"ابْقَي في البيت/ القُبلات في الفريزر وفوق الرّف/ الأحضان بلا أجنحة/ الحياة معطلة في المقهى/ والسوبر ماركت/ وفوق الأرصفة/ من الصعب أن أتنفس صفاءك أو ضجركِ/ أضاعف رغبتي فيكِ/ كل شيء عن بُعد/ ابقي في البيت/ لا بأس أن نصنع كمامة للجسد/ نمنحه علامة مائية/ ربما يفكّ حبالَ متاهته/ لا بأس أن نعتقل الهواءَ/ نُحدِّد إقامته فوق الأريكة/ أو في الشرفة/ نعلِّمه كيف تعطشُ الموسيقى/ كيف يجفّ اللحن.../ هذا زمن الكورونا/ علينا أن نبحث عن تمارين أخرى/ تشبه النوم/ أو الحلم/ أو الجنس/ ربما نتذكر كم كنا قُساةً/ ونحن نرضع من ثدي هذه الأرض/ ونحن نتخفَّى في ثوب البشر".
شعر جمال القصاص
البيت أيقونة الحياة مرة ثانية، ما تُهنا عنه لزمن في الشوارع الصاخبة، وفي دهاليز الإنترنت. البيت المأوى بات المُنقذ من الضلالة. الجبل الذي يؤوينا، حين لا مأوى، أن نضل الطريق، حين نقاد إلى الساحات، يمسك بزمامنا الساسة، وفي متاهة الملاعب نسكب اللبن. البيت الشعر، ما نلقاه حين مسغبة، الشاعر من يتنبه أن البيت الرحم، رحم البشرية، ما أعجز الأهوال والديناصورات. فالكورونا، أن تقتحمه، ملاذنا الأول والأخير. فالبيت "كمامة الجسد"، يقول جمال القصاص، وأننا كنا قساة على بيتنا الكبير "الأرض"، و"نحن نتخفى في ثوب البشر". من دون بيتنا نحن لسنا بشراً، هكذا يفضح الشاعر وضوحنا البشع. بسلاسة ويسر، يُعيدنا إلى الغامض فينا، أننا نحيا أكثر إن هددنا الموت، المتقنع بالكورونا، هذه المرة.
أن ننثر الشعر، أن نستيقظ من وله بـ"جري الوحوش"، أن نشعر بالبشرية، من لزوم ما يلزم، أن نبات في بيت، بيسر العسر تكون العودة المأمونة، العود الأبدي، سنبذل الغالي والرخيص، وقد بذلنا لأجل العودة، وجسر العودة ليس الحروب التي اخترعنا. فحتى حبيبتنا هيروشيما، لم توقظنا من الذل الذي تلبسنا. " هذا زمن الكورونا/ علينا أن نبحث عن تمارين أخرى/ تشبه النوم/ أو الحلم/ أو الجنس"، تمارين أخرى في زمن الكورونا، يمارسها الشاعر جمال القصاص في البيت، حيث تسنى لنا، ما لم يتسن، فإن لم نمارس الحياة، حق علينا الموت الزؤام.
ابقي في البيت، من أجل الحياة: "القبلات في الفريزر وفوق الرّف/ الأحضان بلا أجنحة..."، شعرية جمال القصاص، تقتنص اللحظة الاستثنائية هذه، وتتخذ اللغة السبرانية صهوة للاختزال وتكثيف الحالة البشرية، وقد تلبستها الكورونا، كما فيروس الحياة، فلا وقت للموت، واليأس من ترف، في اللحظة المقتنصة هذه، شعرية "ابْقَي في البيت"، حيث البين بين الحالة الإنسانية الآن، حيث الغموض يتجلي، تكون شعرية "ابْقَي في البيت"، ما يكتبها جمال القصاص، من هو شاعر البساطة والتأني والتؤدة، العارف أن الشعر، يكمن في دفء البيت، ما تنثر الساحات، وتبدده السرديات الكبرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما أقصر الطريق إلى البيت، إلى الأرض، الحياة. الشاعر يرى في "الكورونا" البصيرة، لنُبصر سر الروح في البيت، لتبقي "ابْقَي في البيت"، هذه الحقيقة تنثرها اللحظة الصعبة، التي يعيشها البشر الولهون في غبطة، بتدمير بيتهم الكبير. الشاعر يقتنص، من الجملة القصيرة التيلة، الدلالة الكلية، فمفردة "البيت" الدال، والمدلول "الكورونا"، ما ربما يفُكّ حبالَ متاهة البشرية، وقماشة القصيدة منسوجة، بعفو الحالة الشعرية، حيث الموت والحياة متلازمان في اللحظة، هذه اللحظة الشعرية بامتياز: "لا بأس أن نعتقل الهواءَ/ نحدِّد إقامته فوق الأريكة/ أو في الشرفة/ نعلِّمه كيف تعطشُ الموسيقى"، مفردة "لا بأس" مشحونة بالتناقض، وتسيغ صياغة الجملة التالية المركبة: نعتقل الهواء، نحدد أقامته، نعلمه عطش الموسيقى، فيجوز ما لا يجوز في هذه الحالة، حيث ليس كل شيء على ما يرام، لكن بالامكان أن نبدع.
"ابْقَي في البيت"، الجملة التي تردد الأفواه، المضاد الحيوي، لما يجول في رقعة الشارع، تكون النأمة ما ينسج الشاعر، وما يُطرز بها نسيجه الشعري، الحامل للتضاد بين البيت والكورونا، بين الموت والحياة، بين العبث البشري بالأرض، وبين اللحظة الاستثنائية المفارقة. "ابْقَي في البيت"، فعل الأمر، ما يصدره الشاعر جمال القصاص، وما يصدر شعريته العفوية الآن وهنا، في "زمن الكورونا" ما هو ليس "زمن الكوليرا".
زمن الكوليرا بطيء، شكلته حروب كالحرب الكبرى الثانية، ووباء كالإنفلونزا الإسبانية، حيث كان البشر شعوباً وقبائل، والأرض قارات وعواصم كبرى بعدد أصابع اليد، والإمبريالية سيدة الموقف. عقب هيروشيما اختزلت الأرض، مع زمن الكورونا/ الافتراضي، صارت الأرض بيتاً واحداً، والبشر في العصرالسبراني، صاروا شعباً واحداً، يسكن بيتاً متعدد الغرف.
"ابْقَي في البيت"، يقول الشاعر...