما يؤدي إلى ارتفاع احتمال الإصابة بأمراض الضغط والسكري. لكن تبقى أهم سلبية للعمل الافتراضي، هي أنه يهدد الكثير من مناصب الشغل. لقد قيل منذ ظهور الحاسوب أن هذا الجهاز العجيب قادر على معالجة المشكلات كافة، ما عدا المشكلة التي يخلقها هو ذاته ألا وهي البطالة. والآن مع منهجية العمل عن بعد، قد تتضاعف هذه الظاهرة، ما دام أن العامل بإمكانه عبر الحاسوب تغطية العديد من المهام، التي يمارسها أكثر من فرد في الظروف العادية.

قد لا يكون العمل الافتراضي هو الكمال المنشود. ولكن هكذا دوماً كان الشغل وسيظل، ذا طابع مفارق. فكما تقول الأسطورة منذ أن خرج آدم من الجنة، كانت عقوبته هي أن لا ينال خبز يومه إلا بعرق جبينه. الشغل إذن هو ألم ومعاناة. ما يتوجب علينا فعله هو ضرورة تأطير هذا النوع الجديد من العمل، ووضع القواعد التي تضمن حقوق جميع الأطراف. عالم الغد سيلعب فيه الذكاء الصناعي، وإنترنت الأشياء دوراً حاسماً في تعميم هذه الخدمات اللاتلامسية. أكيد ستكون بعض الممانعات، كنوع من الحنين للشكل القديم للعمل. لكن العمل الافتراضي أيضاً له حسناته، إذ من المرجح بقوة أن يعمل على بناء ذاكرة جماعية، ويعزز تبادل الخبرات. لذلك وبدل النظر إلى الافتراضي كتهديد للواقع، ربما وجب علينا النظر إليه كمفهوم جديد للواقع، أي كواقع موسع.

آفاق الثورة المعلوماتية

بدأت الثورة المعلوماتية كما هو معروف مع مطلع الألفية الثالثة، غير أن الجائحة التي نعيشها اليوم، منحتها قوة دافعة جديدة للإسراع بتنزيل تطبيقاتها. سمعنا مثلاً عن وجود بعض التطبيقات في الهاتف تساعد على تعقب المصابين، ورصد حركاتهم واتصالاتهم في الفضاء العمومي، ضمن ما اصطلح عليه بـ virus tracking. قد تكون لهذا الأمر انعكاسات سلبية، كونه يشكل انتهاكاً لخصوصية الأفراد، غير أنه قد لا يكون هناك من حل آخر لتفادي انتشار الفيروس من جديد، سوى اللجوء إلى ما يوفره الرصد المعلوماتي.

كما طورت بعض الشركات برامج ذكاء صناعي، تمكن من التعرف إلى الفيروس وحساب تسلسل جينوماته، ضمن ما أصبح يطلق عليه بالبيولوجيا الجديدة، وهو ما يساعد في تحليل عينات دم المصابين في مدة زمنية وجيزة، قد تصل إلى حوالى نصف ساعة، مقارنة بالساعتين المعتادتين في الطريقة العادية. إن هذا لن يمكن فقط من تشخيص المرض، بل والإسراع في إيجاد العلاج الملائم له. أكثر من هذا ستسهم وسائل المعلومات في توقع احتمالية الإصابة بالمرض، كما حدث مثلاً مع الممثلة أنجلينا جولي، التي قامت بتحليل جيني لإمكانية إصابتها بمرض السرطان، وعندما وجدت أن النسبة مرتفعة اتخذت القرار ببتر ثديها. الآن لدينا العديد من المواقع في الشبكة العنكبوتية، التي يمكن أن نرسل لها عينة من لعابنا كي تقوم بتحليلها في مختبرات متخصصة، ثم ترسل لنا رسالة تخبرنا فيها بما هي نوعية الأمراض التي يحتمل أن نصاب بها مستقبلاً.

الذكاء الصناعي يعمل إذن على تغيير طبيعة المعرفة التي اكتسبناها لحد الآن. كما يعمل في الوقت نفسه على تغيير شكل المجتمع الذي نعيشه. إن التطورات تسير في المنحيين معاً بطريقة رأسية، لدرجة أننا غير قادرين على متابعة تغيراتها، فالجديد يداهمنا كل يوم. كل الكيانات الاجتماعية والمؤسساتية التي اعتدنا طابعها المادي الملموس، سوف تصبح خلال الألفية الثالثة ذات طابع لا مادي، أي ذات طابع افتراضي. يحدث هذا في مجال الألعاب والتدريب، والتعليم والعمل عن بعد، إضافة إلى تقنية الآفاتار التي تجعل الإنسان مثلاً، يزور أماكن بعيدة أو يحضر اجتماعاً أو يسهم في حل مشكلة ما، من دون أن يتحرك من أريكته، بل فقط عن طريق ارتداء خوذة خاصة بذلك.

هكذا سواء في مجال الصحة أو التعليم أو العمل، أو حتى في قطاع المصارف {قضية العملة الرقمية مثلاً} يبدو أن التحولات ستواصل انتشارها بدرجة أكبر بعد الجائحة. إن ما سنعيشه هو الاصطدام الواضح بين باراديغمين من الوجود الإنساني: الأول هو المجتمع الاستهلاكي القائم على مركب السياسة والاقتصاد، وهذا النموذج كما هو معروف يقوم على غاية واحدة وهي تسليع كل شيء، والربح بأقل تكلفة وفي أقصر مدة زمنية ممكنة، وهو ما قادنا إلى كل هذه الكوارث التي نعيشها، على المستوى البيئي والاجتماعي. أما البراديغم الثاني فهو نموذج مجتمع الإعلام والمعرفة، الذي يقوم على مركب آخر وهو البحث العلمي، والتنمية المستدامة، واحترام البيئة وحقوق الطبيعة، وانفتاح المجتمعات على بعضها بعضاً، وتشارك المعرفة والثقافات.

وعموماً كل الأزمات التي عرفها الإنسان سابقاً، كانت ترسم ما قبل وما بعد. سواء تعلق الأمر بالركود الاقتصادي، أو بإعادة تشكيل المنظومات السياسية الجديدة كالاتحاد الأوروبي. أو تصاعد قوي للحركات الاحتجاجية، تلك المتضررة من سياسات الليبرالية الجديدة والمطالبة بتخليق العولمة the moralization of globalization. وتلك المطالبة باستعجال إيجاد الحلول اللازمة للمشكلات الأيكولوجية، فإن معركة ما بعد الجائحة، ستكون أشد ضراوة من الجائحة ذاتها. لا أحد بالضبط يمكنه أن ينظر في البلورة كي يعرف أين يمكن أن تجنح بنا أحداث التاريخ، باتجاه انبلاج عصر إنسانية وحضارة جديدة، أم باتجاه الأفول والانهيار التام. ولكن الآن بعد أن فتحنا صندوق بانادورا وتسربت كل الإمكانات، بقي فقط الأمل قابعاً هناك في أسفل الصندوق.

في فيلم "أطفال الرجال" the children of men الذي ظهر عام 2006 ـ وهو واحد من أفلام ما بعد القيامة ـ يثير المخاوف بصدد المستقبل، الذي تكثر فيه الأمراض والأوبئة والحروب، فنصل إلى عام 2027 حيث لن تتمكن النساء من إنجاب الأطفال، مما يهدد بانقراض البشرية. تقول إحدى الشخصيات: "لا يمكنني أن أتذكر متى كان لدي أي أمل آخر، وبالتأكيد لا يمكنني أن أتذكر متى فعل ذلك أي شخص آخر. لأنه حقاً، بما أن النساء توقفن عن القدرة على إنجاب الأطفال، فما الذي يتبقى من الأمل"؟ قد لا يكون المستقبل مطابقاً لما كنا نتوقعه، ولكن ما دام هناك أطفال في هذا العالم، هناك دائماً أمل في سطوع فجر جديد.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات