Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"متعة الكتابة" لشيمبورسكا معجزة إيطالية صغيرة

800 نسخة من مجموعة شعرية واحدة تباع ذات مساء

الشاعرة البولندية فيسلافا شيمبورسكا (أ.ف.ب)

لا شكّ أن البائعين الذين يتلقون طلبات شراء الكتب عن طريق الإنترنت والتابعين إلى شركة آمازون، شعروا بأكثر من مجرد الذهول حين تلقّوا ذات مساء ثمانمئة طلب خلال ساعات قليلة لشراء نسخ من مجموعة شعرية لم تكن بِيعَ منها خلال الأسابيع السابقة سوى نسخ بالعشرات.

وزاد من ضخامة الحدث وغرابته في ذلك المساء أنّ عدد صفحات المجموعة يكاد يناهز الثمانمئة صفحة، فإذا زدنا على ذلك أن الشعر مترجمٌ عن البولندية، وأن ليس من السهل تهجئة اسم الشاعرة صاحبة المجموعة التي بالكاد كانت معروفة في إيطاليا رغم فوزها قبل حين بجائزة نوبل الأدبية فوزاً لم يلفت نظر الكثيرين يومها، يصبح من حقنا أن نتحدّث عن "معجزة" صغيرة لا سابق لها في تاريخ الشعر، لا في إيطاليا ولا في غير إيطاليا. فماذا إذا قلنا الآن أن دار النشر التي أصدرت المجموعة مترجمة إلى الإيطالية، وجدت نفسها تصدر خلال الأسابيع القليلة التالية طبعتين جديدتين من المجموعة لا يقل عدد نسخ كل منهما عن خمسة عشر ألف نسخة؟!

للوهلة الأولى ربما يُخيّل للمرء أنه أمام نوع من "كذبة أبريل" أو أمام خبر مفبرك، همّه أن يطمئن محبي الشعر أن هواهم هذا في خير، أو أنّ الأمر مزحةٌ في أحسن الأحوال. لكن أبداً لا شيء من هذا، فالحدث حقيقيٌّ، والمجموعة عنوانها "متعة الكتابة"، وتضم الأعمال الشعرية الكاملة للشاعرة البولندية فيسلافا شيمبورسكا، التي رحلت عن عالمنا قبل حدوث ذلك بأسابيع قليلة أي في فبراير (شباط) 2012 عن عمر قلّ عاماً واحداً عن الثمانين. أمّا ذلك المساء العجائبي الذي نشير إليه فكان في مارس (آذار) من العام نفسه.

الوجه الآخر للّغز

والحقيقة، أننا لكي لا نبدو وكأننا نرسم لغزاً يصعب حلّه، نجدنا هنا مضطرين إلى الإفصاح عن الوجه الآخر لـ"الأعجوبة"، بل الوجه الذي يضيف منطقية ما على حدث قد لا يبدو أول الأمر منطقيّاً بما يكفي. وهكذا إذا كنا تحدّثنا عن أعجوبة أدبية/ شعرية، قد يكون علينا بعد هذا أن نتحدّث عن "معجزة تلفزيونية" بالأحرى، وهاكم الحكاية خلف الحكاية. وهي بالتحديد تتعلق بالكاتب الإيطالي روبرتو سافيانو الذي اشتهر شعبياً في طول شبه الجزيرة الإيطالية وعرضها، ليس بحبه الشعر أو الشعر البولندي الصوفي على وجه الخصوص، بل بكتابته تحقيقات ونصوصاً عن ذلك الفرع النابوليتاني من المافيا المعروف باسم "غومورا".

ونعرف أن عدداً من كتبه حُوّل إلى أفلام سينمائية، وأن رأسه كان مطلوباً من تلك العصابات، وهو بفضل تلك الشعبية وجد نفسه يتحوّل أيضاً إلى نجم تلفزيونيّ حيت تعاقدت معه واحدة من أكثر المحطات التلفزيونية الرسمية نخبويةً (راي 3) ليقدِّم برنامجاً يتضمّن تعليقاته على الكتب وبعض الأفلام وما شابه.

ولقد حظي البرنامج في بلاده بشعبية هائلة، مكّنته من أن يُنوّع بين الحين والآخر، فيتخطّى أطر الموضوعات الأدبية الجماهيرية، ليتحدّث عن أدب أكثر جدية. وهكذا بالتحديد، لمناسبة رحيل تلك الشاعرة التي يبدو أنه كان التقاها شخصياً في آخر أيامها، وأُعجب بشخصيتها، بل سجّل معها مقاطع وبعض اللحظات التأملية "غامر" بأن جعل حلقة ذلك المساء من برنامجه مخصصة لها.

ومن الواضح أنّ الإيطاليين من متابعي البرنامج دُهشوا بتواضعها وجاذبيتها في ثمانينياتها، لا سيما حين رأوها في إحدى اللحظات تقول مبتسمة بكل هدوء: "لقد بدأت حياتي منذ سنوات شبابي محبة النوع الإنساني، عازمة على جعل شعري وكل ما أكتبه في خدمته، لكني بقدر ما كنت أتقدم في العمر كنت أكتشف أكثر وأكثر أن من غير الممكن إصلاح البشر. لم أتوقف عن حبهم، لكن شِعري توقّف عن محاولة إصلاحهم من تلقائه!".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كان اكتشاف الإيطاليين تلك السيدة حدثاً كبيراً في حياة معظمهم، كما يمكننا أن نتوقّع، ومن هنا سارعوا إلى حواسيبهم ليتوجهوا إلى "آمازون" بطلبيات شراء مجموعتها التي قدّمها سافيانو في تلك السهرة. وبالتالي عمّ ترانا نتحدث هنا؟ عن معجزة الشعر أو عن معجزة التلفزة؟

من متعة الكتابة إلى متعة الشاشة

مهما يكن، قبل أن نتوقف عند شعر شيمبورسكا، قد يكون من المفيد أن نشير هنا إلى أن الحكاية تذكّرنا ببرنامج ثقافي فرنسي كان يقدّمه الإعلامي برنار بيفو باسم "أبوستروف" على القناة الثانية، وكان لا يفوته أن يُذكّر بين الحين والآخر بكيف أنّ ظهور أي كاتب في حلقة من حلقات البرنامج يؤدي منذ صباح اليوم التالي إلى رفع مبيعات كتبه أضعافاً مضاعفة. ومن هؤلاء باحث في اللغة هو كلود هاجيج أصدر مرة كتاباً في أكثر من ألف صفحة عن تقنيات اللغة، كان عسيراً حتى على المتخصصين وباهظ الثمن، لكنه حين ظهر مؤلفه في "أبوستروف" بِيع منه خلال أيام تالية ألوف النسخ. أمّا بيفو فكان تعليقه: "علينا الاعتراف بأن معظم الذين اشتروا الكتاب لن يقرؤوا فصلاً منه، لكنهم اشتروه تحية منهم لباحث أمتعهم ذات مساء تلفزيزني بحديثه عن اللغة...!".

والآن، مَنْ هي فيسلافا شيمبورسكا؟ حتى الآن وبصرف النظر عن حكايتنا الإيطالية هنا، تكاد هذه الشاعرة التي رحلت بعد سنوات قليلة من نيلها "نوبل"، تكون واحدة من الأدباء الأكثر تكتماً من بين كل "المُنَوْبلين"، إذ وكما أشرنا، بالكاد تنبّه أحدٌ إليها حين فازت ونحن نعلم بالطبع أن فوز روائي يثير من الصخب مئات المرات أكثر من فوز شاعر. ولم تشذ شيمبورسكا عن القاعدة، حتى وإن كانت واسعة الشهرة في بلادها حيث تلقّب بـ"شاعرة أشياء الحياة البسيطة"، إضافة إلى صوفية لغتها الشعرية من ناحية وبساطتها من ناحية مقابلة.

وإذا كان لنا أن نشبّه شعرها بشعر ما فإنه أشبه بمزيج من شعر العربي نزار قباني والفرنسي جاك بريفير، إذ تستخدم لغة بالغة البساطة للحديث عن الحب والعائلة والعلاقات اليومية وخيبات الألم والأحلام، لكن دائماً بقدر متميّز من الحس الفكاهي، لا سيما حين تتناول "الحياة اليومية والمواقف الأكثر غرابة في عاديتها" حسب واحدٍ من أقوالها الأكثر شعبية.

ولكن يعرف قراؤها المدمنون، وهم كثر في وطنها على أي حال، بل حتى في البلدان المجاورة لبولندا حيث تُقرأ بكل أريحية، أن خلف تلك البساطة الخادعة التي تميّز شعرها توجد دائماً تلك الرغبة الحاسمة في إزاحة النقاب عن أكثر غوامض تلك الحياة اليومية غموضاً.

الشاعر كائن نصف سرّي

وهذا ما أدركه محكّمو "نوبل" بالتأكيد حين منحوها جائزتهم عام 1996، مشددين على الطابع الإنساني في تعبيرها الشعري، لكن من دون أن يفوتهم أن يشيروا إلى أنها ومنذ صباها الذي بدأته في صفوف النضال الشيوعي سرعان ما أبدت خيبة أملها من ذلك النضال، لكنها لم تسعَ أبداً كي تُصنّف بين المنشقين الذين راحوا يتزايدون خلال الربع الثالث من القرن العشرين، ويُصطادون لأغراض سياسية. بالنسبة إليها هي كانت تفضّل أن تعتبر نفسها "من منفيّي الداخل"، مواصلة حياتها وكتابتها، ومعتبرة أن للشعر وظيفةً لا يجب أن تكون بالضرورة صدامية.

ومن هنا لم يكن مفاجئاً لأحد كيف أنها في خطاب تلقّيها جائزة نوبل في ستوكهولم وكانت في الثالثة والستين من العمر، أصرّت مبتسمة وبشكل لا يخلو من المكر، أن ترسم "بورتريه" للشاعر، أيّ شاعر، كما تتصوّره قائلة: "إنه كائن نصف سرّي لا يمكن التقاطه، وربما، لهذا بالتحديد هو كائن ليس ثمة بديل له". ومَنْ عرفوا فيسلافا عن قرب، لا سيما خلال العقود الأخيرة من حياتها، يقولون طواعية إنها كانت كمن تصف نفسها في ذلك البورتريه. ومن المؤكد أن هذه الصورة التي كررتها بنفسها أمام سافيانو أدهشت الإيطاليين فاندفعوا إلى قراءتها لعلهم يلتقطونها ويزيحوا القناع عن نصف سرّيتها، حتى بعد رحيلها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة