Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العقلانية الإسلامية (الحلقة الأولى)

بغية إيجاد قاعدة لفهم هكذا آيات قرآنية عمد المعتزلة إلى مبدأ التأويل ولكن وفق طريقتهم الخاصة

آمن الفارابي بأن فوق المعرفة الحسية والمعرفة العقلية توجد معرفة نورانية (ويكمابيا)

كانت الفترة المبكرة للعقلانية في الفكر الفلسفي الإسلامي تتصدرها مدرسة من علماء الكلام المعروفين باسم المعتزلة في النصف الثاني من القرن الأول للإسلام (القرن السابع الميلادي). ومن الصعب البحث والتدقيق في تحديد زمنية وتفاصيل مستهل البدايات التي ظهر فيها المعتزليون الأوائل في الحجاز ومصر والعراق، باستثناء ما ذكره بعض المؤرخين، أمثال: الطبري في "تاريخ الأمم والملوك"، والنوبختي في كتاب "فرق الشيعة"، والمَلطي في كتاب "التنبيه"، وغيرهم.

ومما كتبه محمد بن أحمد المَلطي (377 هـ/ 988 م) عنهم أنهم "اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس، وذلك أنهم كانوا أصحاب عليّ، ولزموا منازلهم ومساكنهم، وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة، فسُموا بذلك معتزلة". وهؤلاء هم معتزلة العراق وفقاً لمجريات الأحداث.

أما معتزلة الحجاز، وفقاً لسياق الأحداث أيضاً ومجموعيّة الصحابة، فقد ذكر الحسن بن موسى النوبختي (310 هـ/921 م) أن "من الفرق التي افترقت بعد ولاية عليّ فرقة اعتزلت مع سعد بن مالك وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر [بن الخطاب] وحمد بن مسلمة الأنصاري وزيد بن حارثة، فإن هؤلاء اعتزلوا عن عليّ وامتنعوا عن محاربته والمحاربة معه بعد دخولهم بيعته والرضا به، فسُمُّوا المعتزلة وصاروا أسلاف المعتزلة إلى آخر الأبد".

وبالنسبة إلى معتزلة مصر، فقد ذكر محمد بن جرير الطبري (225-310 هـ/838-923 م) أن قيس بن سعد عامل مصر لعليّ كتب إليه يقول "إن قِبلي رجالًا معتزلين قد سألوني أن أكفَّ عنهم وأن أدعهم على حالهم حتى يستقيم أمر الناس فنرى ويُرى رأيُهم. فقد رأيت أن أكفَّ عنهم وأن لا أتعجَّل حربهم... ولم يلبث محمد بن أبي بكر [الصديق] شهرًا كاملًا حتى بعث إلى أولئك القوم المعتزلين الذين كان قيس وادَعَهم فقال: يا هؤلاء إما أن تدخلوا في طاعتنا وإما تخرجوا من بلادنا. فبعثوا إليه: إنّا لا نفعل، دعنا حتى ننظر إلى ما تصير إليه أمورنا ولا تعجّل بحربنا".

المعتزلة

كانت الطبقة الأولى من المتكلمين المعتزليين هم: معبد الجُهني (702هـ)، والجُعد بن دريهم (721هـ)، وغيلان الدمشقي (743هـ)، وجهم بن صفوان (745هـ). ومجمل أفكارهم الفلسفية الأساسية ترتكز على ما يلي:

1- إنكار القدر، حيث إنهم لا يؤمنون بالقدر، فالإنسان لديه إرادة حرة، ومسؤول عن أفعاله.

2- إنكار صفات الله. فالله، بالنسبة إليهم، لا يمكن توصيفه بمخلوقاته.

3- القرآن مخلوق. فهم يعتقدون أن القرآن قد خُلق، وليس كلمة الله غير المخلوقة.

إن هذه الأفكار كانت ضد العقيدة الإسلامية، لذا انتهى الحال بهم إلى القتل جميعاً. 

 في البصرة، أسس واصل بن عطاء (699-749) مدرسة عقلانية لتمثيل الفكر المعتزلي وتعليم طُرق جديدة للتفكير. وأكد أن العقل هو وسيلة للإيمان، وإلى معرفة الله، وأداة للتمييز بين الخير والشر، والمعيار الوحيد لفهم الشريعة. ومن ثم صار موقف المعتزلة الثابت "العقل قبل النقل". ولقد أشادوا بالعقل إلى حد كبير، ولذلك تعارضوا مع بعض المدارس الإسلامية الأخرى، لا سيما مع الحشويين والظاهريين الذين يعتقدون أن العقل ليس له دور في الشريعة.

