Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

البعد السياسي للعنف في أزمة كورونا

ظهر الوباء بعدما أوشك النظام الاقتصادي العالمي على إكمال آخر حلقاته

هاجم رجل أشخاصاً عدة بسكين ما أسفر عن مقتل اثنين وإصابة آخرين وسط مدينة رومان سوريزير الفرنسية (أ.ف.ب)

ظهرت أحداث عنف عدّة في خضم تفشّي فيروس كورونا لجأ إلى ارتكابها أفراد للتنفيس عن سخطهم والتعبير عن إحباطهم. ويُلاحَظ أن معظم حالات العنف وإن تنوعت أهدافها ودوافعها، إلّا أنّها حملت بعداً سياسياً مرئياً ومبطناً مواكباً لتفاعلات الأحداث، وتمظهر العنف المرئي في استخدام القوة أو التهديد باستعمالها لتحقيق أهداف معينة. أما العنف المبطَّن، فجاء في شكل تلميحات باستخدام القوة، من الصعب إثباتها لأنها تعتمد على شرطية حدوث شيء أو توقعه. وفي الأحوال الطبيعية، نجد أن مرتكبي العنف إمّا الدولة ضد أفراد المجتمع أو الأفراد ضد بعضهم بعضاً لانعدام قنوات الاتصال ولغة مشتركة للحوار. أما السمات الحالية للعنف المصاحب لأحداث مكافحة كورونا، فانطوت على عنصرَيْه المادي والمعنوي لأنه اقترن بضرورة الاستيلاء على شيء نتيجة للتهديد بفقدانه، وفي كل الأحوال بما فيها هذه الظروف، لا يمكن تبرير العنف، ولكن يمكن تفكيكه وشرح أسباب تولّده وانفجاره.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

العنف الاقتصادي

ظهر فيروس كورونا بعدما أوشك النظام الاقتصادي العالمي على إكمال آخر حلقاته، وبدأت ملامح هذا النظام تتبلور منذ الثمانينيات وتحدّدت مكوناته في التسعينيات التي شملت إلى جانب الدول، المؤسسات الدولية والشركات متعدِّدة الجنسيات والتكتلات الاقتصادية العالمية وغيرها من الفاعلين والمؤثرين الدوليين، وطغت القضايا الاقتصادية على القضايا الأيديولوجية إلى حين تفجُّر نظرية صراع الحضارات التي خبا بريقها بعد ذلك، لتحلّ محلها المشاكل والقضايا الاقتصادية من جديد. بذلك، لم تكتمل إعادة هيكلة النظام الاقتصادي العالمي الجديد، وهي عملية كان من المفترض أن تشمل الدول النامية والدول المتقدمة، عدا الولايات المتحدة الأميركية، وقد كان من المؤمل أن تأتي هذه الهيكلة من خلال مجموعة من التغيرات الجذرية التي تُعدُّ قوى دافعة لقيام نظام اقتصادي عالمي جديد أكثر وضوحاً وعدالة.

وعلى الرغم من تفصيل النظام الاقتصادي بشكل أقرب للذي أرادته القوى الدولية الكبرى، إلّا أنّ ما يؤرق مضاجعها هو مظاهر الفقر المستشري في أجزاء أخرى من الكوكب. وللهروب من المسؤولية عن السياسات التي أسهمت في بقاء الدول الفقيرة على فقرها، بينما ازدادت الدول الغنية غنى، فإنها تقوم بين الحين والآخر بتقديم ما تجود به منظماتها من إعانات وإغاثات في الكوارث والأزمات على شكل قروض أو هبات متناثرة لهذه الدول.

إلّا أنّ هذا لم يستطع صرف أنظار العالم عن قضايا مصيرية مثل قضية التغيُّر المناخي وزيادة عدد سكان العالم وتكثيف الزراعة وتربية الحيوانات، وكلها تنطوي على صراع بين الطبيعة والبشر، تُحمَّل آثارها إلى الدول الصناعية الكبرى. وكشفت أزمة تفشي كورونا عن أن اهتمامات الكيانات الدولية في الشرق أو الغرب بقضايا البطالة والتضخم والخصخصة والاستثمار والتصدير وتحرير التجارة العالمية وأسواق المال، كانت في حدود مصلحتها الشخصية. ووفقاً لذلك، أنشأ الاضطراب الذي أحدثته تأثيرات هذا الفيروس حالة سُعار بدأت بقرصنة جوية وبحرية لتحويل مسارات المعدات الطبية عن وجهاتها الدولية، كما نشأت نزعة حادة نحو احتكار هذه الموارد والاستيلاء عليها.

