Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غروب وشروق ما قبل الجائحة وما بعدها

أممية جديد تولد من رحم كورونا... عولمة قديمة تصارع الأقدار

مشهد لم يحدث تاريخيا بعد توقف أجزاء واسعة من الحياة الإجتماعية بسبب فيروس كورونا المستجد (غيتي)

مع اشتداد الأزمة حول العالم، بات الجميع شرقا وغربا يتساءل: هل نحن أمام إعادة تشكيل العالم، وولادة نظام مغاير لما عرفته البشرية على كافة الأصعدة، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية؟

 الشاهد أن الكثير من الأصوات التي بشرت قبل عقدين من الزمن بأوان العولمة، لاسيما الكاتب الأميركي توماس فريدمان، فهو من رسخ في الأذهان فكرة تحول الBC وAC الرمزان الشهيران اللذان كان يشيران إلى العالم قبل مولد السيد المسيح وبعده، إلى ما قبل وما بعد انتشار فيروس كورونا.

 ماهي أهم ملامح ومعالم العالم القادم، وإلى أين يمضي، هذا ما نحاول تتبعه في هذه السطور.

أزمة تاريخية للمجتمع الحديث

صدم العالم من جراء هجوم فيروس لا يرى إلا من خلال الميكروسكوبات المعظمة، وتساءل الجميع: كيف لهذا الكائن غير المرئي أن يجبر الانسانية بحداثتها وعلومها، بترساناتها العسكرية الرهيبة، على البقاء وراء الجدران خائفة مذعورة طالبة النجاة؟

أفضل من قدم جوابا عن هذا السؤال عالم الاجتماع الألماني "هارتموت روزا" في تصريحات له لوكالة الأنباء الألمانية قال فيها "نحن في مواجهة مشهد لم يحدث تاريخيا، بعد توقف أجزاء واسعة من الحياة الإجتماعية بسبب فيروس كورونا المستجد، الأمر الذي يكشف حدود المجتمع الحديث".

تصريحات "روزا" مزعجة حقا، لاسيما حين يقرر "إننا نسعى للحفاظ على السيطرة، وندرك حاليا أننا نصطدم خلال ذلك بالحدود، وتشوبنا حالة من عدم اليقين، على نحو سيء للغاية".

لكن الوجه الآخر من علّة كورونا، وأزمتها، أن ذلك التباطؤ المتفاقم للحياة، قدم لنا إمكانيات للتواصل مع الذات ومع الآخرين، ومع العالم بشكل مختلف مرة أخرى، وأوضح أن هناك أمثلة حالية لذلك تتمثل في تقديم مساعدات بين الجيران، عزف الموسيقى في شرفات المنازل على الرغم من الحجر الصحي والعزلة.

حديث عالم الإجتماع الألماني هذا يدعونا للتفكير المعمق، لاسيما في وقت العزلة الجبرية، في شكل حياتنا المعاصرة وأنماطها، ما بين التمحور حول الذات، والنرجسية غير المستنيرة، وما بين الاستهلاك النهم للسلع والمنتجات، والسمو بالروح وإظهار التضامن الإنساني، وفي الوقت ذاته، أعطت تلك العزلة علماء السياسة والاجتماع، فرصة ذهبية، لإعادة قراءة معالم وملامح مابعد كورونا، من آسيا المتألمة، إلى أوروبا شبه المنهارة، وصولا إلى الإمبراطورية الأميركية وما يعتريها.         

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

              

عن مستقبل الصين أول الأمر

لتكن البداية من الصين، المنشأ الظاهر لفيروس كورونا حتى الساعة، وبعيدا عن كافة السيناريوهات ذات الأبعاد المؤامراتية التاريخية...

لايغيب عن الأذهان أن الصين هي القطب القادم لا محالة، في مواجهة الولايات المتحدة الأميركية، القطب القائم باقتدار... هنا يكون السؤال الأولي: إلى أي حد تأثرت خطط الصين القطبية وغير الظاهرة للعيان بما جرى على أراضيها من انتشار لكورونا، ومنها إلى بقية العالم؟

تحتاج جزئية الصين إلى دراسة قائمة بذاتها، لكنا هنا نحاول الاختصار، ونستشهد بما أشار إليه "روبين نيبلت" الخبير البريطاني في العلاقات الدولية، والمدير السابق لمعهد "تشاتام هاوس"، من أنه وجدت بالفعل إرادة دولية غربية تتزعمها الولايات المتحدة الأميركية، وبإجماع الحزبين الجمهوري والديمقراطي، على وقف النمو الصيني المتقدم، وفصل الصين عن التكنولوجيا العالية والملكية الفكرية التي تمتلكها الولايات المتحدة، ومحاولة إجبار الحلفاء على أن تحذو حذوها.

أخذ الناس على الصين أنها تأخرت طويلا في إطلاق جرس الإنذار، حول العالم لتنذر وتحذر مما جرى على أراضيها من تفشي للفيروس، الأمر الذي سيؤدي ولاشك لمراجعة العالم لفكرة مقدرة الصين على القيادة والريادة الدولية، واعتبارها البديل للولايات المتحدة الأميركية التي لاتزال تتسنم قمة العالم حتى الآن.

يكتب فلاديمير سكوسيريف المحلل السياس الروسي الشهير في صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية عن تبخر أحلام الصين في أن تتصدر إقتصادات العالم فيقول "لقد أدى الوباء الذي نشأ في الصين إلى إضعاف نفوذها الدولي، ومع أن من السابق لأوانه القول كيف سيتغير العالم، إلا أن الفيروس كشف عن عيوب في مبادرة "حزام واحد ـ طريق  واحد"، والتي تهدف إلى إنشاء بنية أساسية تقليدية ورقمية حول العالم.

الأمر نفسه أكدته "وكالة الأنباء الفرنسية" في تقرير لها بتاريخ 28 شباط (فبراير) الماضي، حين أشارت إلى البنى التحتية الطموحة التي باشرتها الصين في إطار خطة "طريق الحرير الجديدة"، متوقفة الآن أو متباطئة جدا في جميع أنحاء آسيا، من مشروع جزر اططناعية في سيرلانكا، إلى إقامة جسر في بنغلاديش، مرورا بمشاريع الطاقة الكهرومائية في أندونيسيا.

لقد بات مؤكدا أن انتشار فيروس كورونا، ورغم محاولات الصين إظهار غير ذلك، قد شل الإقتصاد الصيني، نتيجة عزل عشرات الملايين من السكان، في حين فرضت عشرات الدول قيودا على الوافدين منها، وانسحاب مستثمرين من أراضيها، وفي كل الأحوال هذه بداية المخاض للتنين الصيني.

الولايات المتحدة والاختبار الصعب

على الجانب الآخر من الأطلسي تتابع دول العالم ما يجري على الأراضي الأميركية، والمتخصصون يتساءلون بقلق: هل كورونا هي نهاية عصر الهيمنة الأميركية أم أنها عقبة ستتجاوزها "الأمبراطورية المنفلتة"، والتعبيرهنا للمورخ الأميركي الشهير بول كيندي؟

قد يكون من المبكر حسم المشهد الأميركي في الوقت الحالي وإن كانت علامات الاستفهام المتقدمة مرتبطة جذريا بتساؤلات سابقة عن المقدرة الأميركبة على تحقيق حلم "القرن الأميركي للمحافظين الجدد"، الذي تبلور في نهاية تسعينات القرن الماضي، وفيه كانت واشنطن تتطلع لأن تضحى سيدة العالم بلا منازع طوال القرن الحادي والعشرين.

لا تزال الولايات المتحدة، رغم انتشار كورونا بشكل مخيف ثابتة في المواجهة، وناجحة في التدابير المالية لإستنقاذ المؤسسات والأفراد من الآثار والتبعات الإقتصادية للأزمة، عطفا على ذلك تبقى الريادة العلمية الأمريكية قائمة وقادمة، ومعامل الأبحاث تسارع الزمن، من أجل تخليق الأمصال وإيجاد الأدوية لعلاج المصابين.

تبدت أميركا في صورتها الإيجابية في وقت الجائحة، من خلال الترفع عن المنافسة الحزبية، فعلى الرغم مما شهدته البلاد من معارك ضارية بين الرئيس ترمب، والديمقراطيين في الأشهر الماضية، إلا أن الجميع سارع لإجراءات موحدة للنجأة بالبلاد، إجراءات مالية وصحية واجتماعية.

لكن علامات استفهام واستنتاجات أولية أستشرفها عدد من الأمريكيين الثقات، مفكرين وباحثين وكتّاب وردت آرائهم عبر مجلة "الفورين بوليسي" الشهيرة الأيام الماضية، آراء ساءلت عن حال ومآل القطبية الأميركية، والنموذج الأمريكي المعولم في قادم الأيام.

في مقدمة الآراء الرصينة، نجد البرفيسور "ستيفن. م. والت" أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد، والمنتمي إلى المدرسة الواقعية في العلاقات الدولية.

الرؤية الإجمالية عند "والت"، تذهب إلى أن فيروس كورونا وما جرى من حوله، سيسارع في تحول القوة والنفوذ من الغرب إلى الشرق، فقد استجابت كوريا الجنوبية وسنغافورة بشكل أفضل، وتصرفت الصين بشكل جيد بعد تدارك أخطائها المبكرة، مقارنة مع استجابة أوروبا وأميركا البطيئة والعشوائية ـ حسب تعبيره ـ مما زاد من تشويه معالم الغرب المتقدم.

لكن ماذا عن الصراع الأمريكي ـ الصيني على وجه خاص؟

يقدم لنا البروفيسور "كيشور محبوباني" السنغافوري الأصل والذي شغل منصب وزير خارجية بلاده، عطفا على كونه أحد مفكري آسيا المعاصرين، رؤية باختصار، مفادها أن لدى أمريكا خياران، إذا كان هدفها الأساسي هو الحفاظ على التفوق العالمي، فسيلزم عليها المشاركة في منافسة جيوسياسية محصلتها صفر سياسيا وإقتصاديا مع الصين.

ومع ذلك، إذا كان هدف الولايات المتحدة هو تحسين رفاهية الشعب الأمريكي ـ الذي تدهورت حالته الإجتماعية ـ فعليها أن تتعاون مع الصين، لكن نظرا للبيئة السياسية الأميركية السامة تجاه الصين، قد لايفلح ذلك.

أظهر فيروس كورونا أن الاسترتيجيات العسكرية غير قادرة على درء مخاطر غير مرئية في الوقت الراهن، ناهيك عما يستجد من نوازل في المستقبل القريب والمتوسط المدى.

هنا يرتفع صوت البرفيسور "جوزيف س. ناي الابن" أستاذ العلوم السياسية والعميد السابق لمدرسة جون كيندي الحكومية في جامعة هارفارد، وصاحب رؤية "القوة الناعمة"، بالدعوة إلى استراتيجية أميركية جديدة، للحفاظ على القوة الأميركية عند المستوى الذي أدركته على مشارف الألفية الثالثة.

جزئية أخرى لا تقل أهمية يلفت إليها الانتباه البروفيسور "ناي" ذلك إنه ولو بقيت أميركا قوة عظمى، فإنها لا تستطيع حماية أمنها من خلال التصرف بمفردها.

على أن الدرس الأكبر الذي تركه كورونا في الداخل الأميركي موصول بفكرة "المخاطر المعولمة" إن جاز التعبير، ذلك أنه إن كانت تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين عالمية في توزيعها فإن عواقبها أيضا ستضحى كذلك، فمسببات الأمراض وأنظمة الذكاء الإصطناعي، وفيروسات الكمبيوتر، والإشعاعات التي قد يطلقها الآخرون بالخطأ، ستضحى مشكلة الأميركيين بقدر ما ستكون مشكلة الآخرين.

بعض الآراء عن أميركا تذهب إلى جهة أكثر سوداوية، من عينة  آراء "كوري شاك" نائب المدير العام للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، والمسؤولة الأميركية السابقة في وزارتي الدفاع والخارجية الأميركيتين.

"شاك" تقطع ـ في تجاوز واضح ـ أن الولايات المتحدة لن ينظر لها بعد الآن على أنها قائدة دولية بسبب المصلحة الذاتية الضيقة لحكومتها وعدم كفاءتها.

ترى "شاك" أنه كان من الممكن تخفيف الآثار العالمية لهذا الوباء إلى حد كبي، من خلال قيام المنظمات الدولية بتقديم المزيد والمزيد من المعلومات السابقة، الأمر الذي كان سيعطي الحكومات الوقت لإعداد وتوجيه الموارد إلى حيث تشتد الحاجة إليها، وهذا شيء كان يمكن للولايات المتحدة تنظيمه، ولهذا فإن واشنطن فشلت في اختبار القيادة، وبات العالم أسوأ حالا.

