Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أسوأ تراجع بريطاني منذ "الصقيع الكبير" والطبيعة تهزم الاقتصاد تاريخيا

الركود العالمي المحتمل بسبب كورونا يشكل جزءاً من تقليد فائق القدم

أدّى انتشار الطاعون عام 1665 إلى ضرب الاقتصاد لكنه عاد ليزدهر بعد التخلص من الوباء (أرشيف هالتون - غيتي)

عندما يتوقّع "مكتب مسؤولية الميزانية" في بريطانيا أن يسجّل الدخل القومي تقاعساً بنسبة 35 في المئة على مدى بضعة أشهر، فهذا يُعدُّ انتكاسة تاريخية حقيقية يجدر التوقف عندها قليلاً.

وإذا ما افترضنا أنّ الاقتصاد ربما يشهد "انتعاشاً" قوياً إلى حدّ ما بعد مرحلة الغلق، وأن يستعيد النمو عافيته، وإن كان ذلك بعيداً من كونه أمراً مضموناً، فإنّ وضع الاقتصاد البريطاني عام 2020 المتوقّع، سيسجّل انكفاءً بنحو 13 في المئة ممّا كان عليه عام 2019، وسيشكّل ذلك أكبر تقهقر سنوي في الدورة الاقتصادية منذ قرون، وتحديداً منذ عام 1709.

هذا بالطبع يقود إلى السؤال الآتي: ما الذي حدث حقيقة على الكوكب عام 1709 كي يدفع بالاقتصاد إلى الهبوط نحو 15 في المئة (مع العلم أنه كلّما عدنا بالتاريخ إلى الوراء، وجدنا أنّ تقديرات الناتج المحلّي الإجمالي كانت تسجّل أرقاماً أكثر خطورة). في الواقع، لم يكن السبب حرباً أو جائحة عالمية، أو مرض الطاعون، كما كان معروفاً آنذاك، وكانت جميعها تضرب العالم بشكل دوري.

ما حدث كان، في الواقع، كارثة طبيعية: إنه "الصقيع الكبير" أو "الشتاء الكبير" الذي حلّ على بريطانيا مدة سنة كاملة، من عام 1708 إلى 1709. كان ذلك عبارة عن موجة طويلة من الطقس البارد التي لا يمكن تفسيرها، التي أثّرت في المحاصيل الزراعية إلى درجة أنها قضت على كثيرٍ من الحصاد في وقتٍ لاحق. فقد تجمّد بحر البلطيق، وفسدت الغلال، ورزح آلاف من الأشخاص تحت نير الجوع. يُقال إنه كان فصل الشتاء الأكثر برودةً في الأعوام الـ500 الماضية، ومرحلة مأساوية خلال حقبة طويلة من الطقس البارد الذي لفّ العالم. حتى يومنا هذا، فإنّ "العصر الجليدي الصغير" الذي امتدّ من عام 1450 إلى عام 1800، ما زال موضوع اهتمام علمي، وذلك لما قد يخبرنا به عن التغيّر المناخي.

ومع ذلك، كانت بريطانيا عام 1700 مكاناً مختلفاً تماماً. والسبب خلف الأثر الشديد لـ"الشتاء الكبير" في الاقتصاد يعود إلى أنّ معظم السكان البريطانيين البالغ عددهم آنذاك ما يناهز ستة ملايين و200 ألف نسمة، كانوا يعتمدون على الزراعة والمهن المرتبطة بها في معيشتهم، فانعدام المحاصيل في تلك الحقبة كان يعني أنّ الشعب لن يجد ما يمكن أن يقتات أو يتّجر به، ولن يتقاضى أجراً لشراء أي شيء، ناهيك بالادّخار أو الاستثمار.