بحق، كان العمل شاقاً على المعتزلة في تحرير العقل الإسلامي من الشوائب الكثيرة التي علقت به، وكذلك من طُرق التدريس الرتيبة في الشريعة، وكان الفكر المعتزلي يرتكز على أصولٍ خمسة: التوحيد والعدل والمنزلة بين المنزلتين والوعد والوعيد والعمل بالمعروف والنهي عن المنكر. وكانت المشكلة الرئيسة بين المدارس الإسلامية أن كل مدرسة تستخدم آيات قرآنية لدعم موقفها. على سبيل المثال، استخدم القدرييون الآيات التالية: "قُل لَّن يُصيبَنا إلا مَا كتبَ اللهُ لنَا". (51:9)، "واللهُ يَرزُقُ مَنْ يشاءُ بغيرِ حسابٍ". (212:2)، "ومَا يُعمرُ من مُعمرٍ ولا يُنقصُ من عُمرهِ إلا في كتابٍ إن ذلك على اللهِ يسيرٌ". (11:35).

بينما أنكر البعض الآخر وجود القدر، وأشاروا إلى آيات مختلفة، مثل: "فَمَن يَعمَل مِثقَال ذرَّةٍ خيرًا يَرَهُ. وَمَن يَعمَل مِثقَال ذرَّةٍ شَرًا يَرَهُ"). (99: 7-8)، "إنّا هديناهُ السبيلَ إمَّا شاكرًا وإمَّا كفورًا". (76: 3)، "وَمَا تُنفقُوا من خيرٍ فإنَ اللهَ بهِ عَليمٌ". (2: 273).  

وكان الأمر نفسه مع أولئك الذين آمنوا أو أنكروا أن صفات الله قابلة للمعرفة. وبغية إيجاد قاعدة لفهم هكذا آيات قرآنية، عمد المعتزلة إلى مبدأ التأويل، ولكن وفق طريقتهم الخاصة. ولقد أخذ أبو هذيل العلاف (135-235 هـ/753-850 م) دوراً مهماً في طرح أسئلة الفلسفة على التفكير المعتزلي، خاصة فيما يتعلق بالطبيعة الإلهية والطبيعة المادية. بالنسبة إلى العلاف فإن النفس الإلهية واحدة، فالعلم والرحمة والبصر والسمع والقدرة.. إلخ، كل هذه ليست أكثر من الذات الإلهية نفسها، وليس صفات لها. كما أعتقد العلاف بأن الذرات هي الجانب النهائي للمادة، وأن الجسم يتكون من الذرات، وأن الحركة الجسدية تخلق مساحة. وهكذا تتحقق الحركة في مكانين وزمانين، بينما يتحقق السكون في مكان واحد وبزمانين، لأن الزمن لا يتوقف عن الجريان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

على الرغم من أن المعتزلة اتفقوا على مبادئ محددة، لكن كانت لديهم بعض الاختلافات. على سبيل المثال فإن إبراهيم النظّام (185-221 هـ/777-836 م)، تلميذ العلاف، اعتبر أن الجزيئات قابلة للقسمة إلى ما لا نهاية، وأنه لا يوجد شيء دون حركة، وأن السكون غير موجود. علاوة على ذلك، يمكن أن توجد الأضداد في جسم واحد، ويمكن أن تظهر الأشياء من بعضها البعض. ولقد اختلف تلميذ آخر مع شيخه العلاف، وهو أبو علي الجبائي (235-303 هـ/849-916 م) وذلك في تسعة عشر مسألة، كما ذكر المؤرخ المَلطي.

عموماً، عالج المعتزلة العديد من المشكلات الإسلامية: الدينية والفلسفية والسياسية والاجتماعية، ولكن من خلال منظور عقلاني. وعلى الرغم من أن أبو يوسف يعقوب الكندي (185-256 هـ/800-868 م) كان معتزلياً، إلا أنه أدار الاتجاه نحو الفلسفة تماماً، كمتكلم يدعم الأفكار الإسلامية. ورغم  تأثره بفلسفة أرسطو، إلا أن الكندي تبنى مذهب الأفلاطونية المحدثة، الذي يتماشى مع تمسكه بالإسلام.

الفارابي

لقد جلب أبو نصر محمد الفارابي (257-339 هـ/870-950 م) نُضجَ ما زرعه الكندي، وأسس أول مذهب فلسفي في الإسلام. وفي "المدينة الفاضلة" وغيرها من الأعمال، أكد الفارابي على أهمية الحس في تحصيل المعرفة البشرية، مُتفقاً مع أرسطو بأن "المعارف إنما تحصل في النفس بطريق الحس"، ومؤيداً قول أرسطو على "أن مَنْ فقدَ حساً ما فقدَ عِلماً ما"، وأن "إدراك الحواس إنما يكون للجزئيات، وعن الجزئيات تحصل الكليات، والكليات هي التجارب على الحقيقة. وأهم هذه التجارب أوائل المعارف ومبادئ البرهان. فالعقل ليس شيئاً غير التجارب. وكلما كانت هذه التجارب أكثر، كانت النفس أتم عقلاً، لكن لا تحصل المعرفة في الإنسان بمجرد مباشرة الحس للمحسوسات، بل بعد تدخل قوى نفسية متعددة".

ويشرح لنا الفارابي ذلك بأنه قد "يُظن أن العقل تحصل فيه صور الأشياء عند مباشرة الحس للمحسوسات بلا توسط، وليس الأمر كذلك، بل بينهما وسائط، وهو أن الحس يباشر المحسوسات فتحصل صورها فيه، ويؤدّيها إلى الحس المشترك حتى تحصل فيه، فيؤدّي الحس المشترك تلك [الصور] إلى التخيل والتخيل إلى قوة التمييز ليعمل التمييز فيها تهذيباً وتنقيحاً ويؤدّيها منقحة إلى العقل. والعقل هو: هيئة ما في مادة معدة لأن تقبل رسوم المعقولات".

بالنسبة إلى الفارابي فإن العقل المادي (الهيولاني) أو عقل بالقوة، فإذا ما أدرك صور الأجسام في الخارج صار عقلاً بالفعل، أي أن حصول المعرفة الحسية في الإنسان مشروط بانتقال العقل من حال القوة إلى حال الفعل. وهذا الانتقال لا يكون بفعل الإنسان ذاته بل بتأثير عقل آخر هو دائم بالفعل، وهو أعلى من العقل الإنساني. وهذا هو "العقل الفعّال"، عقل فلك القمر الذي هو ذات ما جوهره عقل ما بالفعل ومفارق للمادة. حيث يعطي شيئاً ما بمنزلة الضوء الذي تعطيه الشمسُ البصرَ، إنه يدبر عالمنا الأسفل. وفوق العقل الفعّال يوجد عقل آخر، وعقل آخر فوقه أيضاً، وهكذا حتى الوصول إلى العقل الإلهي. وعندما يتصل عقل الإنسان بالعقل الفعّال، يصبح الإدراك الحسي مفهوماً عقلياً، وتكتسب النفس مزيداً من الفهم لمعنى الوجود.

إذا فوق المعرفة الحسية والمعرفة العقلية توجد معرفة نورانية، وأن صور الأشياء المعروفة من قِبل العقل الفعّال لا يمكن أن تصدر دون فيض منه، والنور بواسطة العقل الفعّال تتحرر فيه الصور من زخارف الوجود المادي، بحيث يمكن لأولئك الذين يدركون صور هذه الأشياء أن يتصلوا بالنور الإلهي، وهذا النوع من المعرفة هو للفلاسفة والأنبياء فقط. وهنا تختلط أفكار الفارابي حول المعرفة مع نظرية الوحي والصوفية في الإسلام، بالإضافة إلى فلسفة أفلاطون والأفلاطونية المحدثة، ولقد اشتق الفارابي، مثل معظم الفلاسفة المسلمين، أفكاره الفيضية من نظرية أفلوطين (205-270 م) في الانعكاس والفيض.  

ابن سينا

كان أبو علي الحسين بن سينا (370-428 ه/980-1037 م) تلميذ تصانيف الفارابي، الذي تميّز بتفرده في التوضيح والشرح والتشخيص الدقيق؛ وهذا ما جعل فلسفته تنتشر كالهشيم في النار بين الأمم. ولقد ظهر ابن سينا في الفترة التي بدأت فيها الإمبراطورية الإسلامية تفقد شيئاً من قوتها، وبدأ التعليم في أوروبا يصحو قليلاً. وبذلك أصبح ابن سينا أكثر أهمية في الجامعات الأوروبية منه في العالم الإسلامي. على سبيل المثال، كتابه "قانون الطب" الذي ترجمه جيرارد الكرموني (1114-1187) إلى اللاتينية، قد أثر على تدريس العلوم الطبية حتى القرن السادس عشر.