العنف الاجتماعي

لم يقتصر تعداد الضحايا في ظل أزمة كورونا على الوباء وحده وإنما تصاعدت معدلات العنف ضد النساء في دول عدّة بالتزامن مع تطبيق سياسة الحجر المنزلي، على خلفية تفشّي كوفيد-19 في العالم، حسب تقرير أممي. ودعا ذلك الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إلى حثِّ الحكومات على اعتبار منع العنف ضد المرأة ومواجهته، جزءًا رئيساً من خطط الاستجابة الوطنية الخاصة بمكافحة كورونا، ما يعني زيادة الاستثمار في الخدمات عبر الإنترنت ومنظمات المجتمع المدني والتأكد من استمرار الأنظمة القضائية في ملاحقة المعتدين وإيجاد طرق آمنة للنساء لطلب الدعم، من دون تنبيه المعتدين إليهنّ.

في المقابل، تفجَّرت حوادث اعتداءات في أجزاء متفرقة من العالم، ربما قديمة المسببات ولكنَّها كشفت عن فوارق مجتمعية وتمييز في تقديم الرعاية الصحية، ومنها هجوم الشاب الذي قدَّم نفسه على أنه لاجئ سوداني على أشخاص عدّة في أماكن متفرقة في بلدية رومان سوريزير الفرنسية مستخدماً سكيناً، وتسبّبه في مقتل شخصين وإصابة أربعة آخرين. ففي معظم المقاربات التي تتعلَّق بالظلم الاجتماعي، يلجأ الأفراد إلى عاصمة النور باريس ودولتها، حاملة مشعل الحرية والعدل والمساواة، وذلك ليس بسبب الميثاق الأشهر الذي حملت شعلته فرنسا وأرسته، بأمر الحرية والديمقراطية عبر تعيين بعض أركان حكومتها من مهاجرين أفارقة، ولكن أيضاً بسبب هذه الحقوق المطبقة رسمياً والظلم الواقع على المجموعات الأقل حظاً من المهاجرين في الأحياء العشوائية في باريس.

واتجه سكان الضواحي الموجودة في معظم الدول الرأسمالية من الهامش إلى الظهور، بحثاً عن رعاية صحية من كورونا، ومفردة الضواحي المقرونة هنا بباريس تعكس إيحاء دالاً على العنف، وليس بعيداً من الأذهان الأحداث التي اندلعت شرارتها عام 2005 على إثر مقتل مراهقَيْن من أصول أفريقية، هما جزء من نسيج اجتماعي من أصول مهاجرة شكّلت تفاصيل حياتهما قصصاً مأسوية بدأت بالفشل الدراسي، مروراً بالبطالة وانتهت بالسقوط في براثن الجريمة. وخلفية هذه الضواحي الفرنسية الأكثر سوداوية، أنها بؤر للصراع أغلقت كقماقم على مشاكلها وعندما تحرّكت من تحت الرماد، انطلقت منها بقوة بواعث الانتقام عند مَن نشأوا وترعرعوا على تعقيداتها، مشرّبين بالظلم الاجتماعي.

وعندما أراد هؤلاء إقامة العدل بطريقتهم الخاصة رأوا أنّ تنفيذه لا بد من أن يتم بطريقة أكثر عنفاً، وما بين مبدأ المساواة الذي يُعدُّ ركيزة راسخة من ركائز قيم الثورة الفرنسية إلى جانب الإخاء والعدالة هناك، ومساعدة تلك الحوادث في تأليب الرأي العام ورفع الأصوات احتجاجاً بضرورة إنصاف المستوطنين غير الشرعيين وسكان الضواحي، يتفاقم جرم هذا الهجوم لأنه يأتي في ظروف استثنائية تشغل العالم كله، وليس ببعيد من ذلك التنميط الذي بُني على مواقف وسياسات سابقة وعداء لللاجئين والمهاجرين في ربط غيورغي باكوندي، مستشار رئيس الوزراء المجري بين فيروس كورونا والتخويف من اللاجئين في قوله ذلك بصراحة، ومثله اعتبر ماتيو سالفيني، زعيم المعارضة اليمينية المتطرفة في إيطاليا، أنّ المهاجرين يشكّلون تهديداً للبلاد باعتبارهم حاملين للفيروس، وانتقد الحكومة لإنقاذها عدداً من اللاجئين الأفارقة.

العنف الأيديولوجي

واستخرجت عمليات الإغلاق والحظر التي فرضتها مكافحة كورونا كوامن التحشيد العدواني من خلال تنشيط النزعات القومية والقبلية والعنصرية والأيديولوجية، وهي عملية المتابعة والتصدي لمحاولات أدلجة العنف ضد التنوّع والاختلاف عن طريق استعمال خطابات سياسية قديمة جديدة. وثمة علاقة بنيوية بين هذه النزعات والعنف، بأنّ أياً من هذه القضايا تنطوي على إمكانات عنف، لا تظهر إلّا إذا تبنتها قوة اجتماعية سياسية تستخدمها كواجهة لخوض معاركها وتحقيق أهدافها السياسية. وفي الواقع، لم توجد الأزمة هذه النزعات من العدم وإنّما استحضرتها من حمولات راسخة تضمر عنفاً نظرياً يظلُّ محتفظاً بتوهجه إلى حين، فما يحسه المتطرفون وسط أقليات مملوءة بغبن اجتماعي، لا ينفصل عن الغبن الناتج من استفزاز المشاعر بشكل عام. وهنا يخرج المفهوم القومي أو القبلي أو العنصري أو الأيديولوجي كعنف مرتبط بالسياسة من بين ثنايا هذا الواقع. أذكر أنَّه بعدما تم التعرف والقبض على المشتبه فيهما في تفجيرَيْ ماراثون بوسطن في الولايات المتحدة في أبريل (نيسان) 2013، وهما الشقيقان الشيشانيان المسلمان، كتب زيبيغنيو بريجنسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر مقالاً بعنوان "مواجهة التظلمات ضد أميركا"، مشيراً إلى أنّه يُفتقد نقاش الحقيقة البسيطة بأنّ وراء كل عمل إرهابي تكمن سابقة أو خلفية سياسية، فالحقيقة هي أن كل نشاط إرهابي تقريباً منشأه نزاع سياسي، وإذا كانت لا توجد أعذار لاعتداءات 11 سبتمبر (أيلول)، فهناك أسباب لها تكمن في السياسة الخارجية الأميركية.

الصراع من أجل البقاء

منذ الأسابيع الأولى لانتشار كورونا في الصين، بدأ التفكير في أن هذا الوباء سيحمِّل الإنسانية عبئاً ثقيلاً. وبعدما بدأ الانطلاق السريع في كل العالم، أدرك الجميع أن هذا الفيروس يحمل بذور الفناء، بعدها دبَّ الذعر والخوف على بقاء الأشخاص على قيد الحياة، ثم لو نجوا من الإصابة والموت، يبدأ الخوف من فقدان أجر العمل نتيجة للحظر ثم فقدان العمل بعينه، وبذلك أصبحت المعركة صراعاً من أجل البقاء في مرحلة زمنية فاصلة ومصيرية. ولأنّ الإنسان جُبِل على حبّ ذاته والصراع من أجلها، فقد تساوى البشر في كل العالم في التزاحم والتدافع على المحال التجارية، وزالت الفوارق بين إنسان متحضّر ومتخلِّف، شرقي أو غربي حسب التصنيف الغربي المبني على اختلاف الثقافات ووضع معايير مجحفة لها.   وعند حافة الموت رأينا حيرة الطواقم الطبية حين يُضطّرون للاختيار بين مريض وآخر لإنقاذه بسبب نقص المعدات الطبية.

كل مقوِّمات العنف هذه، أُعيد ترميزها في ظل تفشّي كورونا وظهرت من بين ثنايا الخطاب السياسي، ورأينا التبرير لعددٍ كبيرٍ من أعمال العنف أو المواقف غير الأخلاقية، ومقابلة العنف بعنف مضاد مُشرعن، تشخصُ أمام هذه المعاناة أعين العالم بوصفها جائحة مهدِّدة للحياة، ولكن ما ينشأ من عنف لا عقلاني، يسرّع بنتائج هذا التهديد.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل