Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خواطر عن 13 يونيو 1974 – الحلقة 5 (الأخيرة)

صورة إبراهيم الحمدي الرئيس السابق لليمن الذي اغتيل في عام 1978، في موقع احتجاج مناهض للحكومة أمام جامعة صنعاء في 10 مارس (آذار) 2011 في صنعاء (غيتي)

 شهدت فترة حكم الراحل إبراهيم الحمدي – رغم قصرها الشديد - استقرارا غير مسبوق وازدهارا اقتصاديا وتنمية محلية، والأهم من كل ذلك أن ارتفعت آمال الناس بحاضر آمن ومستقبل مزدهر، ولكن كل هذه الطموحات انتهت في 11 أكتوبر (تشرين أول) 1977 بمقتله مع أخيه عبدالله واختفاء عدد من مساعديه العسكريين الذين لا يعلم أحد حتى الآن مصيرهم بدقة.

في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر 1977 حضر إلى كلية الهندسة بجامعة القاهرة مندوب من السفير اليمني الأستاذ حسن السحولي يطلب مني التوجه فورا إلى المنزل، والواقع اني تصورت ان مكروها قد أصاب والدي رحمه الله، ولكن الأمر كان مختلفا فقد أبلغني أن برقية وصلت من صنعاء تبلغه بوفاة أكبر أفراد الأسرة ابن عمه نعمان عبدالقادر نعمان رحمه الله في عدن، حيث كان يعيش منذ خمسينيات القرن الماضي، وقال إنه قرر السفر لحضور الجنازة حيث ستنقل الجثة من عدن إلى تعز.

في مطار صنعاء كان في استقبال النعمان كل من الراحلين عبدالله حمران وزير الدولة لشؤون الوحدة وأحمد الرضي أمين عام رئاسة الجمهورية نيابة عن الراحل إبراهيم الحمدي، وأبلغاه أنه كان يرغب في الحضور بنفسه لولا أن وقت الوصول كان متأخرا جدا (الساعة الثالثة فجرا)، وكانت المفاجأة ان البرقية أرسلها شاب صغير من أفراد الأسرة (احمد فـؤاد احمد عبدالقادر نعمان) يعمل في القوات الجوية – وكان متواجدا في المطار مع المستقبلين -  قال إنه سمع بالخبر من عدن ولم يتأكد منه، لكنه بادر ليكسب السبق، وفي تلك اللحظة جرى اتصال إلى عدن فاتضح أن الخبر غير صحيح.

في صباح اليوم التالي لوصولنا صنعاء، جاء إبراهيم الحمدي إلـي منزل كعادته عند كل زيارة سابقة قام بها الوالد إلى صنعاء، وكان لقاء لم يحضره غيرهما، الا ان الوالد أخبرني بعدها أنه قرر النزول إلى تعز لزيارة أخته الكبرى وابن عمه الشيخ امين عبدالواسع نعمان رحمهما الله.

في عصر اليوم نفسه ذهب النعمان بمفرده إلى منزل الحمدي عصرا وبقي هناك وقتا قصيرا، وأبلغه الحمدي عن نيته التوجه إلى عدن لحضور احتفالات 14 أكتوبر، وأنه سيعود  بعدها إلى تعز على أن يعودا بعدها سوية إلى صنعاء.. وبعد عودة الوالد إلى المنزل طلب لقاء الأخ محمد الحمدي (الأخ الأكبر لابراهيم)، وعند وصوله إلى المنزل أبلغه بضرورة أن يحرص "الرئيس" في حديثه وألا يندفع في الإعراب عن مواقف سياسية قد تجلب عليه المصاعب والأحقاد، وأذكر أنه قال لمحمد (أبلغ إبراهيم أن ما يقوله في المقيل ليس سرا يمكن كتمانه وأن عليه التحفظ والانتباه والحذر من المقربين).

في مساء 11 أكتوبر 1977 حضر إلى منزل العم امين عبدالواسع نعمان بتعز ضابط من الأسرة (عبدالعزيز علي محمد نعمان)، وكان حينها يعمل في الأمن الوطني وطلب لقاء الوالد.. وكانت الصاعقة: مقتل إبراهيم وعبد الله الحمدي في حادثة لم تعرف تفاصيلها حتى تلك اللحظة، وأضاف أن أحمد الغشمي تولى مهام الرئاسة.. وبعد فترة قصيرة من الصمت والوجوم والحزن الشديد طلب الوالد من إدارة المواصلات في تعز أنه يرغب في الحديث إلى (الرئيس)، وحين تمت المكالمة كان المتحدث من صنعاء هو محمد خميس رئيس الأمن الوطني الذي اعتذر بأن "الرئيس" منشغل، وأكد المعلومات، وأن البحث عن القتلة وملاحقتهم مازال مستمرا.

مر الوقت ثقيلا وإذ بمكالمة من "الرئيس" يبلغ فيها الوالد بمقتل إبراهيم، وان الجناة فروا، وأنهم مازالوا يبحثون عن تفاصيل الحادثة، وقال (اليمن باق والشعب باق والأستاذ باق.. جئت لتدفن ابن عمك فدفنتنا جميعا)، وطلب النعمان منه إبلاغه بموعد الدفن لكي يحضره، وانتهت المكالمة.. وفي صباح اليوم التالي ذهب الوالد إلى قيادة محافظة تعز (العسكرية) ولم يكن حينها يعرف من هو القائد، إلا أنهم أبلغوه في البوابة بأنه غير موجود في تعز وسيعود خلال أيام، وكانت الزيارة طبيعية في ذلك الوقت لأن قادة المناطق العسكرية يكونون أدرى بالمعلومات من المدنيين.. كان القائد هو الرئيس (بعد أقل من عام واحد – يوليو (تموز) 1978) علي عبدالله صالح.

اتصل الوالد بالراحل الأستاذ عبدالعزيز عبدالغني (كان حينها رئيسا لمجلس الوزراء) الذي أبلغه بموعد الجنازة، فقرر السفر برا إلى صنعاء مع الأخ العميد عبدالكريم عبد الإله، وحين اقتربنا من منطقة يريم تذكر النعمان ما حدث له فيها مع الأحرار الذين قدموا من عدن بعد الإعلان عن مقتل الإمام يحي  في شهر فبراير (شباط) 1948، حيث هبت القبائل واعتقلتهم وأرسلوا إلى حجة وهم مقيدون من أيديهم وأرجلهم في رحلة استغرقت أياما في جو شديد البرودة، وفي تلك اللحظة قرر أنه لن يبقـى في صنعاء بعد الدفن لشعوره بالضيق والقلق وربما الخوف أيضا.

وصلنا إلى صنعاء وذهبنا مباشرة إلى "العرضي" حيث ستبدأ مراسم الدفن التي أصر على حضورها الرئيس اليمني الجنوبي الراحل سالم ربيع علي (سالمين)، وكانت خلالها الجماهير الغاضبة الحزينة والمصدومة توجه الشتائم للغشمي وتتهمه بالوقوف وراء مقتل الحمدي، وبعد الانتهاء من الدفن عدنا إلى المنزل، وكان قريبا من القصر الجمهوري.

في مساء اليوم التالي ذهب النعمان - سيرا على الأقدام – إلى مقر سكن رئيس الحكومة الذي لم يكن بعيدا عن منزلنا، وجلس على مكتبه، وكانت فاجعته اذ رأى مشروع بيان باسم الرئاسة عن ملابسات مقتل الحمدي وأخيه، وكانت فيه عبارات تعمدت تشويه سمعتهما، وتفاصيل كاذبة عن طريقة ومكان مقتلهما.. لم يحتمل النعمان الأمر فطلب أن يلتقي عبدالعزيز عبد الغني على انفراد، وقال له إن هذا البيان لا يسئ للحمدي وإنما هو إساءة في حق اليمن شعبا وقيادة ولا يمكن إذاعته.

لم يكن أحد يجرؤ علـى تقديم أي نصيحة للغشمي، والكل يخشى من بطشه وانتقامه، فاتصل به النعمان وطلب لقاءه على الفور، وهو ما حدث في مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة، والتقيا على انفراد.. قال النعمان للغشمي إن البيان بصيغته لا يمكن إذاعته، لكن الأخير انفعل وقال إنه رد على الذين أمطروه بالشتائم والاتهامات خلال الجنازة، وحدث جدل بين الاثنين انتهى بقول النعمان (أنت الآن رئيس الدولة، ولا يجوز لك أن تنتقم من الناس).. اقتنع الغشمي وقبل تعديل البيان وتمت إذاعته بالصيغة التي اقترحها النعمان.

في مساء اليوم التالي جاء إلى المنزل المقدم عبدالله عبدالعالم قائد قوات المظلات – كان من أقرب القادة العسكريين للحمدي وأكثرهم ولاء له - وبث للنعمان مخاوفه من أن يلقى مصير الحمدي ورفاقه، وبات واضحا استسلامه للمخاوف والشكوك.. وبالفعل اتصل النعمان بالغشمي  - بحضور عبد العالم -  وأبلغه بما سمع، فكان رد "الرئيس" ان (على عبدالله أن يبقى في معسكره وألا يقلق علـى نفسه طالما لزم الهدوء)..  وبعدها بساعات غادر النعمان اليمن وفي قلبه غصة على غياب إبراهيم – كما كان يدعوه دائما – ورفض كل دعوات العودة ولم يقبل إلا الزيارة لأيام قليلة بصحبة رفيق عمره الرئيس الراحل القاضي عبدالرحمن الإرياني لحضور احتفالات اليوبيل الفضي لثورة 26 سبتمبر 1962.

كان مقتل إبراهيم الحمدي الذي أحبه اليمنيون نهاية حلم جميل عاشوا فيه لثلاث سنوات مع رئيس شاب منفتح على العصر، يحمل مشروع دولة مؤسسات تقدم المواطنة المتساوية على الانتماء المناطقي والمذهبي، وقادته بساطته وثقته الشديدة بالنفس إلى أن منح الثقة من لا يستحقها، وكانت نهايته المأساوية إغلاقا لفصل سيطول الزمن قبل أن يمر مثله على اليمن، ولربما يقول البعض إنه كان يحمل توجهات لحكم فردي، وهو أمر قد يكون جدليا، وليس فيه إساءة له، إذ كان همه الوحيد وشغله الشاغل مشروع دولة حقيقية عادلة مزدهرة وقوية.

المزيد من آراء