في كتاب "النجاة"، وغيره من الأعمال، أشار ابن سينا إلى ​​أن "مصدر المعرفة البشرية هو فيض العقل الفعّال، الذي من خلاله تأتي الأشياء من الله إلى الإنسان. إن جسم الإنسان وحواسه ليست أكثر من وسيلة لإعداد العقل البشري لقبول هذا الفيض". وفي هذه المرحلة، يتفق ابن سينا ​​مع الفارابي ويختلف مع أرسطو، قائلًا "إنه في حالة الحصول على المعرفة، فإن الدليل على حواسنا هو أمر ثانوي". وأكد ابن سينا، مثل الفارابي من قبله، أن المعرفة العقلانية تتوافق مع الجوهر الأبدي الذي لا يتغير، حيث توجد حقيقة خالدة بشكل مستقل عن وجود الأشخاص  "كصورة معقولة بالذات". ولمعرفة هذه الأمور، فإن الفيض يصدر من عقل الله إلى عقول الأفلاك، ثم إلى العقل البشري، الذي وحده يستطيع أن يتصور الأشياء على أنها كلية.

هذا وقسّم ابن سينا ​​المعرفة إلى ثلاثة أنواع: معرفة بالفطرة، ومعرفة بالفكرة، ومعرفة بالحدس.

أ- المعرفة بالفطرة. هي معرفة المبادئ الأولية، على سبيل المثال "الكل أعظم من الجزء"، وأن "الواحد نصف الاثنين"، وأن "الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية".. إلخ.

ب- المعرفة بالفكرة. إنها معرفة مكتسبة وتكون بإدراك المجردات المعقدة والكليات العامة والانتقاش بها، ويحتاج المرء فيها إلى مجهود أكبر من مجهود النوع الأول. ولا يدركها إلا من وصل إلى مرتبة العقل المستفاد.  

وهناك أربعة أنواع من هذه المعرفة:

1- الإدراك الحسي. الحواس السليمة تستخرج الصور من العالم المادي– الكمية والنوعية والوضع.. إلخ. وهذا الإدراك لا يجرد الصورة من المادة تماماً، لأنها تتطلب كائنا ماديا لتصور الشكل.

2- الإدراك الخيالي. وهو إدراك الخيال الواضح لصور الأشياء بطريقة أكثر تعقيداً من الإدراك الحسي. فإذا اختفت هذه المادة، تبقى الصورة ثابتةً في الخيال. على الرغم من أن الصورة مُستخرجة بالكامل من المادة، إلا أنه ما يزال لديها روابط قوية بالمادة.

3- الإدراك الوهمي. يتعامل الوهم مع أفكار الأشياء فقط، وليس الأشياء المادية على الإطلاق. ولذلك فهو أعلى من التجريد عن الخيال. ومع هذا من غير الممكن تخليص تجربة الصورة بشكل كامل من اللواحق المادية، لأنه ما يزال في الهيئة الجزئية، وتصنيف الصور تكون وفقا لتصور العالم المادي، وإن كان تصورا خادعا.

4- الإدراك العقلي. وهنا تكون صور تجريدات العقل من المادة كلياً. على سبيل المثال، فصّل الصورة العقلية أو الفكرة الأساسية عن "الإنسان" من كمية ونوعية وما إلى ذلك، حيث يمكن للعقل وحده أن يدرك المجردات بمعزل عن الأشياء المادية تماماً، مثل: الله والملائكة. وهذا الإدراك لا يمكن أن يكتمل ما لم ينره العقل الفعّال.

ج- المعرفة بالحدس. فمن الناس من لا يحتاج أن يتصل بالعقل الفعّال إلى عناء كبير وإلى تخريج وتعليم، بل تراه كأنه يعرف كل شيء بنفسه حدساً. ومثل هذا الاستعداد للحدس على أعلى مستوى لا يمكن لأحد أن يحققه إلا نبي. تدعى قوة الحدس لدى النبي "العقل القدسي" وهي أعلى سلطة للعقل البشري. ويمكن للناس عموما اكتساب المعرفة إما بالفطرة أو بالفكرة، أو كليهما. لكن القليل جداً مَنْ يكون علمه كله حدساً، وهؤلاء هم الأنبياء.

المزيد من آراء