التساؤل الأخير في موجز الوضع الأميركي: ما أثر كورونا على مصير الانتخابات الرئاسية الأميركية في نوفمبر 2020؟

يرى الكاتب الأميركي "تيم جونز" في مقال له عبر موقع "أميركان ثينكر" أن كورونا سيعزز من حملة ترمب الانتخابية رغم انتقاد الإعلام السائد واليسار، للرئيس واتهامه بالتقصير في وقف انتشار الفيروس.

على جانب آخر ستكون أزمة كورونا مدمرة لجو بايدن، حين سينافس ترمب على المسائل الهامة مثل أمن الحدود، والصحة والوظائف، وبكل بساطة، لن يتمكن بايدن من تقديم رسالة متجانسة وذات صدقية لمواجهة شعار ترمب الناجح بوضع أميركا أولا.

أوروبا الموحدة... انفجار الشعبويات

ما بين أقصى الشرق الآسيوي، والغرب الأمبركي، لا يوفر المرء التوقف أمام أوروبا القارة العجوز، والتي باتت بؤرة لكورونا، بعد أن تعافت الصين إلى حد كبير.

أسئلة عديدة تتقاطع مع المشهد الأوروبي في المقدمة منها هيكلية الاتحاد الأوربي وهل سينجو من النهاية المحتومة ، بعد أن عجز عن أن يمثل جدار صد ورد للمخاطر المحدقة بالأوروبيين.

أظهرت الأزمة أن القوميات كامنة تحت الجلد الأوروبي، فقد أغلقت الدول الأوروبية حدودها في وجه بعضها، على عكس ما تقتضيه قواعد الشنغن، ثم قصرت الآليات الصحية في تقديم يد العون من دولة لأخرى، وما جرى في إيطاليا كان وسيظل وصمة عار للأوروبيين عامة، إلى الدرجة التي دعت  الكثير من الإيطاليين لإنزال العلم الخاص بالإتحاد الأوروبي، ورفع علم الصين محله، فقد سارعت الأخيرة لتقديم يد العون وأرسلت طواقهما الطبية، في حين أغلق الألمان أبواب  الرحمة.

يحدثنا البروفيسور "جون إكنبري" منظر العلاقات الدولية الأميركية الخارجية، وأستاذ السياسة والعلاقات الدولية في جامعة برنستون الأميركية، بأنه على المدى القصير، ستعطي الأزمة وقودا لمختلف المعسكرات الغربية لمراجعة  استراتيجياتها، فسيجد القوميون ومناهضي العولمة والصقور الصينيون وحتى الأمميون الليبراليون، أدلة جديدة لدعم وجهات نظرهم.

حكما سيجد اليمين الأوروبي المتشدد والمتطرف معا في ألمانيا، وبريطانيا، وفرنسا، والمجر، وإيطاليا، وأسبانيا، أكبر فرصة للإنقضاض على فكرة الإتحاد الأوروبي، فقد أخفق بشكل ذريع في الحفاظ على حياة الأوروبيين أنفسهم، ومن هنا  بات السؤال  المصيري: أي شيء يهم لاحقا، وما  جدوى اتفاقيات على أوراق، وبرلمان أوروبي، لا تساوي قرارته ثمن الحبر المسال على الأوراق؟

أوروبا وبالنظر إلى الضرر الاقتصادي والإنهيار الإجتماعي، الذي سيتكشف عما قريب، وبعد النجاة من الأزمة الأكثر هولا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، سيكون من الصعوبة عليها وعلى شعوبها بمكان رؤية شيء آخر غير التحرك نحو المزيد من الإغراق في عالم الشوفينيات والعصبيات، والخوف من ردة أوروبية، ضد مسار التنوير الإنساني، إذ ستفتح كورونا طاقة واسعة  للفاشيين والنازيين ومن لف لفهم.

الحلم الأوراسي هل يتحقق قريبا؟

طرحت أزمة كورونا علامة استفهام جذرية حول تغير وتبدل جيوبولتيك العالم، لا سيما القطاع الأوربي والآسيوي.

كان مشهد الطائرات الروسية التي تحط على الأراضي الإيطالية حاملة طواقم الأطباء، وأطنان المساعدات الطبية مدعاة  للتأمل والتساؤل: كيف للروس أن يقدموا على مثل هذا الصنيع المثير للعجب، والذي تقدم عليه القيادة الروسية رغم العقوبات التي تشارك فيها إيطاليا ضمن الدول الأوروبية تجاه موسكو؟

المشهد الآخر كان للرئيس الصربي "الكسندر فوتشيتش"، والذي كاد أن يبكي حين أشار إلى خذلان أوروبا لبلاده، في مقابل الموقف الصيني الإنساني، الذي لم يتأخر لإستنقاذ الصرب.

إيطاليا واسبانيا وفرنسا وغيرها من الدول الأوروبية الكبرى، وجدت في روسيا والصين دولا منقذة لها من وهدة الهلاك هذه، وعليه يتذكر الجميع الآن، النداء والطرح الجيوسياسي الذي تحدث عنه رئيس فرنسا وجنرالها الأشهر شارل ديجول، أوراسيا، أي التعاون الإنساني عبر رقعة جغرافية تمتد من المحيط الأطلسي غرب أوروبا، إلى  جبال الأورال شرق آسيا.

انتكاسة الأوروبيين من إتحادهم سوف تشعل في عقولهم جذوة الحديث عن القارة "الأوراسية"، مهد الثقافة والحضارة الإنسانية، التي أعطت ولادة إلى مختلف الأشكال الإجتماعية والروحية والسياسية التي تشكل الجوهر الرئيس من التاريخ البشري.

أوراسيا هي ثنائي القطب، تمتلك أوروبا وآسيا، من الشرق إلى الغرب، إنها تاريخ للحوار البشري، ولجدلية الطاقة والتكنولوجيا، إنها قيم التبادل بين هذه القطبين اللذين يستمران معا منذ أكثر من ألف سنة، سلما وحربا.

في هذا السياق يرى "الكسندر دوغين"، المفكر والفيلسوف الروسي، عقل بوتين النابض، أن أوراسيا أو أوروبا الكبرى، هي مشروع جغرافي للعالم متعدد الأقطاب في المستقبل، طرح لابد منه في زمن القطب الأميركي الواحد، وعنده أن البديل  الوحيد الممكن في الظروف الحالية، هو العثور على  كيان وحالة متعددة الأقطاب.

نجح الآسيويون في اختبار علاقتهم مع أوروبا،  وهنا فإن بعدا جديدا سوف يتخلق في الأذهان الأوروبية عن الصديق ومن هو، والعدو وكيف يتم الاستعداد لملاقاته.

الناتو والتوازنات الجيوسياسية الجديدة

حتى شهر ديسمبر (كانون أول) الماضي كاد العالم يظن أن حلف الناتو قد تعرض لموت سريري من جراء الاضطراب الذي ساد العلاقة بين جانبي الأطلسي، الولايات المتحدة الأميركية، والقارة الأوروبية، لا سيما بعد مجيء الرئيس ترمب إلى سدة الحكم.

لكن مؤتمر الناتو الذي عقد في لندن خلال الأيام الأخيرة من العام الماضي، أعطى قبلة الحياة للحلف الذي لعب دورا حيويا بل واستراتيجيا على الصعيد الدولي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وحتى سقوط الاتحاد السوفياتي أوائل تسعينات القرن المنصرم، فقد أقنع ترمب الأوروبيين بأن الخطر الحقيقي المحدق بهم، يتمثل في الصين وروسيا.

هل يمكن للقناعات الأوربية أن تتغير بعدما رأت الولايات المتحدة منكفئة إلى الداخل على إشكالياتها، وغير عائبة بالأوروبيين في محنتهم، في حين سارع  الروس والصينيين لتقديم الغوث في الوقت القيّم، كما يعلمنا علم النفس؟

قبل أشهر قليلة كانت الجمهورية الفرنسية، عقل أوروبا السياسي تعتبر أنه قد حان الوقت للتهدئة مع روسيا، جرى ذلك في ختام المحادثات الوزارية رفيعة المستوى في موسكو، والتي شارك فيها وزير خارجية فرنسا "جان ايف لودريان"، ووزيرة الدفاع الفرنسية "فلورنس بارلي" إلى جانب نظيريهما الروسيين.

هل كان الأمر يتعلق فقط بالتهدئة، لا سيما في ظل العقوبات الأوروبية الموقعة على روسيا منذ أزمة أوكرانيا  أم أن الأمر أعمق من ذلك بكثير؟

حين تهدأ عاصفة كورونا، حتما سيجد الأوروبيون على مائدة الأفكار ما يستدعي طرحا جيوسياسا مغايرا لما عرفه العالم منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة، وحتى لو لم يكن المشهد واضحا بالمطلق الآن، الإ أنه وبحال من الأحوال  ستتبلور ملامح مغايرة لعالم الناتو، الذي أوهنته الكورونا.

اقتصاد ما بعد "بريتوون وودز"

من الأول إلى الثاني والعشرين من تموز (يوليو) عام 1944 اجتمع  في ولاية نيوهامبشر الأميركية  وفود لأربعة وأربعين دولة، من أجل وضع  خطط استقرارالنظام العالمي ماليا، ما عرف بـ "اتفاقية بريتوون وودز".

منذ ذلك التاريخ وحتى الساعة لا تزال منطلقات هذه الإتفاقية هي من يحكم مسارات ومساقات العالم الإقتصادية والمالية، فهل جاء فيروس كورونا لينهي مرحلة اقتصادية عالمية ولتبدأ من بعده حقبة مالية جديدة بأفكار ورؤى مختلفة بالمطلق؟

عند البروفيسور "آدم تورز" أستاذ التاريخ، ومدير المعهد الأوروبي في جامعة كولومبيا الأميركية، أن العالم الآن في حاجة ماسة إلى شبكة أمان محلية لتفادي الإفلاسات والأضرار المالية طويلة المدى، أكثر من الحاجة إلى حزم التحفيز المالية، التي تبادر إليها دول مختلفة حول العالم.

يرى "توز" أنه قد يكون من المبكر توقع انكماش اقتصادي بسبب فيروس كورونا، لكن الركود حتمي، فقد كان قطاع التصنيع الدولي مهتزا في 2019، واليوم تغلق أكبر اقتصادات العالم عمدا طوال أشهرعدة، من خلال إغلاق المصانع والمتاجر والمؤسسات التعليمية والمطاعم أبوابها.

نظام "بريتون وودز"، عرضة للإنهيار، بنوع خاص إذا انتشرت حرب الأسعار، وساعتها قد يشهد العالم حلقة مدمرة من تدهور قيمة ضمانات القروض، ما يعرض جزءا ضخما من ديون الشركات، والتي تساوي ضعفي ما كانت عليه في 2008 إلى الخطر.

ليس سرا أن "بريتوون وودز"، والاقتصاد العالمي مرتبط ارتباطا جذريا بالعملة الأميركية الدولار، ولهذا ربما تتصاعد المخاوف من تأثير كورونا في الداخل الأميركي حال تفاقمت الأزمة وأثّرت على العملة الأميركية، وهي حجر الزاوية  في النظام المالي العالمي، ولهذا السبب كانت أبرز خطوة للتعاون المالي الجديد الأيام الماضية، متمثلة في إعلان خطوط مقايضة السيولة بين البنوك المركزية البارزة، الإحتياطي الفيدرالي الأميركي، بنك اليابان، بنك إنجلترا، بنك كندا، البنك المركزي الأوروبي، البنك الوطني السويسري.

هنا السؤال: ماذا عن باقي بنوك دول العالم المركزية؟

 الجواب يدفع إلى الحاجة الحقيقية لوعاء اقتصادي مالي عالمي مغاير، لا سيما إذا أخذنا في عين الاعتبار إرهاصات نظام مالي عالمي تبدت بعض معالمه وملامحه منذ وقت تأسيس دول البريكس، الصين، الهند، البرازيل، جنوب إفريقيا، وروسيا  قبل بضعة أعوام.

ولعل الحقيقة المؤلمة، هي أن الانهيار الإقتصادي يكاد يكون متواريا، خلف الباب، ف"كروونا"، يحمل التاثير الإقتصادي ضمن تركيبه الجيني، فأينما حل سوف تظهر أعراضه الإقتصادية.

ما بعد "بريتوون وودز"، لابد وأن يكون اقتصاد بطعم ومذاق التضامن الإنساني، فقد انتهى زمن النرجسية غير المستنيرة ماليا، وعلى غير المصدق أن يراجع أحوال الولايات المتحدة الأميركية ذاتها، والتي كانت ترى نفسها بعيدة عن التأثر حاليا. واشنطن سوف تجد ـ على سبيل المثال وليس الحصر - رقبتها تحت سيف التأثير خلال الموسم الزراعي القادم، فقد وضعت عدة خطط لتصدير المزيد من المنتجات الزراعية والسلع إلى الصين، كما أبرمت عدة اتفاقات لتصدير مصادر الطاقة الأميركية إلى الصين، كل ذلك سوف يتأثر بضعف تعافي السوق الإستهلاكي الصيني.

ترى "كريستينا جورجييفا"، رئيسة صندوق النقد، أن انتشار للوباء بصورة أكثر ثباتا وسرعة، يعني عواقب وخيمة للإقتصاد العالمي، وعليه فإن مصير العالم في الأيام القادمة، لن يكون في يد رجال الإقتصاد، بل في يد علماء الوبائيات، وأن السياسات الوحيدة التي تهم حقا، هي سياسات التصدي لانتشار فيروس كورونا، لا سياسات الإنقاذ الإقتصادي.

السؤال الأكثر شيوعا: هل هذه نهاية العولمة وبداية تاريخ إنساني جديد؟

عولمة كونية... قرية أم حارة؟

في ستينات القرن الماضي تنبأ عالم الإجتماع الكندي الشهير "مارشال مالكوهان" بأن الكرة الأرضية سوف تضحى عما قريب قرية كونية، غير أن واقع الحال، لاسيما مع الإنفجار التكنولوجي، جعل من البشرية أسرة واحدة، تعيش في حارة ضيّقة، تلاشت فيها الحدود، وسقطت السدود.

بدأ ذلك المشهد مع انهيار حائط برلين، وأنفجر المشهد مع سيادة وريادة العالم السيبراني.

إلا أن كورونا أصابت فكر التواصل العولمي في القلب، فبعد ثلاثة أشهر من تفشي الفيروس، تبدو العودة إلى فكرة الدولة القومية، الخيار الأكثر ترجيحا، في مواجهة طرح العولمة والديمقراطية الكونية.

جاء كورونا ليعزز من طرح القوميات، حتى وإن لم تكن بالضرورة متطرفة، حيث ستتبنى الحكومات بجميع أنواعها إجراءات طارئة لإدارة الأزمة، وسيكره الكثيرون التخلي عن هذه الإجراءات الجديدة عند انتهاء الأزمة.

يقرأ "ستيفن والت" قادم الأيام، فيرى أن فيروس كورونا، سيخلق عالما أقل انفتاحا، وأقل إزدهارا وأقل حرية، إنها العولمة في الداخل الأميركي، قبل أي مكان آخر، هذا ما يؤكده "كيشور محبوباني"، الذي يقطع بأن الشعب الأميركي فقد ثقته في العولمة والتجارة الدولية.

فيروس كورونا، وبحسب "شانون أونيل" زميلة مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك، ترى أنه سيقوّض المبادئ الأساسية للصناعة العالمية، حيث ستعيد الشركات التفكير في تقليص خطوط الإمداد والتوريد متعددة الخطوات، ومتعددة البلدان، التي تهيمن على الإنتاج اليوم.

بدأ التفكير الأممي ينعكس إلى داخل "حارتنا  البشرية"، إقليميا، وتاليا سيضحى محليا.

خذ إليك على سبيل المثال ما كتبه "شيفشا نكارمينون" الدبلوماسي الهندي ومستشار الأمن القومي السابق في بلاده، من أن الآسيويين قد أتفقوا على عقد مؤتمر عبر الفيديو لجميع قادة جنوب آسيا لصياغة استجابة إقليمية مشتركة، ما يعني أن وباء  كورونا قد أفرز اهتماما مناطقيا، في مواجهة الإنعزال المعولم، وتحول الغرب تحديدا إلى جزر، ما يعني أن كونفوشيوس ونظرته الجماعية، تكسب في مقابل أرسطو حجر زاوية  الغرب ورؤيته الفردانية...

إنها بداية ونهاية، وإن كانت القصة بعد في مبتدئها.

المزيد من تحلیل