في إجراءٍ غير مسبوق، قرر بنك إنجلترا (المركزي) البريطاني خفض الفائدة بمقدار 15 نقطة أساس من 0.25 في المئة إلى 0.1 في المئة، وهو أدنى مستوى لمعدل الفائدة في بريطانيا منذ تأسيس البنك خلال القرن السابع عشر.
ولم ينتظر البنك موعد الاجتماع الدوري للجنة السياسات النقدية يوم الخميس الـ26 من مارس (آذار) ليتخذ قراره بخفض الفائدة، وأيضاً زيادة كبيرة في التيسير الكمي برفع معدل شراء البنك سندات الدين الحكومي والخاص بأكثر من ربع تريليون دولار (200 مليار جنيه إسترليني)، ليصل ما بحوزته من سندات دين إلى أكثر من ثلاثة أرباع التريليون دولار (645 مليار جنيه إسترليني).
وتزامن قرار بنك إنجلترا مع قرار البنك المركزي الأوروبي، المسؤول عن السياسة النقدية لمنطقة اليورو، زيادة حزمة التيسير الكميّ برفع معدل شرائه للسندات في دول الاتحاد الأوروبي بأكثر من 800 مليار دولار (750 مليار يورو).
وجاء التحرّك القوي من قِبل المصرفَين المركزيَين بعد عدة إعلانات من الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بخفض الفائدة مرتين وزيادة التيسير الكمي بمئات مليارات الدولار. ومع أنّ التأثير المباشر لقرارات الخميس كان مشجعاً في البداية لأسواق المال، فإنه ما لبث وخفّت بسرعة وسط استمرار مخاوف المستثمرين بأن إجراءات البنوك المركزية ليست كافية لدعم الاقتصاد العالمي لمواجهة التبعات الاقتصادية لأزمة تفشي وباء فيروس كورونا (كوفيد 19).
استمرار المخاوف
رد الفعل الأوليّ على قرار بنك إنجلترا كان استعادة العملة البريطانية، الجنيه الإسترليني، استقرارها بعد هبوطها أمام الدولار الأربعاء إلى أدنى مستوى لها منذ 1985، وهو تصرّف عكس المنطق الاقتصادي التقليدي، إذ إن العملة الوطنية ينخفض سعرها مع خفض الفائدة عليها، لكن الأسواق الآن في ظل أزمة تفشي الوباء لا تتصرّف بمنطق، ويغلب عليها الذعر والهلع.
أسواق الأسهم ردّت على قرارات المركزي البريطاني والأوروبي بالارتفاع قليلاً، لكن من دون تفاؤل كبير في الأسواق، كما حدث مع قرارات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي المتتالية في الأسابيع الأخيرة.
ويرجع كثيرٌ من المحللين ذلك إلى أنّ المستثمرين ينظرون إلى إجراءات البنوك المركزية على أنها "إطلاق آخر ما لديها من ذخيرة" لمواجهة الأزمة.
يضاف إلى ذلك أن عمليات الإغلاق وتوقّف الأعمال في قطاعات اقتصادية كثيرة حول العالم مستمرة وتتصاعد مع عدم يقين بأن قمة أزمة تفشي الوباء لم تأتِ بعد.
ورغم أن قادة دول الاقتصادات المتقدمة، مثل الرئيس الأميركي دونالد ترمب ورئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، يتحدثون عن نحو 12 أسبوعاً حتى يهدأ تفشي الوباء فإنّ الأسواق تتخوّف من أنّ الأمر ربما يطول، ولا يمكن توقّع تأثير تلك الأشهر في الاقتصاد العالمي.
ويكاد يُجمع الاقتصاديون والخبراء على أن إجراءات البنوك المركزية ربما لا تفلح في وقف احتمال دخول الاقتصاد في ركود، خصوصاً الاقتصاد البريطاني واقتصاد دول اليورو وبقية الدول المتقدمة اقتصادياً. ذلك على الرغم من أن بنك إنجلترا أشار إلى أنّ إجراءه الأخير ليس النهاية، وأن البنك مستعد للتحرك بشكل أكبر.
الأزمة مختلفة
أقصى ما يؤمل من إجراءات البنوك المركزية هو أن تخفف من حدة زيادة معدلات البطالة، وتساعد على التعافي الاقتصادي السريع، ما إن تنتهي فترة حدة انتشار وباء كورونا. لكن ذلك أيضاً يبقى مرهوناً بالمدة التي سيظل العالم فيها "مغلقاً"، والأعمال معطّلة حتى يبدأ منحنى أزمة الوباء في الهبوط.
ويرى بعض الاقتصاديين أنّ البنوك المركزية، وحتى الحكومات، تتصرّف بالطريقة ذاتها التي تصرّفت بها في الأزمة المالية العالمية في 2008 - 2009، وذلك ما يجعل تأثير إجراءاتها التي تبدو كبيرة فعلاً ضعيفاً على الأسواق والاقتصاد عموماً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فخفض سعر الفائدة والتيسير الكمي، أي طرح النقد الإلكتروني بشراء سندات الدين أو النقد المطبوع لإقراض الأعمال ليس الحل الأمثل، لأن الأزمة الحالية مختلفة. فالأزمة السابقة كانت أزمة سيولة وانكماش ائتماني، لذا أفادت السياسات النقدية وعمليات الإنقاذ الحكومية إلى حدّ ما.
إنما الأزمة الحالية أزمة توقف أعمال وإنتاج، وبالتالي تسريح عمال وزيادة معدلات بطالة، بل وشبه توقف لقطاعات بالكامل نتيجة التوسع في إغلاق المدن والمناطق والحجر الصحي على البلاد بالكامل تقريباً.
وربما يتطلب ذلك في رأي البعض إلغاء الديون بشكل كامل، أو الإعفاء من سداد أقساطها أو فوائدها، وكذلك تقديم المساعدة المباشرة للعاملين المعطّلين والأسر المتضررة للحفاظ على الإنفاق الاستهلاكي. إلا أنّ هذا الإنفاق أيضاً يتأثر سلباً بعمليات الإغلاق والحجر وتخوّف الناس من تفشي الوباء.
كما أنّ إجراءات البنوك المركزية والحكومات إنما تفيد أكثر الشركات الكبيرة التي يمكنها ضبط دفاترها نتيجة انخفاض الفائدة وشراء البنوك المركزية سندات ديونها، وكذلك حصتها من الدعم الحكومي للحفاظ على قدر من العمالة فيها.
بينما مَنْ هم في حاجة أكبر إلى الدعم والمساعدة القوية الأعمال الصغيرة والمتوسطة وأصحاب المهن الحرة الذين تعتمد أعمالهم على حركة الناس والنشاط الاقتصادي الأوسع شبه المعطّل الآن.