كان ذلك بالطبع قبل فترة طويلة من قيام دولة الرفاهية أو الاقتصاد الحديث. لم تكن هناك أي خطط حكومية لدعم الأعمال التجارية، بينما كان العاطلون عن العمل الجائعون، وذلك في حال حالفهم الحظ، يلجؤون إلى الأوصياء المحليين على رعيتهم، للحصول على بعض الإعانات، أو بعض "الإغاثات الشحيحة"، أو ما يشبه الائتمان العالمي لتلك المرحلة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حتى لو كانت لدى الناس آنذاك أموال وغرائز حكيمة، فإنّ تخزين الطعام كان صعباً في وقتٍ كانت المواد الحافظة الوحيدة هي عبارة عن السكّر والملح والدخن. كانت هناك تجارة دولية وواردات من الطعام والشراب، إنّما كانت باهظة الثمن. الشاي، على سبيل المثال، كان يُعدُّ منتجاً فاخراً استفردت به الطبقة الأرستقراطية التي كانت تحتفظ به داخل أوانٍ فضية مزخرفة. في المقابل، كان مشروب "الجين" زهيد الثمن بشكلٍ ملحوظ، حتى إنه كان من السهل جدّاً أن يثمل الفرد لقاء ثلاثة جنيهات إسترلينية (حسب السعر الموازي له اليوم وهو ثلاثة دولارات و90 سنتاً).

وفي وقت سابق، عصفت بالبلاد مجموعة من الكوارث الطبيعية والأوبئة لتضرب بشدّة اقتصادها الصغير القائم على الزراعة. لكن بعد اجتيازها أزمة شتاء قارس آخر، عُرف في حينه بـ"عام من دون صيف" (1816)، تحوّلت البلاد إلى التنوع الاقتصادي للاستثمار في الصناعة وصادرات المصنوعات. لذا، فإن تأثير انفجار بركان في ما تُعرف الآن بدولة "إندونيسيا"، واكبه كثير من الغبار الذي طمس أشعة الشمس في معظم أنحاء العالم، وكان أقل ضرراً على الاقتصاد في ما لو بقي مقتصراً على الزراعة.

الكوارث التي شهدها العالم سابقاً لم تتوقّف عند هذا الحدّ، توجد قصص رعب أخرى وراء مجموعة من الإحصاءات الاقتصادية. فالطاعون الأعظم أو ما بات يُعرف بـ"الموت الأسود" الذي اجتاح أنحاء أوروبا بعد عام 1347 وقضى على نحو 50 في المئة من سكّان القارة، والأوبئة اللاحقة التي توالت خلال ستينيات القرن الـ14، كان لها تأثيرٌ كبيرٌ وطويل الأمد ومحبط في الناتج الاقتصادي (على الرغم من ازدهار معدلات الأجور للفلاحين الذين تمكّنوا من البقاء على قيد الحياة).

وقضى "الطاعون الكبير" عام 1665، الذي كان متمركزاً في العاصمة البريطانية لندن، كما هي الحال عليه الآن مع وباء العصر المستجد، على نحو 750 ألف بريطاني. لكن الاقتصاد تأثر بشكل رئيس من جرّاء إغلاق الشركات خلال فترة الحجر الصحي، لا سيما العزل الذاتي المبكّر والتباعد الاجتماعي. وكانت الآثار الاقتصادية شديدة، لكن أمدها لم يكن طويلاً.

وتكرّر الأمر ذاته خلال وباء الانفلونزا ما بين عامَيْ 1918 و1919، إنما خُففَت وطأته من خلال انتعاش اقتصادي مفاجئ وقصير الأمد بعد الحرب العالمية الأولى مع إطلاق الطلب الذي كان مكبوتاً. أمّا التراجع الاقتصادي بين عامَيْ 1920 و1921 فجاء بنحو 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة في نهاية هذا الانتعاش القصير.

إنّ كل ركود أو كساد آخر حتى يومنا هذا، كان من صنع الإنسان بشكل فعّال، سواء من خلال الحروب أو الانهيارات المالية والمصرفية أو سوء الإدارة الحكومية أو الارتفاعات الحادة في أسعار السلع التي تتسبّب بها الحروب أو التكتلات. أمّا الركود القصير إنما العميق الذي يشهده عام 2020، فيُعدُّ جزءاً من تقليد أقدم بكثير، إذ تأتي حرائق الأدغال والأحداث المناخية الغريبة التي توالت على مرّ الأعوام الأخيرة، لتشكّل تذكيراً بأن قوّة الطبيعة يمكن أن تهيمن بشكل أكبر حتى على المجتمعات الأكثر تطوراً وتقدّماً.

© The Independent

المزيد من آراء